دفاعًا عن مجانية التعليم
السيد شبل
هل من المعقول أن "يشيطن" أحد مجانية التعليم، وفي ذات الجملة يبكي المجتمع لتفشي الأمية، وتراجع نسبة المتعلمين والبحث العلمي!.
بالعقل.. من هي الجهة المفترض بها تولي مسؤولية تعليم النشأ الصاعد، بصرف النظر عن مستوى أسرهم المادي أو الاجتماعي؟، وكيف نضمن أمانة هذه الجهة؟، وما الذي يجعلها مُجبرة على ذلك (وليس تفضلا منها أو منحة)؟، وكيف نضمن مساءلتها أمام السلطات الرقابية إن أهملت؟.. إن لم تكن الحكومة (الشعبية المنتخبة).. فمن تكون؟.
أما السردية الاحتيالية التلفيقية، التي تقول بأن «تقديم التعليم مجاني يساوي بين المجتهد والكسول، أو الموهوب ومحدود الكفاءة»، فالرد عليها، ببساطة أن التعليم المجاني، لم يساوي سوى في الفرصة (التي ينالها كل فرد بصرف النظر عن أصوله الطبقية أو المادية أو الاجتماعية؛ مع تثبيت منح قدر من التعليم مؤهل للجميع، أو منحهم الفرصة "الحقيقية" للتجربة واختبار قدراتهم)، أما المسار الطويل، فلن يصمد فيه إلا المميز، لأنه هو الشخص المؤهل لإكمال مراحل تعليمه، من تعليم أساسي حتى ثانوي فجامعي فسلك تدريس.. أما الأقل جهدا، أو الأفقر موهبة، فإما يستهلك مراحل رسوبه، فيتم رفته (فصله)، أو يتبين أنه غير مؤهل لتلقي العلم من الكراس، وأن الأنسب له الممارسة العملية (العمل اليدوي/المهني)، فيتم تحويله لانخفاض درجاته إلى التعليم الفني بعد الابتدائية أو الاعدادية (مع ترك هامش أمام الطالب إن أثبت تفوقا بدخول الجامعة المناسبة لتخصصه، كما يجري في المدارس التجارية والصناعية).
ثم من قال أن الكسل أو ضعف التحصيل (قدرًا لا تبديل فيه) ؟، من أفتى بأن الطالب منخفض الدرجات، لا يتحسن بالدعم والتدريس الإضافي والمساندة النفسية، وحلول المشكلات الاجتماعية.. وإلخ؟.
إن المجتمع الراغب في النهضة، عليه أن يقدم دعمًا عامًا لعموم النشأ، ودعمًا تدريسيًا مضاعفًا لمحدودي الذكاء منهم، واشتدادًا في شطب أي سبب (نفسي أو مادي أو اجتماعي) قد يحول بين الطالب والتحصيل، أما الاستسهال فهو جريمة في حق الفرد والمجتمع، مما يعني أن الفرصة الممنوحة للطفل لا بد أن تكون حقيقية، وأن تُستهلك فيها المحاولات كاملة، (هذ طبعا، يتكامل مع ضرورة الاهتمام بمستوى الطالب الموهوب وتنمية قدراته، والاستثمار فيه للمستقبل)، والحقيقة أن أي نكوص عن هذا الطريق، هو بوابة الفشل، ودليل على كسل السلطة وبلادتها بل وتآمرها، والمعين لها على مثل هذا شريك في الإثم.
هذا باب تحسين مستوى التعليم، ولا باب سواه.. وطابور من الدول الأوروبية (النموذج المثالي عند البعض!) تتسابق لإعلان قدرتها على توفير التعليم المجاني لمواطنيها في «كافة المراحل» ( فرنسا، ألمانيا، السويد، فنلندا، الدنمارك، النرويج، أستونيا..)، بل أن بعضا من الدول السابقة، تقدم دراسات عليا مجانية لمواطنيها، ولبعض الأجانب كمحاولة لنشر ثقافتها ولغتها وتحسين صورتها ومكانتها في العالم، وبعض هذه الدول "الأوروبية" تقدم راتبا شهريا للدارس.
