(9) الحلقة التاسعة من دروس ومواعظ وعبر الحج التربوية(9)
خواطر حول السعي بين الصفا والمروة ,,ووقفات...الوقفة-1-
اخي الحاج والمعتمر الكريم: يامن وفدت فارا الى الله من خطاياك وذنوبك، مستجيرا ببيته العيق، طالبا اجارته لك بالمغفرة والعفو، وتطهيرك مما اقترفت وقصرت، فطفت بالبيت محييا له، معظما تعظيما لمن هو منسوب اليه ربك وربه الله، واتخذت من مقام ابيك ونبيك وجد نبيك الاعلى ابراهيم مصلى، فصليت ركعتي سنة الطواف، ثم وردت ماء زمزم وارويت عطشك حتى تضلعت منه، مطهرا بالماء الطهور جوفك من كل ما اجترحته ودخله من اثام ومحرمات.. فتوجه الان الى المسعى لتسعى وتطَّوَّفَ بين الصفا والمروة، فانهما من شعائر الله، والسعي من اركان الحج او العمرة الواجبة عليك فعلها، فلا يصح حج بلا سعي و طواف، ويشترط للسعي ان يسبقه طواف صحيح، فقد قال الله تعالى:- (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)سورة البقرة) .ووقفتنا مع هذه الاية الكريمة اليوم:
1= لغة الاية واعرابها وسبب نزولها:-
(إِنَّ) :- حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد وينصب اسمه وافاد هنا توكيد واثبات حقيقة تحرج المؤمنين الموحدين من فعلها كما سنرى..ويوجد هنا حذف مقدر تقديره ان السعي بين الصفا والمروة..
(الصَّفَا):- اسم ان منصوب تعذر ظهور علامة النصب بالفتحة عليه لانتهائه بحرف العلة الالف . والصفا هو الصخرة الملساء وهو جبل يعرفه من زار البيت ومن لم يزره نسال الله لنا وله زيارته مرارا وتكرارا حجاجا وعمارا.. ويقع الصفا الى الجهة الجنوبية.. وجملة ان الصفا استئنافية عما قبلها
(وَالْمَرْوَةَ):- الواو حرف عطف، عطف المروة على الصفى والمعطوف ياخذ حكم المعطوف عليه، فهي معطوف على اسم إِنَّ منصوب بالفتح الظاهر على اخره..وهي جبل مقابل الصفا وكان بينهما واديا مكان ما يعرف اليوم بالميلين الاخضرين حيث يهرول السعاة بينهما..وبينهما مسافة حوالي 394.5 مترًا، وعرض المسعى 40مترا، ويبلغ معدل إجمالي عدد الأشواط للسعي 2761.5 مترا. والمروة نوع من الحجارة والصخر تقدح منه النار.
(من )حرف جر افاد البيان هنا.. (شعائر) مجرور ومضاف وهي جمع شعيرة والجار والمجرور هنا متعلق بخبر ان المحذوف المقدر بالسعي بين الصفا والمروة كما اسلفنا.وشعائر جمع شعيرة وهي العبادة المخصوصة والمعلمة المحددة واشعر الدابة علمها لتكون هديا او اضحية او نذرا ... والشعار العلامة المميزة ويطلق على مناسك الحج شعائر كونها معلمة معروفة محددة المعالم.والمشعر هو المكان الذي يختص بعبادة مخصوصة معينة متعلقة به..-- اللّهِ - لفظ الجلالة مضاف اليه مجرور بالاضافة.-- فَمَنْ-:- الفاء استئنافية..و- مَنْ - اسم شرط في محل رفع مبتدأ.
