والسؤال الذي يطرح نفسه: كم من مجتهد في الأمة يستطيع الاجتهاد في كل هذه القضايا؟ حتى يقال أنه يترك اجتهاده لاجتهاد الحزب إن خالف اجتهاده؟
قد يوجد بعض العلماء من شباب الحزب أو من الأمة، ممن يستطيع بعض ذلك، فلهؤلاء يصلح القول:
إما أن تجتهد في الأحكام التي من خلالها تستطيع إقامة حزب يغير واقع المسلمين لتبرئ ذمتك أمام الله تعالى، فيتبعك فيها من يرى صواب اجتهادك.
أو تتبع الحزب الذي قام بالاجتهاد فيها، مما قصرت فيه أو في بعضه، لأنه لا يستطيع الحزب إقامة الفرض الذي قام من أجله إلا بتبينه في كل هذه الأمور حتى يحملها للأمة حملا جادا يستطيع تغييرها بهذه الأفكار.
أما من كان يعرف الأحكام، وأدلتها دون استنباطه المباشر لها، فهو مقلد لا مجتهد، ولا يرد في حقه السؤال: هل يجوز له ترك اجتهاده لصالح اجتهاد الحزب؛ لأنه ابتداء ليس بمجتهد.
إذن: فمجتهد المسألة أو المسائل، ممن اجتهد في مسألة متعلقة بنظام الحكم مثلا، أو مسألة متعلقة بالنظام الاقصادي، أو مجموعة مسائل، يقال له :
إن ما لديك من اجتهاد لا يكفي لإقامة حزب جاد يستطيع إقامة الدولة الاسلامية اليوم في ظل غيابها؛ وأنت فيما دون ذلك من المسائل مقلد.
فعلى فرض أنه لا يجوز لك ترك اجتهادك لاجتهاد غيرك، مع أن الرأي الأرجح هو جوازه؛ لكن على فرض أنه لا يجوز لك ذلك،
فإنك أمام قضية يتعارض فيها واجب اتباعك للحكم الشرعي الذي أفضى إليه اجتهادك؛
وواجب القيام بفرض إقامة الاسلام في الأرض والذي لا يتم إلا من خلال حزب
ولا يتم إلا باستنباط هذا الحزب للأحكام التي تقيم هذا الفرض في الواقع حقيقة، والمسألة جد ليست بالهزل.
فيقدم الواجب الثاني على الأول لأسباب:
أولها: أن إقامة الفرض الكفائي تقدم على إقامة فرض الأعيان حين تعارضهما على وجه يتعذر إقامتهما معا فيه.
لأن براءة الذمة جراء عدم إقامة الفرض الكفائي تنسحب على كافة المسلمين ممن لم يتلبس بالعمل الجاد لإقامته، بينما يلحق إثم عدم القيام بالفرض العيني على الشخص وحده، فيقدم ما يزيل الاثم عن كواهل الأمة على الثاني .
ثانيا: يتعطل بعدم وجود الدولة الاسلامية جل الاسلام، تتعطل فرائض أمر الشارع المسلمين بإقامتها، ولا يمكن أن تقوم إلا من خلال دولة تطبقها، ولا شك أن السعي لإقامتها أجل وأخطر، إذ بها تحمى حرمات المسلمات، وتصان دماء المسلمين، ويطبق العدل في الأرض كما أمر رب العالمين ... الخ أي أن القضايا المتعلقة بالفرض الذي عليه أن يقدمه أخطر وأخطر مما يعني أنها تقدم على ذلك الفرض.
من هنا فإنه يقدم اجتهاد الحزب على اجتهاده أي يقوم بتبني ما يتبناه الحزب ويعمل في صفوفه كي يبرئ ذمته أمام الله تعالى.
إنه مما بليت به هذه الأمة هذه الأيام أنها إذ أقامت الكثير من الأحزاب،
أن أعمال هذه الأحزاب ارتجالية، ولا تكاد تجد في مشاريعها تصورا واضحا للحال الذي يراد إنهاض الأمة لبلوغه، فتطرح مثل هذه القضية الضخمة أي قضية التبني في سياق معارضة رأي لرأي الحزب!!!
مع أنها أخطر إذ أن للحزب آراء في كل القضايا التفصيلية الواردة أعلاه، وبدون هذه الآراء لا يمكن للحزب إقامة الدولة
من هنا فإنه من السذاجة بمكان أن تطرح قضية التبني في سياق تخلي مجتهد لرأيه لصالح رأي مجتهد آخر!!
اللهم إلا إذا كان ذلك في سياق تعارض مع الأفكار الأساسية التي قام عليها الحزب تفصيلا، عندها يفرض على المجتهد الآخر إقامة حزب يعمل لتحقيق قناعاته في المجتمع.