العجيب أن البعض، بسوء نية متعمد، يتناسى ويشوش على، أن المتعلّم مجانيا، في النهاية تتمول مراحل تعليمه من عوائد ثرواته الطبيعية، ومن حاصل إعادة تدويرها، ومن الضرائب العامة، التي تؤخذ من الأكثر دخلا بحكم أنه الأكثر استغلالا للثروة العامة، والأكثر وضعا لليد على الملكية الخاصة بعموم الجماعة، كما أن سطلته (المنتخبة) مطالبة بإدراة اقتصاده، وحماية موراده من الهدر.. بالشكل الذي يؤمّن له تعليمًا وعلاجًا ووظيفة، وإخفاق السلطة في تدبير ما سبق، يعني عدم مناسبتها لمهمتها، وليس العكس.. مما يعني، بالأخير، أن الدارس بالمجان، لا يتمول من إحسان أحد، بل «حق»، فمن يملك حرمانه منه؟!.. حتى المتبرعون، للمدارس الحكومية، فهم بالنهاية، يعملون على تحسين أحوال مجتمع ووطن، يعيشون فيه، والعائد الإيجابي سيرتد على الجميع، وستشمل المحاسن الكل.
المدارس الحكومية وتكثيرها واتساعها وتحسينها، له أعظم مردود على المجتمع وتلاحمه، حيث تعمل دور المادة الصمغية التي تجمع النشأ أيا ما كان دخل الأسرة وأيا ما كانت طائفة التلميذ أو خلفيته الإثنية (خاصة في المدن الكبيرة التي تحظى بتنوع).. ولا شيء ضامن لتحقق ما سبق إلا عبر المدارس التي تؤسسها الدولة (التي تنوب عن الشعب، وتحت رقابته في إدارة ثرواته وتوظيفها..)، وبغير ذلك، تصبح هناك مدارس للفقراء ومحدودي الدخل وأخرى للأكثر ثراءا واكتنازا، وبالتدريج، تنحشر كل طائفة دينية أو مذهبية داخل مدرسة بعينها.. ويتفسخ المجتمع، ولا يصير التنوع سبب ثراء وتلاقح وباعث للحياة يعاظم الإحساس بها، وإنما نار تحت الرماد، وبطمس التعليم المجاني وتوجيه الرصاص إليه، فإنك بالختام ستحصل على مجتمع الـ ٥٪ متعلمين، والبقية جهلة.
أما بالمحصلة، فإن المتعلم، على النمط الغربي (وتسميته بالدولي كذبة، لأن خريجه في النهاية، لا يتعلم إلا بلغة واحدة ولا يتشبع إلا بثقافة واحدة، ولا يكون وعيه أمميًًا بل مستقبل لتأثير من طرف واحد في العالم الواسع).. سيبدو المتعلم منعزلا عن بيئته.. نافرا منها.. شاعرا بأنه غريب عنها، متفوق عليها (أيا ما كان قدر ثقافته ضحلة أو فائدته الاجتماعية منعدمة)، وغاية أحلامه ستتركز في التحول إلى ترس في ماكينة الشركات والكارتلات الغربية، عابرة الحدود، وهي -قطعا- واحدة من أهم مسببات تردي الأوضاع الاقتصادية في بلدان العالم الثالث، بسبب نزحها للربح من الداخل وكنزه في مصارف أوروبية، وبسبب تدميرها لتجارب التصنيع المحلي، وأخيرا وليس آخرا، بسبب نوعية أنشطتها الاستهلاكية غير الانتاجية.
بالختام.. هل هذا يعني أن تجربة التعليم المجاني (الحكومي) معدومة السلبيات؟، الواقع يقول أن التجربة بدأت في الانتكاس، تحديدًا، في الوقت الذي تمت فيه محاربتها، وإدانتها، وتنفيذ حملة دعاية منظمة ضدها، من جانب نخب نظامية أو نخب تحظى بدعم نظام الحكم في الـ 40 عامًا الماضية أو رجال الأعمال (في نسختهم المحلية أو المأمركة) الراغبين في تحقيق ثروات من وراء الاستثمار في العملية التعليمية، أي أن «التآمر» على إفشالها، تم بتعمد وبتسأهل عبر إهمال بناء مدارس جديدة أو تحسين أثاثات الموجودة أو تدريب المعلمين وترقية مستواهم أو تطوير المناهج وعصرنتها، هو الأساس في تدهورها.. وليست التجربة «فاشلة» من ذاتها، كما يحاول البعض الإيحاء بذلك.
