الإعتدال و التطرف
الإعتدال والتطرف
إن حرب الغرب على الإسلام تأخذ وجوها مختلفة ، وتدخل مجالات متنوعة ، يجمعها القيام بكل ما من شأنه أن يبعده عن واقع الحياة . ولم تقتصر الحملة على تشويه صورته ، وهدم خلافته ، والطعن في أحكامه ، وتصويره بأنه رسم قد عفا عليه الزمن .. بل تشتمل على كل ما يمكن ان يعيده إلى قيادة العالم من جديد. فالخوف عندهم دائم من الإسلام ، لذلك كان الكيد له لا يفتر لئلا يسُحب البساطُ من تحت أرجلهم إذا عادت للمسلمين كرتهم .
فالغرب ينظر الى المسلمين على أنهم أمة حية بإسلامها وأن دينهم دين عالمي ، يصلح للبشر ويُصلحهم وأن نفوسهم تتطلع بشكل دائم إلى الوحدة . وأن مواقع دولهم المتفرقة ستصبح موقع دولة إستراتيجية واحدة تمسك بخواصر القارات وتطل عليها.وإنهم يقبعون على ثروات ضخمة تفيض عن حاجة دولة كبرى لتجعلها دولة أولى . وإن عددهم يقارب ثلث سكان العالم .. وإن همهم ، إن أظهرهم الله ليس القتل ونهب خيرات البلاد التي يفتحونها بل فتح القلوب ، وإخراج الناس ، كل الناس ، من عِماية الكفر إلى هداية الإسلام ، وفي قناعة الواحد منهم أن إدخال رجل واحد في الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها .
لذلك يشهد الإسلام كثيراً من الكيد على أحكامه وعلى العاملين المخلصين له لإبعاد تأثيره في أهله، وفي غير أهله. وهذا الكيد يتناسب مع حجم الخطر الذي يشعرون به .
ولولا أن الإسلام هو دين الله الحق ، لنمحى ، واندرس ، وصار أثرا بعد عين . ولكن إرادة الله ماضية، ومشيئته غالبة، فقد بقي المسلمون على ولائهم لدينهم في أشد أيامهم انحطاطا، إلا أن الغرب نجح في جعل مقاييسهم خاطئة، ومفاهيمهم مغلوطة، وعقليتهم فاسدة .. ذلك أنه في حروبه الصليبية الأولى أن الإسلام متمكن في نفوس المسلمين، وأنه أقوى بكثير من أية محاولة لانتزاعه، لذلك غير خططه في حربه الصليبية الثانية، التي ما زلنا نعاني من ويلاتها، وجعلها تقوم على إبعاد المسلمين عن دينهم وعلى نشر مفاهيمه وقناعاته ومقاييسه الفكرية ليضمن سيطرته المادية ، فأوجد التبعية الفكرية له أولا، ثم أتبعها بسيطرته المادية . ثم غرس حكاماً وأحاطهم بوسط سياسي وفكري فاسد . ثم راح يربط الدول فيه عن طريق جعل سياسة دول العالم تسير باتجاه واحد لتحقيق مصالحه، وعن طريق جعل العالم كأنه شركة مساهمة يكون فيها هو الممول والمنتج، وتشكل فيه الدول الأخرى الطبقة العاملة والمستهلكة. وأحاط العالم بشبكات إعلامية ضخمة جعل فيها شبكات الدول الأخرى الإعلامية تابعة لها ، ويريد بذلك أن لا نقرأ إلا ما كتبه ، ولا نسمع إلا ما يذيعه، ولا نشاهد إلا ما يبثه، ولا نتحدث ونفهم الأمور إلا على ضوء ما يريد .
إنه استعمار جديد، متطور، أشد وأدهى من الإستعمار القديم . فالاستعمار القديم كان يحتل الإنسان من الخارج بينما الجديد يحتل نصفه الداخلي ونصفه الخارجي، ليجعل التبعية مطلقة له، ولا يهددها شيء .
حتى ديننا ، فإن الغرب يريد أن يفهمنا إياه على طريقته . ومن يشذّ عن نظرته تلك فإنه يجنّد وسائل إعلامه هذه ضده. فتصوره بصورة الشاذ الذي يريد أن يخرق الأعراف، ويخرج عن المعهود، ويشق الإجماع، وينعته بنعوت التطرف والإرهاب، والأصولية والتشدد، ويصفه بأنه عدو للإنسانية وظلامي لا يألف العيش إلا في الظلام ، وعدائي يثير في طرحه العداوات والحزازات . وبعد أن يُشوه الصورة ويقلب الحقيقة تقوم الأنظمة بضربه، على اعتبار أنه يستحق الضرب. معتمدين في كل هذا على غفلة الناس عن إدراك الحقائق ، ومستعينين بعلماء يباركون كل أعمال الغرب .. ولكن ما نشاهده اليوم من صحوة بدأت تدب في جسم الأمة جعلت المهمة عليهم صعبة ، وجعلت الأمة تنظر إلى الغرب والحكام والعلماء نظرة واحدة . فصارت تنظر للغرب على أنه شيطان وأن الحكام هم مريدوه ، وأن هؤلاء العلماء لم يتسنموا مراكزهم إلا بمقدار ما أهدروا من كرامة الدين على عتبات الحكام، وأنهم علماء لحالة الإنحطاط ، وأنهم سينتهون بانتهائها، وأن لعصر النهضة الإسلامية الصحيحة علماءها الشعث الغبر ، الأتقياء، الصادقين .
