السلام عليكم احبائي في الله ورحمة الله وبركاته:-
اعتنى القران الكريم بالجانب التربوي النفسي للانسان عناية فائقة، وركز على بناء نفس زاكية طاهرة نظيفة من الرجس والعفن والامراض الوبائية التي تفتك بالنفوس، فترديها في مهالك العذاب والهوان والشقاء،. وتحولها عن الفطرة السليمة ومسار الوحي، فتنقلب نفسا شريرة باغية، تصنع الشر او تتقبله وتعين على بسط نفوذه ونشر وجوده. صانعة له او مستسلمة له، تشقى به وهي تظن انها به تنعم، في حين انها به تهلك، و تهلك غيرها من حرث ونسل واسباب وجود .
والانسان احبتي لايعيش في الارض وحيدا فردا ، بل يشاركه جنسه من البشر واخوته في الانسانية والوجود، وعوالم اخرى من الكائنات سخر معظمها لخدمته المباشرة، وبعضها الاخر لخدمته غير المباشرة، وادرك الانسان بدراساته ومكتشفاته العلمية مؤخرا ، انه ما وجد صنف من اصناف المخلوقات الا وله دور يؤديه فطريا في هذه الحياة ، ليحفظ التوازن الحياتي والبيئي على ظهر هذا الكويكب ، الذي وكل الانسان بالاستخلاف فيه لعمارته بطاعة الله، وجعله مملكة لا يعبد فيها سواه .
ومن غريب ما قرأت ان امير المؤمنين عمر رضي الله عنه وارضاه بعث بكتاب الى عامله على اليمن، يساله فيه عن الجراد ، حيث انقطعت رؤيته مدة من الزمن في زمانه فافتقده ، فجاءه الجواب انه ما زال موجودا ، فحمد الله تعالى واثنى عليه ان الجراد ما زال موجودا ، فلما سئل عن سر اهتمامه بوجوده ، قال انه يخشى ان تنقرض امة من امم الخلق ابان حكم عمر. فخشي ان يحمل مسؤولية هلاك دويبة تكاثرها بلاء واذى على الناس في مزروعاتهم واقواتهم، ولعله خشي ان يكون هلاك الاحياء بسبب كسب ايدي الناس و ظلمهم ، وخشي ان يكون له يد في الظلم المؤدي الى فناء المخلوقات ، وهذا الحس المرهف والوعي الراقي صنعه في نفوسهم وعقلياتهم نور القران وهدي النبوة، فقد قال ابن عباس يوم سئل عن معنى قوله تعالى-- (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس) :- والله ان حيتان البحر ووحوش البر لتتضرر من سيئات ابن ادم . فانظر ايها الانسان ما اعظم مسؤوليتك، انها تتجاوز حدود النفس وهواها ، وتتجاوز حدود جنسك لتشمل المسؤولية عن الخلائق، فانظر ما اعظم المقام الذي دعيت اليه لتستخلف فيه، وما احقر المقام الذي نكصت اليه، وحبست نفسك محقرا لذاتك يوم جعلتها اسيرة ملذاتك وشهواتك .
نعم اخي الانسان انك لا تعيش فيها فردا، فلن تكون فيها مقررا حسب مشيئتك وارادتك، فلا بد لك ممن يقيدها او ينظمها لكي لا تصطدم بغيرك فتصبح الحياة نزاع وصراع ارادات وبقاء، و كانها غابة موحشة بوحوشها لا يستانس بها انسان.
ان من اخطر الحالات التي يواجهها الانسان في حياته الفكرية ومساره العملي ، هو اعتباره لكل ما يصدر عنه حسنا، وانه المتفوق الكامل، وان رايه او وجهة نظره غير قابلة للمناقشة او الرد او النقض او التعديل، فيريدها قانونا يلزم بها الاخرين، وكانه الاه، و غيره عليهم التسليم والاتباع ،مما يدفعه للحنق والغضب والمغالطة و الاصرار على الباطل والخطأ، اذا ما اعترض معترض او ناقش مناقش، فيستبد برايه ويسعى بشتى الوسائل لفرضه، ولا يابه بتصادمه مع ارادات الاخرين، او الحاقه الاذى بهم ، وكانهم سخروا له خدما وتبعا ، ليس لهم من خيار امامه الا التسليم والاتباع والطاعة، لهواه الذي اتخذه هو في حقيقة الامر الاها يعبد .
انه مرض نفسي يسببه الجهل والمكابرة على الباطل والعناد القاتل، واسمع معي الى القران وهو يسجل هذه الحالة المعيبة للنفس، وشاهد معي كيف يصورها ويبرز ادق خفاياها ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الد الخصام*
واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد*
واذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسيه جهنم ولبئس المهاد*)البقرة204--206
انه يفسد في الارض باتباعه هواه ولايقبل نقدا ولا تقويما ولا محاسبة من غيره، كما انه هو نفسه لا يحاسب نفسه ولا يراجعها ، ولو فعل وراجع نفسه فسيراجعها بغير هدى و لا مقياس لانها ترفض بما استحكم فيها من مرض وجهل و استبداد وكبر ـ ان يكون المقياس الا هواهاـ على اعتبار انها الارقى والاعلى والاوحد ، واسمع الى القران ما اجمله وهو يغوص في اعماقها فاضحا لها ولمن يحملونها تلك النفس المريضة المستبدة:-
(افمن زين له سوء عمله فراه حسنا فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليم بما يصنعون)فاطر8
وفي موضع اخر يقول:-
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104).الكهف
ولخطورة الموقف وجلله ، جاء التوجيه القراني والهدي النبوي الكريم بوجوب محاسبة النفس وجهادها مجاهدةـ لترويضها وتطويعها للامتثال لامر الله دوما وادانتها ، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) [الحشر:18،19]. وقال تعالى: ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [الزمر:54].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).
وكذلك شرع لنا الاسلام من العبادات والقربات ما يقوي عندنا ارادة الرفض وارادة القبول ـ، كالصيام مثلا الذي يجعلنا نرفض نهارا ما هو مباح لنا اصلا من طعام وشراب وشهوة ، ونقبله ليلا امتثالا لامر الله الذي فرض علينا الصوم وجعله من القربات ومن اعظم العبادات، واوجب علينا الزكاة واخراج اموالنا، واطعام الطعام لمن نحب ولمن نكره، امتثالا لامره ، وطلب منا اسباغ الوضوء على المكاره، واداء الصلاة في اوقاتها، وترك المشاغل لاجل ادائها ، وكتب علينا القتال في سبيله وهو كره لنا، وقضى لنا احكاما اوجبها ولم يجعل لنا الخيرة من امرنا امام احكامه، كل ذلك لنرفض لله ولنقبل لله، مستسلمين منقادين لامره لذلك سمانا المسلمين اي المستسلمين المنقادين المذعنين لامره ونهيه((هو الذي سماكم المسلمين من قبل وفي هذا))
وبالتالي فان النقد والمحاسبة للانسان وسلوكه وتصرفاته وحتى افكاره و مشاعره، ينبغي ان تكون على اساس الاسلام واحكامه وتشريعاته وبها فقط وعلى اساسها يتم تقويم السلوك والعمل وضبط الفكر وتكييف النفس والهوى والمشاعر. وتصحيح السلوك و المسار وتنقية النفس والمفاهيم والافكار من كل غبار، فان من سنن الله تعالى : ( ...... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ) الرعد 11
اللهم انصرنا على انفسنا وانصرنا على اعدائنا فان النصر على النفس القوة الدافعة الى النصر على الاعداء. وختاما لكم التحية والسلام
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2021-06-29, 6:43 am عدل 1 مرات