وفي هذا نقتبس بعص ما قاله عبد الخالق فاروق، في كتابه «كم ينفق المصريون على التعليم؟»: «اندفع السادات دون حصافة في فتح أبواب الجحيم على المجتمع وفئاته الفقيرة تحت شعارات الانفتاح الاقتصادي وتحفيز الاستثمار»، وقد نتج عن هذه السياسات انهيار في منظومة التعليم الحكومي وظهر قطاع تعليم غير رسمي متمثل في الدروس الخصوصية «السوق السوداء للتعليم». على الجانب الآخر تضاعفت عدد المدارس الخاصة عشرات المرات وتحول التعليم لعملية ربحية وتجارية واستثمارية يحصل عليها من يملك ثمنها فقط، «هكذا سادت فوضى شاملة -بالمعنى الحقيقي لا المجازي- للكلمة، فتعددت الأنساق التعليمية والقيمية، وأصبح سوق التعليم المصري مغنمًا هائلًا يستحيل التخلي عنه حتى لو كان الثمن استمرار هذه الفوضى».. وبدأ تكدس الطلاب في المدارس وتراكم أعدادهم بالفصول، وتحول التعليم إلى "كابوس" في عقل الأسرة.
ويكمل فاروق، بخصوص إسهام نظام مبارك في «خصخصة» التعليم: « مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات شهدت المزيد من العبث بالمنظومة التعليمية، فمنذ عام 1987 وحتى عام 1992 أقرت الحكومة خطة خمسية هدفها ترشيد التعليم المجاني، جاءت تحت عنوان “مبارك والتعليم” ومن أبرز محاورها: اقتصار التعليم المجاني على التعليم الأساسي، ومجانية المراحل التالية للطالب الملتزم بوظيفته الاجتماعية كطالب، الدراسات العليا بمصروفات!، أما القادرون فارتضوا طواعية الإنفاق على أبنائهم في التعليم الخاص.
وقد دخلت هذه السياسات حيز التنفيذ عبر قانون رقم 101 لسنة 1992 الذي سمح بإنشاء جامعات خاصة كما سمح للجامعات الحكومية بإنشاء أقسام للتعليم باللغات الأجنبية مقابل مصروفات، وبهذا خلق هيكل اجتماعي جديد للتعليم الجامعي يقوم على فرز جديد للملتحقين بالجامعات الحكومية قائم على المصروفات، والمبالغة في درجات القبول بكليات القمة الحكومية، والتوسع في إنشاء أقسام اللغات الأجنبية مقابل مصروفات في الكليات الحكومية. نتج عن ذلك زيادة أعداد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة وهى الظاهرة التي يطلق عليها علماء الاجتماع (الإزاحة الاجتماعية)، حيث يعاد تشكيل المجتمع وفقًا لقوة النفوذ المالي للطبقات الجديدة». انتهى
ويُلاحظ أن الفترة التي أشار إليها عبدالخاق فاروق، تتزامن مع برامج هيكلة الافتصاد المصري بتوجيه من البنك الدولي، التي توسعت فيها الحكومة، وبدأ قطار الخصخصة في دهس مصانع القطاع العام، لـ«تكسيح» البلد أمام المصدر الخارجي.
فإذا عرفنا، أصل الداء، فقد أتممنا أول مراحل العلاج وأهمها، وهي التشخيص السليم.
وعندما نعترف بأن ثمة داء يسكن في جسد مريض، فإن العقل يقول بضرورة علاجه، لا قتله، وهنا يتأسس جدار صلب، بين من يبدي مساويء المدارس الحكومية بهدف علاجها، وبين «يبروزها» بهدف اغتيال المنظومة (والأعمال بالنوايا)، ونحن لا نريد التعمية على السلبيات، لأننا أنصار التجربة، وهي لا يمكن أن تستمر في ظل وجود هذه الأمراض والمشكلات، ولكن نريد (العلاج لا القتل).. كما أن الرأس المصاب بالصداع، يتناول صاحبه الدواء، ولا يذهب للسيّاف ليقطعه!.