إننا اليوم في مرحلة يعيش فيها الغرب والحكام خوفاً فعلياً من عودة الإسلام ، لذلك نراهم يتحسسون من كل طرح إسلامي يشكل خطراً عليهم ، ويعملون على محاصرته ورميه بشتى التهم ، واستخدام أبواق الإعلام والدعاية ضده وتسخير أفواه العلماء لمواجهته .
لذلك وصفوا كل حركة إسلامية تطالب بالإسلام وحده بأنها متطرفة، وإرهابية، وقام علماء مسلمون، وكتاب قوميون ووطنيون بتأليف المؤلفات وإلقاء المحاضرات عن نبذ التطرف والدعوة إلى الاعتدال. وكلهم ينطلقون من منطلق واحد في النظرة إلى هذا الموضوع وهي نظرة الغرب فحسب . ولولا أن هناك علماء مسلمين يشاركون في هذه المعمعة ويحاولون أن يضفوا على طرح الغرب هذا شرعية ، ووجهاً مقبولاً لما كلّفنا أنفسنا عناء الرد . لأن الآخرين ليس لهم وزن عند الأمة ، شأنهم شأن الحكام ، بل قد يؤدي هجومهم إلى رد فعل معاكس لما يريدون . حتى إن هؤلاء العلماء أنفسهم بدأوا ينعزلون عن الأمة ، وبدأت الأمة تدير لهم ظهرها من كثرة تبريراتهم التي لا تحمل وجه الحق ، وفتاويهم التي تخرج عن الأصول الشرعية المنضبطة ، والتي جاءت في آخر مراحلها لا لتخالف فهماً إسلامياً فحسب بل لتعطل نصوصاً شرعية اتفقت الأمة على ثبوتها والعمل بها. وقد وصل الأمر ببعض هذه الفتاوى أنها راحت تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف ، والعياذ بالله .
وكل هذه الحمية التي يظهرها العلماء عند طرح أفكارهم الغريبة عن الإسلام ، الدخيلة عليه ، هي ليس لإرضاء الله بل لإرضاء الحكام وأسيادهم ، وإنهم وإن أظهروا الحرص على المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية في طروحاتهم هذه فإن الأمة صارت تدرك خطر تلك الأفكار ، واعوجاج أصحابها .
والان وبعد هذه المقدمة ، التي لا بد منها لإدراك حقيقة طرح موضوع ” التطرف والاعتدال ” لابد من طرحه من منظور إسلامي ليعلم المسلمون الحق من غير لبس ، لأنها لا تكفي المشاعر وحدها في تحديد الموقف . وإننا كعادتنا سنجري في معالجة هذا الموضوع بحسب الأصول الشرعية ، ليكون منسجما مع أساس الإسلام ، وهو العقيدة الإسلامية .
جاء الإسلام ليعالج الإنسان ككل .فعالج علاقته بنفسه عن طريق الأخلاق والمطعومات والملبوسات ، وعالج علاقته بغيره من الناس عن طريق المعاملات والعقوبات ، وعالج علاقته بخالقه عن طريق العقائد والعبادات. لذلك كان الإسلام شاملا بمعالجاته لكل أعمال الإنسان . فهو فكر كلي يمكنه الإجابة عن كل ما يتعلق بشئون الحياة .
ثم إن بناء الإسلام بناء متكامل يقوم على أساس تنبثق عنه كل معالجة ويبنى عليه كل فكر . لذلك كانت مفاهيم الإسلام وقناعاته ومقاييسه كلها من جنس فكره الأساسي . وتفصيل ذلك أن الإسلام يقوم على أساس إيمان المسلم بان الله هو الخالق المدبر وأن الإنسان ضعيف وعاجز ومحتاج وناقص ومحدود، وانه يعجز عن المعالجة . لذلك أرسل رسوله ليعلم الناس من هو الله المعبود وكيف تكون عبادته ، وما يترتب على العبادة أو عدم العبادة من ثواب أو عقاب في الحياة الآخرة . فنشا عند المسلم من هذا المقياس لكل أعماله وهو مقياس الحلال والحرام . وصار عقله يعمل لا ليكون حكما على النصوص التشريعية ، ولا ليشرع مع النصوص ، بل يعمل فقط على فهم ما تدل عليه النصوص . النصوص التي تعالج هي من الله ، والإنسان مهمته أن يفهم هذه النصوص ليلتزم بها ، وهو قد يخطئ فهم ما يريده الله أو يصيب ، وهو في الحالتين مأجور شرط أن يكون خاضعا لطريقة الاجتهاد الشرعية . ومن هنا جاء اهتمام المسلمين البالغ بإثبات النصوص ، والذي نتج عنه علم الحديث ، واهتمامهم البالغ بفهم النصوص والذي نشا علم أصول الفقه ، والذي من قواعده ( أن الله هو الحاكم ) و( الأصل في الأفعال والأشياء التقيد بالدليل الشرعي ) و( أن الخير هو ما أرضى الله ، وان الشر هو ما أسخطه ) و ( أن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ) .
