مشفى كبير للمجانين
المؤلف:
شاهر جوهر
في سنوات السخاء والبَطَر لطالما وقف الرئيس أمام وسائل الإعلام الوطنية يرتدي بذة عسكرية أنيقة وحوله لفيف من أوليغارشية عسكرية لطالما أزعجتنا بخطاباتها التي تقول "أنّ الحرب ستقع ذات يوم في مكان ما في الجولان وبأي لحظة مع العدو، عندها سنقف صفاً واحداً ضد من يحاول تدميرعروبتنا"، لكنهم رغم بداهتم السياسية وخبرتهم في التحليل لم يخبروا أحد طوال سنوات الازدهار والعربدة متى ستكون ساعة الصفر، فقط كانوا متأكدين أن الحرب ستقع. وكنا كذلك متأكدين معهم في انقياد ديماغوجي غاية في الغباء أن لدينا قيادة حكيمة ونزيهة ستخرجنا منتصرين على العدو.
- لكن من العدو؟
- إسرائيل يا أهبل.
جميعنا كجنود وعمال ومزارعين وطلاب سألنا ذاك السؤال، وجائنا ببداهة ذاك الجواب، من ثم تابعنا الإعلام الرسمي بعيون شاخصة إلى الجبهة الغربية تملؤنا الحماسة وحب بلادنا، وكنا نصفّر في كل المناسبات وبحماسة ساخنة أيضاً لحناً قديماً من السبعينيات "بلاد العرب أوطاني"، وعلى هذا الأساس الرخو صيغت أكثر الشعارات مفارقة في تاريخ بلادنا "الممانعة والمقاومة". لتسير بعدها السلطة بطريق طويل لإفقار الشعب لأربعين عاماً، حيث ثلاثة أرباع الميزانية العامة تضخها السلطة لدعم الجيش، الذي دمرناه في أقل من أربع سنوات، في حين يوزع الربع الأخير لتخديم البنى التحتية وعلى عقد الاجتماعات الحزبية والأعياد الوطنية.
و بين يوم وليلة غدت القومية خرافة، بل كذبة كبيرة تروى كحكاية مشوّقة ينام لسماعها الأطفال حين يؤرقهم الليل. لكم خدعنا وضحكنا سراً في بيوتنا على تلك الكذبة التي صاغها أطباء مهرة ضمن أوليغارشية سلطوية أسقطت في لحظات شعار "أمة عربية واحدة "، لتنقلب العروبة إلى فردانية أنانية ترفع شعار "الأسد أو لا أحد".
كل شيء قد دمّر في لحظات، بل الأصح أن نقول أننا دمّرنا كل شيء، الصناعة تحطّمت، والمصانع بيعت قطع خردة صغيرة في دول الجوار الاقليمي، مقاولون طائفيون كبار وعمالقة من دول حليفة للسلطة يشترون منهم أراضٍ في العاصمة، ثم استباحوا كل شيء، المؤسسة العسكرية انهارت، والدشم والثكنات تحولت الى بيوت يسكنها نازحون. السدود جفّت وأمحل كل شيء، عاطفتنا، حبنا لهذه البلاد، ووجودنا كشعب واحد ومتجانس .
-وهذه كذبة أخرى
ففي جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول بلادنا، عربد مجتمع الوفرة الغربي بإسم الدول الخمس الكبرى حول طاولة مستديرة مفتوحة على الخيبة، والكل يتابع على وسائل الاعلام مسرحية بفصل جديد عنوانها "الشعب"، ردد الكل بالتناوب وفي عدوى سياسية تقليدية باهتة مقولتهم المؤلمة:
"الشعب السوري هو من يقرر مستقبله بنفسه".