السيد شبل
هل من المعقول أن "يشيطن" أحد مجانية التعليم، وفي ذات الجملة يبكي المجتمع لتفشي الأمية، وتراجع نسبة المتعلمين والبحث العلمي!.
بالعقل.. من هي الجهة المفترض بها تولي مسؤولية تعليم النشأ الصاعد، بصرف النظر عن مستوى أسرهم المادي أو الاجتماعي؟، وكيف نضمن أمانة هذه الجهة؟، وما الذي يجعلها مُجبرة على ذلك (وليس تفضلا منها أو منحة)؟، وكيف نضمن مساءلتها أمام السلطات الرقابية إن أهملت؟.. إن لم تكن الحكومة (الشعبية المنتخبة).. فمن تكون؟.
أما السردية الاحتيالية التلفيقية، التي تقول بأن «تقديم التعليم مجاني يساوي بين المجتهد والكسول، أو الموهوب ومحدود الكفاءة»، فالرد عليها، ببساطة أن التعليم المجاني، لم يساوي سوى في الفرصة (التي ينالها كل فرد بصرف النظر عن أصوله الطبقية أو المادية أو الاجتماعية؛ مع تثبيت منح قدر من التعليم مؤهل للجميع، أو منحهم الفرصة "الحقيقية" للتجربة واختبار قدراتهم)، أما المسار الطويل، فلن يصمد فيه إلا المميز، لأنه هو الشخص المؤهل لإكمال مراحل تعليمه، من تعليم أساسي حتى ثانوي فجامعي فسلك تدريس.. أما الأقل جهدا، أو الأفقر موهبة، فإما يستهلك مراحل رسوبه، فيتم رفته (فصله)، أو يتبين أنه غير مؤهل لتلقي العلم من الكراس، وأن الأنسب له الممارسة العملية (العمل اليدوي/المهني)، فيتم تحويله لانخفاض درجاته إلى التعليم الفني بعد الابتدائية أو الاعدادية (مع ترك هامش أمام الطالب إن أثبت تفوقا بدخول الجامعة المناسبة لتخصصه، كما يجري في المدارس التجارية والصناعية).
ثم من قال أن الكسل أو ضعف التحصيل (قدرًا لا تبديل فيه) ؟، من أفتى بأن الطالب منخفض الدرجات، لا يتحسن بالدعم والتدريس الإضافي والمساندة النفسية، وحلول المشكلات الاجتماعية.. وإلخ؟.
إن المجتمع الراغب في النهضة، عليه أن يقدم دعمًا عامًا لعموم النشأ، ودعمًا تدريسيًا مضاعفًا لمحدودي الذكاء منهم، واشتدادًا في شطب أي سبب (نفسي أو مادي أو اجتماعي) قد يحول بين الطالب والتحصيل، أما الاستسهال فهو جريمة في حق الفرد والمجتمع، مما يعني أن الفرصة الممنوحة للطفل لا بد أن تكون حقيقية، وأن تُستهلك فيها المحاولات كاملة، (هذ طبعا، يتكامل مع ضرورة الاهتمام بمستوى الطالب الموهوب وتنمية قدراته، والاستثمار فيه للمستقبل)، والحقيقة أن أي نكوص عن هذا الطريق، هو بوابة الفشل، ودليل على كسل السلطة وبلادتها بل وتآمرها، والمعين لها على مثل هذا شريك في الإثم.
هذا باب تحسين مستوى التعليم، ولا باب سواه.. وطابور من الدول الأوروبية (النموذج المثالي عند البعض!) تتسابق لإعلان قدرتها على توفير التعليم المجاني لمواطنيها في «كافة المراحل» ( فرنسا، ألمانيا، السويد، فنلندا، الدنمارك، النرويج، أستونيا..)، بل أن بعضا من الدول السابقة، تقدم دراسات عليا مجانية لمواطنيها، ولبعض الأجانب كمحاولة لنشر ثقافتها ولغتها وتحسين صورتها ومكانتها في العالم، وبعض هذه الدول "الأوروبية" تقدم راتبا شهريا للدارس.