وكذلك نرى أن المسلم يؤمن بأن سعادته يحصل عليها بنوال رضوان الله . وأن اطمئنانه واستقراره يقومان على إشباع حاجاته و غرائزه بناء على إيمانه بالله وتقيده بشرعه . وهكذا نرى أن بناء الإسلام كامل متكامل أفكاره كلها متجانسة ، وتقوم على أساس واحد .فما أقره هذا الأساس أخذ وإلا ترك .
وما ينطبق على الإسلام كمبدأ ، ينطبق على الفكر الرأسمالي لأنه كذلك فكر مبدئي ، وبناؤه الفكري متجانس مع بعضه ، وهو إما أن يؤخذ كله أو يترك كله . وتشكل فكرة فصل الدين عن الحياة الأساس الذي انبثقت عنه كل معالجاته ، وبنيت عليه كل أفكاره .
وفكرة ( فصل الدين عن الحياة ) التي قامت على الحل الوسط أدت إلى اعتبار أن الإنسان سيد نفسه ، وحتى يكون سيد نفسه لابد ان تبعد عنه كل وصاية ، ولا يكون ذلك إلا بان يمارس حرياته الأربع بنفسه ، فنشأت عنده فكرة الحريات . وهي لها عنده مفهوم معين .وان يكون سيد نفسه فمعناه أن يسعى لتامين حاجاته الأصلية بحسب نظرته هو من غير آن تحكمه أية نظرة خارجية من دين أو غيره ، فنشأت عنده فكرة الديمقراطية . ويعتبر الذي يعتنق فكرة ( فصل الدين عن الحياة ) أن سعادته يحصل عليها بحصوله على أكبر قدر ممكن من اللذة . وصار ما يدركه عقله ( لأن عقله هو المشرع ) أنه مصلحة ، هو مقصود بأعماله .
وعندما يكون الفكر منسجما فإنه لا يقبل الاختلاط ، والإختلاط بالمعنى الشرعي يعني الشرك ، سواء أكان شركا كفريا ، أو شرك معصية .
فكما أن الإسلام لا يقبل الديمقراطية لأن الديمقراطية هي حكم الشعب ، بينما الحكم في الإسلام للشرع ، كذلك فان الفكر الرأسمالي لا يقبل أن يصل الإسلام إلى الحكم ، لأن في وصول الإسلام إلى الحكم إلغاء للديمقراطية ولكل المفاهيم الناتجة عنها.
ولهذا فإننا نرى أن الغرب يكافح الطروحات الإسلامية الجذرية ويحارب الحركات الإسلامية العاملة للوصول إلى الحكم .ويرى أنها تشكل خطرا عليه وتقضي عليه من الأساس .
ومن هذا المنطلق فانه يحاربها ويعاديها ويرى فيها أنها خصمه اللدود . وينعتها بمختلف النعوت . فينعتها بالأصولية لأنها تنطلق من أصول لا تقر بوجوده ، والمتطرفة لأنها لا تقبل التعامل معه لعدم وجود أمور مشتركة بينهما ، وبالمتشددة لأنها لا تحابي طرحه ولا تحترم وجوده . ولو أنعمنا النظر لرأينا أن ما يصف به غيره هو غارق فيه حتى أذنيه . ويمكن وصفه بما وصف به غيره ، فهو من منطلقه يعتبر انه أصولي لانه ينطلق من أصل يؤمن به ولايقبل بأصل غيره ينافسه . مع أن فكرته التي تقول بالديمقراطية تسمح للآخرين بالوصول طالما أن الناس هم الذين يختارون . ويعتبر كذلك متطرفا وإرهابيا ومتشددا لانه لا يحترم وجود الإسلام السياسي ولا يقبل التعامل معه ولا يمكنه الالتقاء معه على أمور مشتركة. ولكل من خالف مبدأه أوقع نفسه فيما يصف به الآخرين . فأية ديمقراطية هذه التي تلغي الإنتخابات وهي الطريقة التي تعبر بنظره عن إرادة الشعب لتفرض بدلها دكتاتورية الحكام .
