“صفعات” باريسية!
الشعب الجزائري البائس مرّة أخرى كان على موعد مع زيارة تأكيد الطاعة و الولاء التي حلّ فيها عليه حاكم باريس المفدى كما فعل سلفيْه من قبل شيراك و ساركو. و تلك بدعة، و كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة صاحبها في نار جهنم، و لن ترحمه نار التاريخ و لو بعد حين..
بغباء ممّن ابتدع هذه البدعة أو لغرض في نفسه، تحوّلت الجزائر مجرّد ولاية تأتمر بأوامر الإليزي حتّى أصبحت المرادية مجرّد إدارة إقليمية لعامل باريس على الجزائر. غير أنّ الحاكم عادة ما يزور عمّاله ليعاين ما أنجز أو يؤنّب أو يوبّخ، بل يعاقب أيضًا من يستحق ذلك من أجل تحقيق المصلحة العامّة.
و الحال على غير هذا النحو في هذا المقام، فالزيارات التي شهدتها جزائر العزّة و الكرامة كلّها تخدم فرنسا بشكل حصري في تاريخها الأسود الذي تظل متشبثة به و ممجّدة له، و ذلك ما ترجمته زيارة “المسيو جاك” التي توّجتها جمعيته العمومية (البرلمان الفرنسي) بقانون 23 فبراير الذي كان بمثابة حرق عمدي لأمجادنا و مآثر ثورتنا و جلد لرفات أبطالنا الشهداء و إهانة لأبنائهم و أحفاده و عامّة الجزائريين البعيدين عن تلك السّلطة.
و كذلك كانت زيارة الصهيوني ساركو الذي قال لنا جميعًا في الجزائر و بمنتهى الصراحة الممزوجة بالوقاحة لا أريد أي نوتة نشاز في المعزوفة الهادئة التي يريحني سماعها من الجزائر، و قد كان له ذلك. حيث انخفض صوت النوتة النشاز لدى البعض من التعويض المادي و المعنوي إلى مجرّد الاعتذار المعنوي، بحكم أنّه لا يمكن قلب ما يعتبر حقائق و ثوابت في عرف فرنسا، و هي أنّها “تأخذ فقط و الجزائر تعطي فقط”.. و أنّ الخير يصعد “جنوب- شمال” و لا ينزل “شمال- جنوب”.
بوتفليقة و هولاند.. مستقبل بلا ماضٍ؟
و كذلك فعل الفريق الثالث و خفّض سقف مطالبه من الاعتذار إلى مجرّد الاعتراف لتحقيق نصر وهمي عجزت الدولة الجزائرية عن تحقيق مثله منذ الاستقلال، اللّهم إلّا إذا استثنينا انتصار رفاق بطروني في عام 1975 في الألعاب المتوسّطية على مرأى من الرّاحل هواري بومدين. و يريد هذا الفريق أو اللّفيف بمعنى أصح أن يكون اعتراف فرنسا نصرًا له يمكّنه من نيل شرف لا يستحقه من بني جلدته الجزائريين، و هم أوعى من أن يستغبيهم حاكم الإليزي فضلًا عن ولّاته. و يمكّن في الآن نفسه فرنسا من تقديم نفسها في ثوب المقّر بذنبه بعد خلع ثوب الجاني و مسح البصمات التي على أدوات الجريمة المادية و المعنوية في أنامل عظام سفّاحيها من أمثال أوساريس و موريس بابون، و على الشعب الجزائري حينها أن يكتفي بالدّعاء على جلّاديه من الفرنسيين في الثورة التحريرية كما يدعي على خلفائهم من الجزائريين بعد الثورة، مادام غير قادر على الانتقام منهم و ردّ مظالمه، فتكون فرنسا قد تحوّلت بجرّة قلم إلى ولي حميم بعدما كانت عدوّا لدودًا.
أمّا اللّفيف الثالث فهم أولئك المحسوبين على الجزائريين من واقع الوثائق التي لا تثبت أكثر من الانتماء الإداري المجسّد ببطاقات الهوية و جوازات السفر، و بينهم الكثير من “آكلي غلّة البلاد و سابي ملّتها”. و هم أكثر المستفيدين من خيرات الجزائر و أكثر المعادين لها في آنٍ معًا.. هؤلاء يزعجهم نبش الملفات التاريخية بين البلدين أكثر ممّا يزعج باريس و حكّامها أنفسهم، من حيث النبش الذي قد يجرّهم إلى ما جرّ إليه حسني مبارك صاغرًا في أرذل أعمارهم، و من حيث إفرازات هذا النبش الذي قد يؤدّي إلى التنافر بين البلدين فيحرمهم من منتجعات باريس و عطورها و فنادقها، و شواطئ “الأزور” و تسكّعات “الشونزيليزي” و السّهرات الحمراء مع الشقراوات الغاليات..
هذا هو محور العلاقات الفرنسية الجزائرية، و هذه هي المصالح المستفادة من تقويتها، بخلاف ما يريده الفرنسيون من حرصهم على التشبث بمستعمرتهم السّابقة و عملائهم الحاليون. و لا يثنيها ثانٍ و لا ثالث عن تحقيق ما تصبو إليه و تعمل عليه، بل إنّها كلّما حققت هدفًا في مسعاها طوّرت هجومها التكتيكي إستراتيجيًا لتحقّق له صنو تاريخي، على غرار المطالبة بما تعتبره حقوقًا مغتصبة من اليهود و الأقدام السّود، و لا يعوزها ما تساوم به و تبتز، و خير دليل على ذلك – أو شرّ دليل – زيارة فرانسوا هولاند هذه التي جمعته بـ”نوّام” غرفتي مبنى زيغود يوسف ليتلو على مسامعهم في لحظة شغف و إنصات منهم – نادرًا ما نراهم عليها- و كأنّي به يقول للحكومة الجزائرية و برلمانها أنّ على الجزائر نسيان ما فعلت فرنسا في حق هذا الشعب على مدار 132 سنة.
لذا فزيارة عاهل “الفرنجة” يجب أن تجّب ما قبلها من جرائم و تمحوها، و إلّا فلباريس ما تقول و تفعل بملفات لا تسر الناظرين و لا السّامعين، و يحيق وبالها عليهم أجمعين، من قبيل ملفات حقوق اليهود و الأقدام السّود التي تضع الدولة الجزائريين في مواجهة المجتمع الدولي أو من قبيل “كليشي” قضية رهبان “تيبحرين” التي أضحت في يد فرنسا كالبطاقة الصفراء في يد حكم مباراة كرة القدم، ما تشهر في وجه اللّاعب تقلّم أظافره و تطفئ حماسة اندفاعه. لأنّ ما يليها سيكون أحمرًا يخرجه من الملعب ثمّ تلاحقه العقوبات الإدارية بعد الطرد.