(حجّ) فعل ماض مبنيّ على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.. (البيت) مفعول به منصوب وجملة حج البيت في محل رفع خبر المبتدأ مَنْ (أو) حرف عطف افاد التخيير والتسوية (اعتمر) فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو و جملة: (اعتمر) في محلّ رفع معطوفة على جملة حجّ. ..و(الفاء) رابطة لجواب الشرط (لا) نافية للجنس ( جُنَاحَ ) اسم لا مبنيّ على الفتح في محلّ نصب والجناح هو الاثم على ارتكاب الجنحة اي الخطيئة وجملة: (لا جناح عليه) في محلّ جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء.(على) حرف جرّ والهاء ضمير في محلّ جرّ متعلّق بمحذوف خبر لا، (أن) حرف مصدريّ ونصب (يطّوّف) مضارع منصوب والفاعل ضمير مستتر تقديره هو..و الباء حرف جرّ و(هما) ضمير متّصل في محلّ جرّ متعلّق ب (يطّوّف).و(يطّوّف)، أصله يتطوّف، اقترب مخرج التاء من مخرج الطاء فقلبت التاء طاء لتخفيف ثقل اللفظ، وأدغمت الطاءان بعد تسكين الأولى للإدغام فقيل يطّوّف، وزنه يتفعّل.وتطوف بالمكان تردد فيه ذهابا وايابا وسمي السعي هنا بين الصفا والمروة طوافا او تطوفا لانه يتردد بينهما وكانه يدور في دائرة لكثرة تردده بينهما وهي سبعة اشواط يبداها من الصفا وينهيها بالمروة فاشبه تردده الدوران كقولك طفت المدينة او تطوفت في السوق.
والمصدر المؤوّل (أن يطّوّف) في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف أي في التطوّف بهما، والجارّ والمجرور متعلّق بالخبر المحذوف.
الواو عاطفة (من) اسم شرط جازم في محلّ رفع مبتدأ، (تطوّع) فعل ماض في محلّ جزم فعل الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره هو (خيرا) مفعول به منصوب، الفاء رابطة لجواب الشرط (إنّ) حرف مشبّه بالفعل للتوكيد (اللّه) لفظ الجلالة اسم إنّ منصوب (شاكر) خبر إنّ مرفوع (عليم) خبر ثان مرفوع.وجملة: إنّ اللّه شاكرعليم في محلّ جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء.
2-سبب النزول وقصته
ا- اساس السعي واصله ما فعلته امنا هاجر حين اسكنها ابونا ابراهيم عليه السلام وطفلها الرضيع اسماعيل، و كما قال هو عليه السلام مخاطبا ربه تعالى (..رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37) ابراهيم
فانظر رحمك الله لقوله بواد غير ذي زرع اي لا ماء فيه لينبت الزرع، والماء سبب للحياة، وانعدامه انعدام لها ...والمهمة التي جاء بها وبولدها هي من اجل اقامة الصلاة اي اقامة احكام الله ودينه وشريعته المبنية على التوحيد الخالص لله في كل امر وشان. وامرأة تُترك مع وليدها الرضيع في مكان يوحي كل مافيه بالموت وانعدام الحياة والوحشة ماذا سيكون منها وما موقفها؟؟ امور فوق العقل وليست معتادة، انها خوارق للعقل.. ومعجزات تحتاج لاحتمالها اولي العزم والبأس الشديد..امرأة ورضيعها يتركها زوجها مع رضيعها في مكان لا طعام فيه ولا ماء؟ هنا قالت هاجر قولتها الشهيرة: ـ إلى من تكلنا؟ ألله أمرك بذلك؟