أذكر في نفس السياق وفي مدرستي الإبتدائية في التسعينيات أن كتبت إدارة المدرسة على لوحة الإعلانات مقولة للرئيس الراحل وفق فلسفتة السياسية المعتادة وفي خط عريض:
"قوتان لا تقهران، قوة الله، وقوة الشعب "
نحن نعرف الله بالفطرة لكن :
- ما الشعب؟
- أنت الشعب يا حيوان.
- كيف أكون الشعب؟
- حين تتحد مع رفاقك في الصف، وحين يتحد الصف مع المدرسة، وحين تتحد مدرستك مع مدارس القطر تكوّنون الشعب. إفهم أنك أنت الشعب.
الشعب هي كذبة أخرى من كذبات آذار، وفصل جديد من فصول المزايدة. فأنا في الثانية والثلاثين، لي ابن وزوجة، وأمي امرأة عجوز لطالما تحدثني برومنسية بالغة عن حربي "الأيام الستة" وحرب "تشرين" وكيف كان هناك شعب إلتف حول أناه رغم الخسارة، ورغم الخيانة، أما الآن فلا أذكر أني عشت مع شعب، فليس في ذاكرتي سوى صوت الفوزديكا السورية وجنزير الدبابة يفرك الإسفلت في قريتي استعداداً لمعارك يومية نخوضها ضد بعضنا بإسم "الثورة" أو تحت مسمى "محاربة الإرهاب".
فعن أيّ شعب يتحدثون.
أصدقائي كثر ماتوا ودون علم لأجل أنفسهم وأبنائهم، ليس من أجل الشعب، فمنهم من كبّلت الحكومة يداه وأعدمته معصوب العينين في وادي سحيق في الجولان كي لا يرى أي صخرة ستهشم رأسه، ومنهم من خرج من المعتقل عقب مظاهرة خرج بها لاسقاط النظام وقد اضطرب حاله ولا تستطيع أكبر المصحات النفسية علاجه، ومنهم من مات تحت التعذيب، والباقون ممن لم تختطفهم أيد المخابرات يغنون الآن بلا أطراف وبوجوه مشوهة في الخنادق أو في مخيمات اللجوء أغنية حول السلام الشخصي، لكن ...
- "نحن شعب واحد، نحن سوريين ،وديننا واحد، لطفاً ساعدوني، اسم ابني "خالد" كان يخدم في السرية الرابعة في قرية صغيرة. من قرى الجولان قبل أن تنقطع أخباره، أبيه في مصح نفسي مذ قُتل ولدي الأصغر بقذيفة أسقطها النظام على حيّنا، وعندما انقطعت أخبار "خالد" في إحدى القطع العسكرية في الجولان ازداد حاله سوءاً .. بالله عليكم أخبروني عن مكان "خالد" لعلنا نترك هذي البلد ونعيش ما بقي لنا بلا حرب "
كان من الممكن أن نقول لهذه الثكلى أن "خالد" قُتل هو الآخر حين سيطر الثوار على السريّة وقبض عليه يدافع عن ثكنته أو عن شيء آخر لا أعرفه، لكن ما أعرفه أنه لم يكن ليدافع عن الشعب، هذا الموقف الوحيد الذي أثبت لي أننا لازلنا شعب واحد، أقصد أننا إلتففنا حول ألمها وآلمتنا دمعتها فقط، أنا لا أقول بالعويل والنواح، بل بدمعة واحدة اختنقت في عيون الجميع.
كان من الممكن أن أقول لها : " أيتها السيدة المحزونة اسمي "شاهر" واسمي لا يعيبني،وأنّ "خالد" ابنك هناك قُتل في حرب "الآخرين" في حين لا تبعد عنه إسرائيل بضعة كيلومترات، كما قُتل الجميع ببرودة ودون معرفة من العدو ولأجل مَنْ نُقتل ولأجل مَنْ نقاتل" .
لكنّ عيناها الدامعتان مثل عيون جميع الأمهات البواكي في سوريا تؤلمني وتخجلني لأقول الحقيقة، وتخبرني أننا نعيش في مشفى كبير للمجانين.