من هنا ، فإننا إذا أردنا أن نحكم على فكرة أنها صحيحة أو خاطئة فما علينا إلا أن نردها إلى إصلها ، ونحاكمها ثم نحكم عليها من خلال هذا الأصل ، ولا يمكننا أن نحاكم أية فكرة جزئية من خلال أصل غيرها . فلا يمكننا أن نقول أن السعادة في الإسلام مثلاً يجب أن تكون قائمة على تحصيل اللذة ، ولا نستطيع القول كذلك إن المسلم يؤمن بالحريات التي يؤمن بها الغرب ، لأن الإسلام لا يقر ذلك ولا يقبل به ، ومن رضي بالإسلام كأساس عليه أن يرضى بما ينبثق عنه ، وأن يأخذ الإسلام كله ، لأن ترك بعضه مثل تركه كله ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة -85).
ومن هذا المنطلق نرفض أن يأتي الكلام من دول الغرب بأن الإسلام دين الاعتدال وبأنه يرفض التطرف فهو كلام حق يراد به باطل ، لأنه ينطلق من أساسه الفاسد .
فالتطرف أو الغلو أو الإسراف أو الإفراط ، لها معنىً شرعي إذا خالفه المسلم يقع في الحرام وكذلك فإن الاعتدال أو الاقتصاد أو الاستقامة أو الوسطية لها معناها الشرعي الذي يجب على المسلم التزامه. والأمر نفسه في التفريط والتساهل . فإننا إذا أردنا أن نعرف حكم الشرع بها فإنه لا يمكننا أن ننطلق من المفاهيم والمقاييس التي يؤمن بها الرأسمالي للحكم عليها ، فهذا حرام ، وهذا فيه خدمة للغرب وفكره ، وفيه تحاكم لغير الإسلام للحكم على الإسلام ومفاهيمه .
هناك كثير من الأحكام الشرعية التي يجب على المسلم القيام بها ويأثم بتركها ويعتبرها الغرب بأنها تطرف وتشدد وإرهاب . وذلك كالجهاد في سبيل الله ، والعمل لإقامة الخلافة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يشمل فيما يشمل الحكام ومقاومة الكفر ونشر الدعوة ، ونبذ الديمقراطية ، وحرمة التعامل بالربا ، ولباس المرأة للحجاب ، وغيره الكثير من الفروض التي يجب على المسلم الالتزام بها .. فهل يجوز لنا أن نحاكمها من خلال فكر الغرب الفاسد النتن الذي لم يحمل الخير لأتباعه فكيف يحمله لغيرهم ، وهل يجوز للمسلمين أن يقولوا بقوله ؟
وعلى هذا فإننا يجب أن نرفض طرح الغرب لفكرة التطرف والاعتدال . ويجب أن نرفض تدخله في أمور ديننا . لذلك فإن البحث هذا لم ينطلق من منطلق شرعي ابتداء بل من موقف سياسي يعمل على تكريس توجه عند الأمة يناسب الغرب ، إنه بحث يتعلق باستمرار استعمار العقول .
والآن لننتقل إلى معرفة رأي الإسلام بهذا الموضوع من منطلق شرعي يخدم الدعوة ويقرب من الله :
المغالاة أو الغلو هو الزيادة والمبالغة . والمغالاة في التدين هي التشدد والتصلب في مجاوزة الحد المطلوب والمقدر شرعاً . ويسمى كذلك الإفراط . ويقابله التفريط من فرّط في الأمر فرطاً أي قصّر به وضيعه وقدم العجز فيه . والتفريط في التدين هو التقصير في أحكامه وتضييع حقوقه ، وإظهار العجز عن القيام بواجباته ومن هنا نشأت مقولة أن ( لا إفراط ولا تفريط في الإسلام ) .
أما الاقتصاد فهو في التوسط والاعتدال والرشد والاستقامة . والمعتدل في الدين هو الذي يستقيم على أمر الله ولا ينحرف نحو الإفراط ولا التفريط . : ﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [ المائدة الآية 66]. وتفسيرها أنها أمة معتدلة على أمر ربها أي تلتزم الحد الوسط الذي أمر الله به . قال الفيومي في المصباح المنير : ” قصد في الأمر قصداً أي توسط ، وطلب الأسدّ ، ولم يجاوز الحد ” .
والناظر في هذه التعاريف يفهم منها أن المطلوب من اتبع نفسه يكن قد اتبع هواه . ومن اتبع هواه فقد انحرف . لذلك لا تكون الاستقامة إلا باتباع ما أمر الله به حصراً ، وعدم مجاوزته سواء كان عن طريق الزيادة أم النقصان . ولفهم ذلك لابد من المسلم لأن يكون ملتزماً حدود الله فلا يتجاوزها ، وأن يكون معتدلاً أي مستقيماً على أمره . قال رسول الله : ” قل آمنت بالله ثم استقيم ” . (رواه مسلم وغيره) . أي التزم بما أمرك الله وانته عما نهاك . فاستقم هنا بمعنى اتقِ ، ومن ثم يأتي قوله تعالى يوضح المعنى : ﴿ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ …﴾ [ الشورى الآية 15]. فالله هو الآمر ، والمسلم هو المطيع المؤتمر ، والمسلم لا يستطيع أن يعرف سبيل التقوى ، وطريق الاستقامة من عند نفسه .
