في نقدِ العلمانيّة (2)
7/6/2017
خديجة الساعدي
يصعبُ أن ينكرَ أحدٌ مِن دارسِي التاريخِ سلوكَ المشروعِ العلمانيِّ سبيلَ العنفِ في فرضِ نفسهِ ابتداءً، فلم تكُن العلمانيّةُ حينَ فرضَت نفسَها على المجتمعاتِ الغربيّةِ وليدةَ إرادةٍ شعبيّةٍ كاملةٍ، ولم تأتِ بطريقٍ سلميٍّ. ومعَ ذلكَ فإن أحدًا لن ينكرَ أنّ الشعوبَ في المجتمعاتِ الغربيّةِ آمنت وسلّمت بعدَ ذلكَ لمَا فُرِضَ عليها واندمجَت مع طبيعتهِ لظروفٍ وعواملَ تتعلّقُ بطبيعةِ العقيدةِ المسيحيّةِ، وبعلاقةِ الكنيسةِ بالظروفِ السياسيةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ السيّئةِ التي شكّلت مرحلةَ ما قبلَ العلمانيّةِ في أوروبَّا.
ومِن هنا يبرزُ تساؤلٌ جوهريٌّ مهمٌ، وهوَ: من أينَ تكتسِبُ العلمانيّةُ الأحقيّةَ في فرضِ نفسِها نظامًا سياسيًّا وفكريًّا وثقافيًّا على أيِّ مجتمعٍ من المُجتمعات؟ فإذا سوّغنا فرضَ المشروعِ العلمانيِّ في أوروبّا بتقبّلِ الشعوبِ لهُ واندماجها معَ طبيعتهِ وسلّمنا بأنّ ذلكَ يمنحهُ الأحقيّةَ في صياغةِ أسلوبِ الحياةِ في المجتمعاتِ الغربيّةِ متجاوزينَ ظروفَ نشأتهِ العنيفةِ وما تعلّقَ بها، فإنّ التساؤلَ يظلُّ قائمًا فيما يتعلّقُ بحالِ المجتمعاتِ المسلمةِ التي فُرِضت عليها العلمانيّةُ فرضًا بالعنفِ والديكتاتوريّةِ على أنّها لا تزالُ تقاومُ المشروعَ العلمانيَّ وترفضُهُ.
يمجّدُ العلمانيّونَ أتاتورك باعتبارهِ محرّرًا لتركيَا من إسلامويّتها، ويمجدونَ بورقيبة على ذاتِ الاعتبارِ، وكلا الرجلينِ ديكتاتوريينِ ظالِمَينِ مارسَا جرائمَ بشعةً في حقّ شعوبهما الرافضةِ للمشروعِ العلمانيّ
الدينُ عقيدةٌ وفكرَة، وكذلكَ العلمانيّةُ عقيدةٌ وفكرَة، وإذا كانَ الدينُ يكتسِبُ قداسَتَهُ من مرجعيّتهِ السّماويّة، فإنّ العلمانيّةَ خلعَت على نفسِها القداسَةَ من كونِها نتاجَ عقولٍ بشريّةٍ، وهذا لن يُكسِبَ العلمانيّةَ كعقيدةٍ وفكرةٍ أيّ ميزةٍ على الدينِ أو على التصوّراتِ الدينيّةِ حتى وإن سلّمنا جدلًا لمن ينكرُ المرجعيّةَ السّماويّة للدين، فهوَ إن أنكرَها جعلَ الدينَ أيضًا من نتاجِ عقولٍ بشريَّة.