إذن فطبيعة عمل الحزب من أجل تحقيق الغايات الكبرى تتطلب تفصيلات في الأحكام التي تتعلق بالعمل كله، لأن العمل تعدى التعامل مع قضية واحدة، إلى قضايا وقضايا لا يمكن أن تنهض الأمة إلا بتبني آراء تفصيلية في كل هذه القضايا، تحمل للأمة ومن ثم تحمل طريقة تطبيقها إلى الأمة.
كل هذا يعني أن القيام بهذا كله لا يتم إلا من خلال التبني،
أي أن يقوم صاحب الصلاحية في الحزب بتبني آراء معينة، يقوم الحزب بنقاشها، وعرضها على الأدلة للأخذ بالرأي الأقوى، ودوام المراجعة والبحث والتنقيب حتى تبقى الدعوة متبنية للرأي الأرجح في المسألة.
الآن: واضح أن من سيعمل تحت مظلة هذا الحزب مستجيبا لأمر الله تعالى بأن يكون من المؤمنين أمة تعمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، فإنه إما أن يكون مجتهدا فيها كلها، أو في بعضها، أي أنه امتلك آلية الاجتهاد، وحال من بلغ هذه الرتبة قليل جدا في العادة، ونتذكر أن المطلوب كي يقال أن هذا مجتهد لا أن يعرف الحكم وأدلته، بل أن يكون ممن يستنبط الحكم فعلا رأسا من الأدلة ولديه الملكة على الاجتهاد؛ أو أن يكون مقلدا ،
فالمقلد لا خلاف ولا ضير من أن بوسعه تقليد الحزب في الأحكام المتعلقة بهذه التفصيلات ليعمل.
وأما المجتهد، فإنه لن يتمكن من العمل المبرئ للذمة حيال هذه القضايا الكبرى إلا إما أن يؤسس حزبا يقوم على اجتهاداته ،
أو أن يتخلى عن بعض آرائه في بعض القضايا الجزئية من هذا العمل الكلي الكبير ، من أجل إقامة الفرض الأعظم وهو إقامة الحكم بما أنزل الله.
فإن لم يفعل ذلك، أي لم يستطع إقامة حزب يعمل بآرائه، أو أن ينخرط في الحزب الذي يختلف معه في فرعيات، فإنه سيقع في الاثم لأنه لم يعمل على إقامة الفرض الذي خوطب به أن يقوم به من خلال جماعة،
لا هو أقام جماعة، ولا هو عمل من خلال الجماعة التي اختلف معها في تفصيلات جزئية واتحد معها في تفصيلات أخرى كالعمل على إقامة الدولة مثلا لا يختلف مع الحزب على فرضيته،
فبما أنه لا يتم واجب إقامة الدولة إلا من خلال تخليه عن بعض اجتهاداته لصالح العمل الجماعي الذي هو الطريقة الوحيدة لإقامة هذه الفروض الكبيرة الخطيرة التي يترتب عليها إقامة الاسلام في الواقع، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم ومعتقداتهم، وإقامة أحكام الله في الأرض؛
فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
فعليه أن يفرق بين ترك اجتهاده كفرد لصالح مجتهد آخر، وبين ترك اجتهاده كعضو في جماعة لصالح إقامة فرض لا يمكنه كفرد إقامته إلا من خلال جماعة.
وأما قيامه بفرض اجتهاداته التي لم يتبناها الحزب على الدعوة خلال سيرها فإنه سيفضي إلى أن سيكون أثر كل قضية أخرى من مجموع القضايا الرئيسة التي قام الحزب من أجل إقامتها على بنيته، فتتشكل داخله عشرات الأحزاب والتجمعات فينشغل الحزب بنفسه ولا يصل إلى المجتمع منه إلى كل رأي متناقض.
من هنا كان عليه أيضا أن يحمل رأي الحزب، في دعوته، لا أن يحمل رأي نفسه، لأن الحزب قام لإقامة هذا الفرض في الأرض، وبالتالي فكل من عمل تحت مظلته عليه أن يوصل نفس الأفكار التي من شأنها أن تقود إلى التغيير المطلوب، بناء على اجتهاد الحزب بأن هذه القضايا والتبنيات تفضي إلى إقامة الفرض.
على أن نسيج الحزب الصحيح، يقتضي أن يكون الرأي رأي كل فرد فيه كما سيأتي،
أي أن الصواب في عمل الحزب أن يكون رأيه رأي كل فرد فيه وسنفصل في ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى. لذلك كان لا بد من وجود التبني.
على أن هذا لا يعني أن يتبنى الحزب في كل صغيرة وكبيرة من القضايا، بل عليه أن يتبنى في قضايا معينة تحقق له القدرة على السير والوحدة وإيصال رسالة واضحة للأمة في تلك القضايا الخطيرة المهمة.
لذا كان التبني ركنا ركينا من بناء الأحزاب لا يمكن أن تقوم إلا به سواء أتبنت في كل القضايا أم تبنت فيما تراه ضروريا لقيامها واستمرارها من أجل تحقيق الفرض الذي قامت من أجل تحقيقه.