_____________________
منقول
الإعتدال والتطرف
إن حرب الغرب على الإسلام تأخذ وجوها مختلفة ، وتدخل مجالات متنوعة ، يجمعها القيام بكل ما من شأنه أن يبعده عن واقع الحياة . ولم تقتصر الحملة على تشويه صورته ، وهدم خلافته ، والطعن في أحكامه ، وتصويره بأنه رسم قد عفا عليه الزمن .. بل تشتمل على كل ما يمكن ان يعيده إلى قيادة العالم من جديد. فالخوف عندهم دائم من الإسلام ، لذلك كان الكيد له لا يفتر لئلا يسُحب البساطُ من تحت أرجلهم إذا عادت للمسلمين كرتهم .
فالغرب ينظر الى المسلمين على أنهم أمة حية بإسلامها وأن دينهم دين عالمي ، يصلح للبشر ويُصلحهم وأن نفوسهم تتطلع بشكل دائم إلى الوحدة . وأن مواقع دولهم المتفرقة ستصبح موقع دولة إستراتيجية واحدة تمسك بخواصر القارات وتطل عليها.وإنهم يقبعون على ثروات ضخمة تفيض عن حاجة دولة كبرى لتجعلها دولة أولى . وإن عددهم يقارب ثلث سكان العالم .. وإن همهم ، إن أظهرهم الله ليس القتل ونهب خيرات البلاد التي يفتحونها بل فتح القلوب ، وإخراج الناس ، كل الناس ، من عِماية الكفر إلى هداية الإسلام ، وفي قناعة الواحد منهم أن إدخال رجل واحد في الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها .
لذلك يشهد الإسلام كثيراً من الكيد على أحكامه وعلى العاملين المخلصين له لإبعاد تأثيره في أهله، وفي غير أهله. وهذا الكيد يتناسب مع حجم الخطر الذي يشعرون به .
ولولا أن الإسلام هو دين الله الحق ، لنمحى ، واندرس ، وصار أثرا بعد عين . ولكن إرادة الله ماضية، ومشيئته غالبة، فقد بقي المسلمون على ولائهم لدينهم في أشد أيامهم انحطاطا، إلا أن الغرب نجح في جعل مقاييسهم خاطئة، ومفاهيمهم مغلوطة، وعقليتهم فاسدة .. ذلك أنه في حروبه الصليبية الأولى أن الإسلام متمكن في نفوس المسلمين، وأنه أقوى بكثير من أية محاولة لانتزاعه، لذلك غير خططه في حربه الصليبية الثانية، التي ما زلنا نعاني من ويلاتها، وجعلها تقوم على إبعاد المسلمين عن دينهم وعلى نشر مفاهيمه وقناعاته ومقاييسه الفكرية ليضمن سيطرته المادية ، فأوجد التبعية الفكرية له أولا، ثم أتبعها بسيطرته المادية . ثم غرس حكاماً وأحاطهم بوسط سياسي وفكري فاسد . ثم راح يربط الدول فيه عن طريق جعل سياسة دول العالم تسير باتجاه واحد لتحقيق مصالحه، وعن طريق جعل العالم كأنه شركة مساهمة يكون فيها هو الممول والمنتج، وتشكل فيه الدول الأخرى الطبقة العاملة والمستهلكة. وأحاط العالم بشبكات إعلامية ضخمة جعل فيها شبكات الدول الأخرى الإعلامية تابعة لها ، ويريد بذلك أن لا نقرأ إلا ما كتبه ، ولا نسمع إلا ما يذيعه، ولا نشاهد إلا ما يبثه، ولا نتحدث ونفهم الأمور إلا على ضوء ما يريد .
إنه استعمار جديد، متطور، أشد وأدهى من الإستعمار القديم . فالاستعمار القديم كان يحتل الإنسان من الخارج بينما الجديد يحتل نصفه الداخلي ونصفه الخارجي، ليجعل التبعية مطلقة له، ولا يهددها شيء .
حتى ديننا ، فإن الغرب يريد أن يفهمنا إياه على طريقته . ومن يشذّ عن نظرته تلك فإنه يجنّد وسائل إعلامه هذه ضده. فتصوره بصورة الشاذ الذي يريد أن يخرق الأعراف، ويخرج عن المعهود، ويشق الإجماع، وينعته بنعوت التطرف والإرهاب، والأصولية والتشدد، ويصفه بأنه عدو للإنسانية وظلامي لا يألف العيش إلا في الظلام ، وعدائي يثير في طرحه العداوات والحزازات . وبعد أن يُشوه الصورة ويقلب الحقيقة تقوم الأنظمة بضربه، على اعتبار أنه يستحق الضرب. معتمدين في كل هذا على غفلة الناس عن إدراك الحقائق ، ومستعينين بعلماء يباركون كل أعمال الغرب .. ولكن ما نشاهده اليوم من صحوة بدأت تدب في جسم الأمة جعلت المهمة عليهم صعبة ، وجعلت الأمة تنظر إلى الغرب والحكام والعلماء نظرة واحدة . فصارت تنظر للغرب على أنه شيطان وأن الحكام هم مريدوه ، وأن هؤلاء العلماء لم يتسنموا مراكزهم إلا بمقدار ما أهدروا من كرامة الدين على عتبات الحكام، وأنهم علماء لحالة الإنحطاط ، وأنهم سينتهون بانتهائها، وأن لعصر النهضة الإسلامية الصحيحة علماءها الشعث الغبر ، الأتقياء، الصادقين .