فقال سيدنا إبراهيم: نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا الله،ولما نفذ ما معها من ماء وزاد طفقت تصعد جبل الصفا ثم تسعى الى المروة لعلها ترى مارا مع ذاك الوادي الموحش المخيف، ثم ترجع الى الصفا لتشرف عليه تراقب بخوف واشفاق رضيعها الذي مددته، جاهلة ما غُيب لها وله من مصير وتدبير، الا انها عندها الرجاء بالله بانه سبحانه لن يضيعها لا هي ولا وليدها. وخاصة بعد شوطها السابع وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقا أن الله لم يضيعها....لم تعلم بانه سيكون ابا لأمة، وسيخرج من صلبه شعوبا وقبائل توحد الله وتعمر ذاك الوادي وغيره من البلاد بتوحيد الله، وسيخرج من ذريته خير خلق الله وخاتم النبيين والرسل، ومن سيملأ الأرض بنور الله محمد عليه سلام الله تعالى وصلاته .. من هنا بدات سيرة السعي ومنسكه... الا ان الذين اجتالتهم الشياطين من الذرية التي لم ينالوا بظلمهم عهد الله تعالى، قد حرفوا هذا النسك عن اساس مشروعيته الايمانية الاصل، القائمة على تردد الانسان بين كفتي ميزان الرجاء والخوف لتستقيم دوافع الحياة وانشطتها،فالرجاء يؤمل والخوف يزجر .. فقاموا يوم عبدوا من دون الله اصناما تفربهم بزعمهم الى الله زلفى، بوضع صنمين هما اساف على الصفا ونائلة على المروة، وحرفوا سنة السعي لتصبح ترددا بين الهين مزعومين سفها وطيشا وجاهلية بهم. فلما جاء الاسلام وردهم الى ملة ابراهيم الحنيفة وجعلهم على المحجة البيضاء النقية، ذهب بعض المؤمنين إلى الكعبة قبل الفتح، فتحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأن "إسافا" و"نائلة" فوق الجبلين، فكأنهم أرادوا أن يقطعوا كل صلتهم بعادات الجاهلية، واستكبر إيمانهم أن يترددوا بين "إساف" و"نائلة"، فأنزل الله قوله الحق: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم"، أي لا تتحرجوا في هذا الأمر لأنكم ستسعون بين الصفا والمروة التي هي من شعائر الله في الحج والعمرة؛ لا بين إساف ونائلة كما كان يفعل المشركون الوثنيون، إذن فالعمل هنا كان بالنية والقصد وانما الاعمال بالنيات. وكان لابد أن يستعيد المسلمون نية الإيمان الأولى عند زيارة البيت المحرم بالسعي بين الصفا والمروة، فنحن في الإسلام نرضخ ونستسلم ونذعن لأمر الآمر لنا الاله الواحد، قال لنا: "قبلوا الحجر الأسود" فقبلناه، وفي الوقت نفسه أمرنا أن نرجم الحجر الذي يرمز إلى إبليس وامرنا ان نحطم الصنم الحجرونكسره، هكذا تكون العبرة بالنية؛ وليس بشكل العمل، وتكون العبرة في إطاعة أمر الله. وكأن الحق بهذه الآية يقول للمؤمنين: إن المشركين عبدوا "إسافا" و"نائلة"، لكن أنتم اطرحوا المسألة من بالكم واذهبوا إلى الصفا والمروة، فالصفا والمروة من شعائر الله، وليستا من شعائر الوثنية، ولكن ضلال المشركين هو الذي خلع عليهما الوثنية في إساف وفي نائلة. وبسب أنهم كانوا يتحرجون من الطواف في مكان يطوف فيه المشركون فقال لهم: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما". إن نفي الجناح لا يعني أنك إن لم تفعل يصح، لا، إنه سبحانه يرد على حالة كانوا يتحرجون منها، وبما أن الصفا والمروة مكانان فقد جاء وصفهما بأنهما "من شعائر الله". "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" كأن الحج والعمرة لهما شيء يجعلهما في مقام الفرضية ولهما شيء آخر يجعلهما في مقام التطوع، فإن أدى المسلم الحج والعمرة مرة يكون قد أدى الفرض، وهذا لا يمنع من أن تكرار الحج والعمرة هو تطوع مقبول بإذن الله، له شكر من الله. وشكر الله لنا ولكم ،ولنا وقفة اخرى مع السعي ان شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2023-06-20, 5:21 am عدل 1 مرات