العجيب أن البعض، بسوء نية متعمد، يتناسى ويشوش على، أن المتعلّم مجانيا، في النهاية تتمول مراحل تعليمه من عوائد ثرواته الطبيعية، ومن حاصل إعادة تدويرها، ومن الضرائب العامة، التي تؤخذ من الأكثر دخلا بحكم أنه الأكثر استغلالا للثروة العامة، والأكثر وضعا لليد على الملكية الخاصة بعموم الجماعة، كما أن سطلته (المنتخبة) مطالبة بإدراة اقتصاده، وحماية موراده من الهدر.. بالشكل الذي يؤمّن له تعليمًا وعلاجًا ووظيفة، وإخفاق السلطة في تدبير ما سبق، يعني عدم مناسبتها لمهمتها، وليس العكس.. مما يعني، بالأخير، أن الدارس بالمجان، لا يتمول من إحسان أحد، بل «حق»، فمن يملك حرمانه منه؟!.. حتى المتبرعون، للمدارس الحكومية، فهم بالنهاية، يعملون على تحسين أحوال مجتمع ووطن، يعيشون فيه، والعائد الإيجابي سيرتد على الجميع، وستشمل المحاسن الكل.
المدارس الحكومية وتكثيرها واتساعها وتحسينها، له أعظم مردود على المجتمع وتلاحمه، حيث تعمل دور المادة الصمغية التي تجمع النشأ أيا ما كان دخل الأسرة وأيا ما كانت طائفة التلميذ أو خلفيته الإثنية (خاصة في المدن الكبيرة التي تحظى بتنوع).. ولا شيء ضامن لتحقق ما سبق إلا عبر المدارس التي تؤسسها الدولة (التي تنوب عن الشعب، وتحت رقابته في إدارة ثرواته وتوظيفها..)، وبغير ذلك، تصبح هناك مدارس للفقراء ومحدودي الدخل وأخرى للأكثر ثراءا واكتنازا، وبالتدريج، تنحشر كل طائفة دينية أو مذهبية داخل مدرسة بعينها.. ويتفسخ المجتمع، ولا يصير التنوع سبب ثراء وتلاقح وباعث للحياة يعاظم الإحساس بها، وإنما نار تحت الرماد، وبطمس التعليم المجاني وتوجيه الرصاص إليه، فإنك بالختام ستحصل على مجتمع الـ ٥٪ متعلمين، والبقية جهلة.
أما بالمحصلة، فإن المتعلم، على النمط الغربي (وتسميته بالدولي كذبة، لأن خريجه في النهاية، لا يتعلم إلا بلغة واحدة ولا يتشبع إلا بثقافة واحدة، ولا يكون وعيه أمميًًا بل مستقبل لتأثير من طرف واحد في العالم الواسع).. سيبدو المتعلم منعزلا عن بيئته.. نافرا منها.. شاعرا بأنه غريب عنها، متفوق عليها (أيا ما كان قدر ثقافته ضحلة أو فائدته الاجتماعية منعدمة)، وغاية أحلامه ستتركز في التحول إلى ترس في ماكينة الشركات والكارتلات الغربية، عابرة الحدود، وهي -قطعا- واحدة من أهم مسببات تردي الأوضاع الاقتصادية في بلدان العالم الثالث، بسبب نزحها للربح من الداخل وكنزه في مصارف أوروبية، وبسبب تدميرها لتجارب التصنيع المحلي، وأخيرا وليس آخرا، بسبب نوعية أنشطتها الاستهلاكية غير الانتاجية.
بالختام.. هل هذا يعني أن تجربة التعليم المجاني (الحكومي) معدومة السلبيات؟، الواقع يقول أن التجربة بدأت في الانتكاس، تحديدًا، في الوقت الذي تمت فيه محاربتها، وإدانتها، وتنفيذ حملة دعاية منظمة ضدها، من جانب نخب نظامية أو نخب تحظى بدعم نظام الحكم في الـ 40 عامًا الماضية أو رجال الأعمال (في نسختهم المحلية أو المأمركة) الراغبين في تحقيق ثروات من وراء الاستثمار في العملية التعليمية، أي أن «التآمر» على إفشالها، تم بتعمد وبتسأهل عبر إهمال بناء مدارس جديدة أو تحسين أثاثات الموجودة أو تدريب المعلمين وترقية مستواهم أو تطوير المناهج وعصرنتها، هو الأساس في تدهورها.. وليست التجربة «فاشلة» من ذاتها، كما يحاول البعض الإيحاء بذلك.