إننا اليوم في مرحلة يعيش فيها الغرب والحكام خوفاً فعلياً من عودة الإسلام ، لذلك نراهم يتحسسون من كل طرح إسلامي يشكل خطراً عليهم ، ويعملون على محاصرته ورميه بشتى التهم ، واستخدام أبواق الإعلام والدعاية ضده وتسخير أفواه العلماء لمواجهته .
لذلك وصفوا كل حركة إسلامية تطالب بالإسلام وحده بأنها متطرفة، وإرهابية، وقام علماء مسلمون، وكتاب قوميون ووطنيون بتأليف المؤلفات وإلقاء المحاضرات عن نبذ التطرف والدعوة إلى الاعتدال. وكلهم ينطلقون من منطلق واحد في النظرة إلى هذا الموضوع وهي نظرة الغرب فحسب . ولولا أن هناك علماء مسلمين يشاركون في هذه المعمعة ويحاولون أن يضفوا على طرح الغرب هذا شرعية ، ووجهاً مقبولاً لما كلّفنا أنفسنا عناء الرد . لأن الآخرين ليس لهم وزن عند الأمة ، شأنهم شأن الحكام ، بل قد يؤدي هجومهم إلى رد فعل معاكس لما يريدون . حتى إن هؤلاء العلماء أنفسهم بدأوا ينعزلون عن الأمة ، وبدأت الأمة تدير لهم ظهرها من كثرة تبريراتهم التي لا تحمل وجه الحق ، وفتاويهم التي تخرج عن الأصول الشرعية المنضبطة ، والتي جاءت في آخر مراحلها لا لتخالف فهماً إسلامياً فحسب بل لتعطل نصوصاً شرعية اتفقت الأمة على ثبوتها والعمل بها. وقد وصل الأمر ببعض هذه الفتاوى أنها راحت تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف ، والعياذ بالله .
وكل هذه الحمية التي يظهرها العلماء عند طرح أفكارهم الغريبة عن الإسلام ، الدخيلة عليه ، هي ليس لإرضاء الله بل لإرضاء الحكام وأسيادهم ، وإنهم وإن أظهروا الحرص على المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية في طروحاتهم هذه فإن الأمة صارت تدرك خطر تلك الأفكار ، واعوجاج أصحابها .
والان وبعد هذه المقدمة ، التي لا بد منها لإدراك حقيقة طرح موضوع ” التطرف والاعتدال ” لابد من طرحه من منظور إسلامي ليعلم المسلمون الحق من غير لبس ، لأنها لا تكفي المشاعر وحدها في تحديد الموقف . وإننا كعادتنا سنجري في معالجة هذا الموضوع بحسب الأصول الشرعية ، ليكون منسجما مع أساس الإسلام ، وهو العقيدة الإسلامية .
جاء الإسلام ليعالج الإنسان ككل .فعالج علاقته بنفسه عن طريق الأخلاق والمطعومات والملبوسات ، وعالج علاقته بغيره من الناس عن طريق المعاملات والعقوبات ، وعالج علاقته بخالقه عن طريق العقائد والعبادات. لذلك كان الإسلام شاملا بمعالجاته لكل أعمال الإنسان . فهو فكر كلي يمكنه الإجابة عن كل ما يتعلق بشئون الحياة .
ثم إن بناء الإسلام بناء متكامل يقوم على أساس تنبثق عنه كل معالجة ويبنى عليه كل فكر . لذلك كانت مفاهيم الإسلام وقناعاته ومقاييسه كلها من جنس فكره الأساسي . وتفصيل ذلك أن الإسلام يقوم على أساس إيمان المسلم بان الله هو الخالق المدبر وأن الإنسان ضعيف وعاجز ومحتاج وناقص ومحدود، وانه يعجز عن المعالجة . لذلك أرسل رسوله ليعلم الناس من هو الله المعبود وكيف تكون عبادته ، وما يترتب على العبادة أو عدم العبادة من ثواب أو عقاب في الحياة الآخرة . فنشا عند المسلم من هذا المقياس لكل أعماله وهو مقياس الحلال والحرام . وصار عقله يعمل لا ليكون حكما على النصوص التشريعية ، ولا ليشرع مع النصوص ، بل يعمل فقط على فهم ما تدل عليه النصوص . النصوص التي تعالج هي من الله ، والإنسان مهمته أن يفهم هذه النصوص ليلتزم بها ، وهو قد يخطئ فهم ما يريده الله أو يصيب ، وهو في الحالتين مأجور شرط أن يكون خاضعا لطريقة الاجتهاد الشرعية . ومن هنا جاء اهتمام المسلمين البالغ بإثبات النصوص ، والذي نتج عنه علم الحديث ، واهتمامهم البالغ بفهم النصوص والذي نشا علم أصول الفقه ، والذي من قواعده ( أن الله هو الحاكم ) و( الأصل في الأفعال والأشياء التقيد بالدليل الشرعي ) و( أن الخير هو ما أرضى الله ، وان الشر هو ما أسخطه ) و ( أن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ) .