المؤلف:
شاهر جوهر
في سنوات السخاء والبَطَر لطالما وقف الرئيس أمام وسائل الإعلام الوطنية يرتدي بذة عسكرية أنيقة وحوله لفيف من أوليغارشية عسكرية لطالما أزعجتنا بخطاباتها التي تقول "أنّ الحرب ستقع ذات يوم في مكان ما في الجولان وبأي لحظة مع العدو، عندها سنقف صفاً واحداً ضد من يحاول تدميرعروبتنا"، لكنهم رغم بداهتم السياسية وخبرتهم في التحليل لم يخبروا أحد طوال سنوات الازدهار والعربدة متى ستكون ساعة الصفر، فقط كانوا متأكدين أن الحرب ستقع. وكنا كذلك متأكدين معهم في انقياد ديماغوجي غاية في الغباء أن لدينا قيادة حكيمة ونزيهة ستخرجنا منتصرين على العدو.
- لكن من العدو؟
- إسرائيل يا أهبل.
جميعنا كجنود وعمال ومزارعين وطلاب سألنا ذاك السؤال، وجائنا ببداهة ذاك الجواب، من ثم تابعنا الإعلام الرسمي بعيون شاخصة إلى الجبهة الغربية تملؤنا الحماسة وحب بلادنا، وكنا نصفّر في كل المناسبات وبحماسة ساخنة أيضاً لحناً قديماً من السبعينيات "بلاد العرب أوطاني"، وعلى هذا الأساس الرخو صيغت أكثر الشعارات مفارقة في تاريخ بلادنا "الممانعة والمقاومة". لتسير بعدها السلطة بطريق طويل لإفقار الشعب لأربعين عاماً، حيث ثلاثة أرباع الميزانية العامة تضخها السلطة لدعم الجيش، الذي دمرناه في أقل من أربع سنوات، في حين يوزع الربع الأخير لتخديم البنى التحتية وعلى عقد الاجتماعات الحزبية والأعياد الوطنية.
و بين يوم وليلة غدت القومية خرافة، بل كذبة كبيرة تروى كحكاية مشوّقة ينام لسماعها الأطفال حين يؤرقهم الليل. لكم خدعنا وضحكنا سراً في بيوتنا على تلك الكذبة التي صاغها أطباء مهرة ضمن أوليغارشية سلطوية أسقطت في لحظات شعار "أمة عربية واحدة "، لتنقلب العروبة إلى فردانية أنانية ترفع شعار "الأسد أو لا أحد".
كل شيء قد دمّر في لحظات، بل الأصح أن نقول أننا دمّرنا كل شيء، الصناعة تحطّمت، والمصانع بيعت قطع خردة صغيرة في دول الجوار الاقليمي، مقاولون طائفيون كبار وعمالقة من دول حليفة للسلطة يشترون منهم أراضٍ في العاصمة، ثم استباحوا كل شيء، المؤسسة العسكرية انهارت، والدشم والثكنات تحولت الى بيوت يسكنها نازحون. السدود جفّت وأمحل كل شيء، عاطفتنا، حبنا لهذه البلاد، ووجودنا كشعب واحد ومتجانس .
-وهذه كذبة أخرى
ففي جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول بلادنا، عربد مجتمع الوفرة الغربي بإسم الدول الخمس الكبرى حول طاولة مستديرة مفتوحة على الخيبة، والكل يتابع على وسائل الاعلام مسرحية بفصل جديد عنوانها "الشعب"، ردد الكل بالتناوب وفي عدوى سياسية تقليدية باهتة مقولتهم المؤلمة:
"الشعب السوري هو من يقرر مستقبله بنفسه".
أذكر في نفس السياق وفي مدرستي الإبتدائية في التسعينيات أن كتبت إدارة المدرسة على لوحة الإعلانات مقولة للرئيس الراحل وفق فلسفتة السياسية المعتادة وفي خط عريض:
"قوتان لا تقهران، قوة الله، وقوة الشعب "
نحن نعرف الله بالفطرة لكن :
- ما الشعب؟
- أنت الشعب يا حيوان.