وفي هذا نقتبس بعص ما قاله عبد الخالق فاروق، في كتابه «كم ينفق المصريون على التعليم؟»: «اندفع السادات دون حصافة في فتح أبواب الجحيم على المجتمع وفئاته الفقيرة تحت شعارات الانفتاح الاقتصادي وتحفيز الاستثمار»، وقد نتج عن هذه السياسات انهيار في منظومة التعليم الحكومي وظهر قطاع تعليم غير رسمي متمثل في الدروس الخصوصية «السوق السوداء للتعليم». على الجانب الآخر تضاعفت عدد المدارس الخاصة عشرات المرات وتحول التعليم لعملية ربحية وتجارية واستثمارية يحصل عليها من يملك ثمنها فقط، «هكذا سادت فوضى شاملة -بالمعنى الحقيقي لا المجازي- للكلمة، فتعددت الأنساق التعليمية والقيمية، وأصبح سوق التعليم المصري مغنمًا هائلًا يستحيل التخلي عنه حتى لو كان الثمن استمرار هذه الفوضى».. وبدأ تكدس الطلاب في المدارس وتراكم أعدادهم بالفصول، وتحول التعليم إلى "كابوس" في عقل الأسرة.
ويكمل فاروق، بخصوص إسهام نظام مبارك في «خصخصة» التعليم: « مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات شهدت المزيد من العبث بالمنظومة التعليمية، فمنذ عام 1987 وحتى عام 1992 أقرت الحكومة خطة خمسية هدفها ترشيد التعليم المجاني، جاءت تحت عنوان “مبارك والتعليم” ومن أبرز محاورها: اقتصار التعليم المجاني على التعليم الأساسي، ومجانية المراحل التالية للطالب الملتزم بوظيفته الاجتماعية كطالب، الدراسات العليا بمصروفات!، أما القادرون فارتضوا طواعية الإنفاق على أبنائهم في التعليم الخاص.
وقد دخلت هذه السياسات حيز التنفيذ عبر قانون رقم 101 لسنة 1992 الذي سمح بإنشاء جامعات خاصة كما سمح للجامعات الحكومية بإنشاء أقسام للتعليم باللغات الأجنبية مقابل مصروفات، وبهذا خلق هيكل اجتماعي جديد للتعليم الجامعي يقوم على فرز جديد للملتحقين بالجامعات الحكومية قائم على المصروفات، والمبالغة في درجات القبول بكليات القمة الحكومية، والتوسع في إنشاء أقسام اللغات الأجنبية مقابل مصروفات في الكليات الحكومية. نتج عن ذلك زيادة أعداد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة وهى الظاهرة التي يطلق عليها علماء الاجتماع (الإزاحة الاجتماعية)، حيث يعاد تشكيل المجتمع وفقًا لقوة النفوذ المالي للطبقات الجديدة». انتهى
ويُلاحظ أن الفترة التي أشار إليها عبدالخاق فاروق، تتزامن مع برامج هيكلة الافتصاد المصري بتوجيه من البنك الدولي، التي توسعت فيها الحكومة، وبدأ قطار الخصخصة في دهس مصانع القطاع العام، لـ«تكسيح» البلد أمام المصدر الخارجي.
فإذا عرفنا، أصل الداء، فقد أتممنا أول مراحل العلاج وأهمها، وهي التشخيص السليم.
وعندما نعترف بأن ثمة داء يسكن في جسد مريض، فإن العقل يقول بضرورة علاجه، لا قتله، وهنا يتأسس جدار صلب، بين من يبدي مساويء المدارس الحكومية بهدف علاجها، وبين «يبروزها» بهدف اغتيال المنظومة (والأعمال بالنوايا)، ونحن لا نريد التعمية على السلبيات، لأننا أنصار التجربة، وهي لا يمكن أن تستمر في ظل وجود هذه الأمراض والمشكلات، ولكن نريد (العلاج لا القتل).. كما أن الرأس المصاب بالصداع، يتناول صاحبه الدواء، ولا يذهب للسيّاف ليقطعه!.