وكذلك نرى أن المسلم يؤمن بأن سعادته يحصل عليها بنوال رضوان الله . وأن اطمئنانه واستقراره يقومان على إشباع حاجاته و غرائزه بناء على إيمانه بالله وتقيده بشرعه . وهكذا نرى أن بناء الإسلام كامل متكامل أفكاره كلها متجانسة ، وتقوم على أساس واحد .فما أقره هذا الأساس أخذ وإلا ترك .
وما ينطبق على الإسلام كمبدأ ، ينطبق على الفكر الرأسمالي لأنه كذلك فكر مبدئي ، وبناؤه الفكري متجانس مع بعضه ، وهو إما أن يؤخذ كله أو يترك كله . وتشكل فكرة فصل الدين عن الحياة الأساس الذي انبثقت عنه كل معالجاته ، وبنيت عليه كل أفكاره .
وفكرة ( فصل الدين عن الحياة ) التي قامت على الحل الوسط أدت إلى اعتبار أن الإنسان سيد نفسه ، وحتى يكون سيد نفسه لابد ان تبعد عنه كل وصاية ، ولا يكون ذلك إلا بان يمارس حرياته الأربع بنفسه ، فنشأت عنده فكرة الحريات . وهي لها عنده مفهوم معين .وان يكون سيد نفسه فمعناه أن يسعى لتامين حاجاته الأصلية بحسب نظرته هو من غير آن تحكمه أية نظرة خارجية من دين أو غيره ، فنشأت عنده فكرة الديمقراطية . ويعتبر الذي يعتنق فكرة ( فصل الدين عن الحياة ) أن سعادته يحصل عليها بحصوله على أكبر قدر ممكن من اللذة . وصار ما يدركه عقله ( لأن عقله هو المشرع ) أنه مصلحة ، هو مقصود بأعماله .
وعندما يكون الفكر منسجما فإنه لا يقبل الاختلاط ، والإختلاط بالمعنى الشرعي يعني الشرك ، سواء أكان شركا كفريا ، أو شرك معصية .
فكما أن الإسلام لا يقبل الديمقراطية لأن الديمقراطية هي حكم الشعب ، بينما الحكم في الإسلام للشرع ، كذلك فان الفكر الرأسمالي لا يقبل أن يصل الإسلام إلى الحكم ، لأن في وصول الإسلام إلى الحكم إلغاء للديمقراطية ولكل المفاهيم الناتجة عنها.
ولهذا فإننا نرى أن الغرب يكافح الطروحات الإسلامية الجذرية ويحارب الحركات الإسلامية العاملة للوصول إلى الحكم .ويرى أنها تشكل خطرا عليه وتقضي عليه من الأساس .
ومن هذا المنطلق فانه يحاربها ويعاديها ويرى فيها أنها خصمه اللدود . وينعتها بمختلف النعوت . فينعتها بالأصولية لأنها تنطلق من أصول لا تقر بوجوده ، والمتطرفة لأنها لا تقبل التعامل معه لعدم وجود أمور مشتركة بينهما ، وبالمتشددة لأنها لا تحابي طرحه ولا تحترم وجوده . ولو أنعمنا النظر لرأينا أن ما يصف به غيره هو غارق فيه حتى أذنيه . ويمكن وصفه بما وصف به غيره ، فهو من منطلقه يعتبر انه أصولي لانه ينطلق من أصل يؤمن به ولايقبل بأصل غيره ينافسه . مع أن فكرته التي تقول بالديمقراطية تسمح للآخرين بالوصول طالما أن الناس هم الذين يختارون . ويعتبر كذلك متطرفا وإرهابيا ومتشددا لانه لا يحترم وجود الإسلام السياسي ولا يقبل التعامل معه ولا يمكنه الالتقاء معه على أمور مشتركة. ولكل من خالف مبدأه أوقع نفسه فيما يصف به الآخرين . فأية ديمقراطية هذه التي تلغي الإنتخابات وهي الطريقة التي تعبر بنظره عن إرادة الشعب لتفرض بدلها دكتاتورية الحكام .