- كيف أكون الشعب؟
- حين تتحد مع رفاقك في الصف، وحين يتحد الصف مع المدرسة، وحين تتحد مدرستك مع مدارس القطر تكوّنون الشعب. إفهم أنك أنت الشعب.
الشعب هي كذبة أخرى من كذبات آذار، وفصل جديد من فصول المزايدة. فأنا في الثانية والثلاثين، لي ابن وزوجة، وأمي امرأة عجوز لطالما تحدثني برومنسية بالغة عن حربي "الأيام الستة" وحرب "تشرين" وكيف كان هناك شعب إلتف حول أناه رغم الخسارة، ورغم الخيانة، أما الآن فلا أذكر أني عشت مع شعب، فليس في ذاكرتي سوى صوت الفوزديكا السورية وجنزير الدبابة يفرك الإسفلت في قريتي استعداداً لمعارك يومية نخوضها ضد بعضنا بإسم "الثورة" أو تحت مسمى "محاربة الإرهاب".
فعن أيّ شعب يتحدثون.
أصدقائي كثر ماتوا ودون علم لأجل أنفسهم وأبنائهم، ليس من أجل الشعب، فمنهم من كبّلت الحكومة يداه وأعدمته معصوب العينين في وادي سحيق في الجولان كي لا يرى أي صخرة ستهشم رأسه، ومنهم من خرج من المعتقل عقب مظاهرة خرج بها لاسقاط النظام وقد اضطرب حاله ولا تستطيع أكبر المصحات النفسية علاجه، ومنهم من مات تحت التعذيب، والباقون ممن لم تختطفهم أيد المخابرات يغنون الآن بلا أطراف وبوجوه مشوهة في الخنادق أو في مخيمات اللجوء أغنية حول السلام الشخصي، لكن ...
- "نحن شعب واحد، نحن سوريين ،وديننا واحد، لطفاً ساعدوني، اسم ابني "خالد" كان يخدم في السرية الرابعة في قرية صغيرة. من قرى الجولان قبل أن تنقطع أخباره، أبيه في مصح نفسي مذ قُتل ولدي الأصغر بقذيفة أسقطها النظام على حيّنا، وعندما انقطعت أخبار "خالد" في إحدى القطع العسكرية في الجولان ازداد حاله سوءاً .. بالله عليكم أخبروني عن مكان "خالد" لعلنا نترك هذي البلد ونعيش ما بقي لنا بلا حرب "
كان من الممكن أن نقول لهذه الثكلى أن "خالد" قُتل هو الآخر حين سيطر الثوار على السريّة وقبض عليه يدافع عن ثكنته أو عن شيء آخر لا أعرفه، لكن ما أعرفه أنه لم يكن ليدافع عن الشعب، هذا الموقف الوحيد الذي أثبت لي أننا لازلنا شعب واحد، أقصد أننا إلتففنا حول ألمها وآلمتنا دمعتها فقط، أنا لا أقول بالعويل والنواح، بل بدمعة واحدة اختنقت في عيون الجميع.
كان من الممكن أن أقول لها : " أيتها السيدة المحزونة اسمي "شاهر" واسمي لا يعيبني،وأنّ "خالد" ابنك هناك قُتل في حرب "الآخرين" في حين لا تبعد عنه إسرائيل بضعة كيلومترات، كما قُتل الجميع ببرودة ودون معرفة من العدو ولأجل مَنْ نُقتل ولأجل مَنْ نقاتل" .
لكنّ عيناها الدامعتان مثل عيون جميع الأمهات البواكي في سوريا تؤلمني وتخجلني لأقول الحقيقة، وتخبرني أننا نعيش في مشفى كبير للمجانين.