من هنا ، فإننا إذا أردنا أن نحكم على فكرة أنها صحيحة أو خاطئة فما علينا إلا أن نردها إلى إصلها ، ونحاكمها ثم نحكم عليها من خلال هذا الأصل ، ولا يمكننا أن نحاكم أية فكرة جزئية من خلال أصل غيرها . فلا يمكننا أن نقول أن السعادة في الإسلام مثلاً يجب أن تكون قائمة على تحصيل اللذة ، ولا نستطيع القول كذلك إن المسلم يؤمن بالحريات التي يؤمن بها الغرب ، لأن الإسلام لا يقر ذلك ولا يقبل به ، ومن رضي بالإسلام كأساس عليه أن يرضى بما ينبثق عنه ، وأن يأخذ الإسلام كله ، لأن ترك بعضه مثل تركه كله ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة -85).
ومن هذا المنطلق نرفض أن يأتي الكلام من دول الغرب بأن الإسلام دين الاعتدال وبأنه يرفض التطرف فهو كلام حق يراد به باطل ، لأنه ينطلق من أساسه الفاسد .
فالتطرف أو الغلو أو الإسراف أو الإفراط ، لها معنىً شرعي إذا خالفه المسلم يقع في الحرام وكذلك فإن الاعتدال أو الاقتصاد أو الاستقامة أو الوسطية لها معناها الشرعي الذي يجب على المسلم التزامه. والأمر نفسه في التفريط والتساهل . فإننا إذا أردنا أن نعرف حكم الشرع بها فإنه لا يمكننا أن ننطلق من المفاهيم والمقاييس التي يؤمن بها الرأسمالي للحكم عليها ، فهذا حرام ، وهذا فيه خدمة للغرب وفكره ، وفيه تحاكم لغير الإسلام للحكم على الإسلام ومفاهيمه .
هناك كثير من الأحكام الشرعية التي يجب على المسلم القيام بها ويأثم بتركها ويعتبرها الغرب بأنها تطرف وتشدد وإرهاب . وذلك كالجهاد في سبيل الله ، والعمل لإقامة الخلافة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يشمل فيما يشمل الحكام ومقاومة الكفر ونشر الدعوة ، ونبذ الديمقراطية ، وحرمة التعامل بالربا ، ولباس المرأة للحجاب ، وغيره الكثير من الفروض التي يجب على المسلم الالتزام بها .. فهل يجوز لنا أن نحاكمها من خلال فكر الغرب الفاسد النتن الذي لم يحمل الخير لأتباعه فكيف يحمله لغيرهم ، وهل يجوز للمسلمين أن يقولوا بقوله ؟
وعلى هذا فإننا يجب أن نرفض طرح الغرب لفكرة التطرف والاعتدال . ويجب أن نرفض تدخله في أمور ديننا . لذلك فإن البحث هذا لم ينطلق من منطلق شرعي ابتداء بل من موقف سياسي يعمل على تكريس توجه عند الأمة يناسب الغرب ، إنه بحث يتعلق باستمرار استعمار العقول .
والآن لننتقل إلى معرفة رأي الإسلام بهذا الموضوع من منطلق شرعي يخدم الدعوة ويقرب من الله :
المغالاة أو الغلو هو الزيادة والمبالغة . والمغالاة في التدين هي التشدد والتصلب في مجاوزة الحد المطلوب والمقدر شرعاً . ويسمى كذلك الإفراط . ويقابله التفريط من فرّط في الأمر فرطاً أي قصّر به وضيعه وقدم العجز فيه . والتفريط في التدين هو التقصير في أحكامه وتضييع حقوقه ، وإظهار العجز عن القيام بواجباته ومن هنا نشأت مقولة أن ( لا إفراط ولا تفريط في الإسلام ) .
أما الاقتصاد فهو في التوسط والاعتدال والرشد والاستقامة . والمعتدل في الدين هو الذي يستقيم على أمر الله ولا ينحرف نحو الإفراط ولا التفريط . : ﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [ المائدة الآية 66]. وتفسيرها أنها أمة معتدلة على أمر ربها أي تلتزم الحد الوسط الذي أمر الله به . قال الفيومي في المصباح المنير : ” قصد في الأمر قصداً أي توسط ، وطلب الأسدّ ، ولم يجاوز الحد ” .
والناظر في هذه التعاريف يفهم منها أن المطلوب من اتبع نفسه يكن قد اتبع هواه . ومن اتبع هواه فقد انحرف . لذلك لا تكون الاستقامة إلا باتباع ما أمر الله به حصراً ، وعدم مجاوزته سواء كان عن طريق الزيادة أم النقصان . ولفهم ذلك لابد من المسلم لأن يكون ملتزماً حدود الله فلا يتجاوزها ، وأن يكون معتدلاً أي مستقيماً على أمره . قال رسول الله : ” قل آمنت بالله ثم استقيم ” . (رواه مسلم وغيره) . أي التزم بما أمرك الله وانته عما نهاك . فاستقم هنا بمعنى اتقِ ، ومن ثم يأتي قوله تعالى يوضح المعنى : ﴿ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ …﴾ [ الشورى الآية 15]. فالله هو الآمر ، والمسلم هو المطيع المؤتمر ، والمسلم لا يستطيع أن يعرف سبيل التقوى ، وطريق الاستقامة من عند نفسه .
_____________________
منقول