فلماذَا يكونُ العقلُ العلمانيُّ معيارًا لما يُفترَضُ وجودُهُ وبقاؤُهُ، ولا يكونُ العقلُ الدينيُ، أو العقلُ الإنسانيُّ المؤمنُ بالتصوّرِ الدّينيِّ معيارًا لمَا يُفترَضُ وجودُهُ وبقاؤُهُ؟ تزدادُ هذهِ الإشكاليّةُ تعقيدًا إذا عرفنا أنّ العلمانيّةَ تجعلُ الحريّةَ مبدأً من مبادئها بما في ذلكَ حريّةُ الاعتقاد وحريّةُ الشعوبِ في تقريرِ دستورِها ونظامِها السياسيِّ، إذ إنَّ هذا يضعُها في تناقضٍ صارخٍ معَ نفسِها داخلَ الواقعِ الإسلاميِّ الذي يرفضُها.
قد يجيبُ العلمانيونَ على هذا التساؤلِ المطروحِ بقولهم إنّ العلمانيّةَ مفهومٌ سلبيٌّ لا إيجابيّ، فلا يمكنُ رفضهُ، لكنّ الحقيقةَ أنّهُ ليسَ مفهومًا سلبيًّا إلا من جانبٍ واحدٍ هوَ تحييدهُ للدين، لكنّهُ يضعُ بدلَ الدينِ فكرًا وتفسيرًا للحياةِ وقوانينَ منبثقةً من هذا الفكرِ وهذا التفسيرِ ملزمةً للمجتمعِ الذي تكونُ العلمانيّةُ نظامَهُ المُعتمَد، فالعلمانيةُ كأي عقيدةٍ دينيّةٍ أو فكريّةٍ أو سياسيّةٍ تحملُ داخلها مفهوماتٍ سلبيّةً وإيجابيّة، فليست نفيًا مطلقًا، ولا إيجابًا مطلقًا، ولو كانَت العلمانيّةُ مفهومًا سلبيًّا بالكُليّةِ لما وجدَت طريقها للتطبيق، ولما وجدنا مشاريعَ علمانيةً تطرحُ نفسَها وبرامجهَا وأفكارَها على النّخَب، فلا الشعوبُ يمكنُ أن تخضعَ لمفهومٍ سلبيٍّ، ولا الحياةُ يمكنُ أن تسيّرَ بمفهومٍ سلبيّ.
فلا يزالُ الإشكالُ قائمًا إذن، ولا تزالُ النخبُ العلمانيّةُ عاجزةً عن حلّهِ، بل إنّ بعضَ النخبِ تجاوزت الإشكالَ ومنحَت لنفسِها الأحقيّةَ في مصادرةِ حقّ الشعوبِ في رفضِ العلمانيّةِ واقعةً في تناقُضٍ بينَ التنظيرِ الذي يرفعُ شعارَ حريّةِ الشعوبِ وبينَ التطبيقِ الذي لم يستطِع أن يتماشَى مع تلكَ الحريّةِ التي تهددهُ في نفسِه.
يمجّدُ العلمانيّونَ أتاتورك باعتبارهِ محرّرًا لتركيَا من إسلامويّتها، ويمجدونَ بورقيبة على ذاتِ الاعتبارِ، وكلا الرجلينِ ديكتاتوريينِ ظالِمَينِ مارسَا جرائمَ بشعةً في حقّ شعوبهما الرافضةِ للمشروعِ العلمانيّ، وفرضَا عبرَ القوةِ العسكريّةِ والسلطةِ الاستبداديّةِ تغييرًا جذريًّا على ثقافةِ الشعبِ لم يتدخلِ الشعبُ في اختيارهِ ولا في صياغتهِ لنفسهِ.
حينَ ندرسُ سلوكيّاتِ النخبِ العلمانيةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ بشكلٍ أخصّ، يمكننا أن نتفهّمَ الدوافعَ التي تجعلُ من العلمانيِّ مثقفًا متناقضًا، إذ أنّ الإشكاليّةَ المطروحةَ عميقةٌ إلى الحدِّ الذي يمسُّ وجوديّةَ الفكرِ العلمانيِّ نفسهِ
بل ويسوّغ المثقفونَ العلمانيونَ هذه الديكتاتوريّة، حتّى إن المفكر الفرنسيّ غوستاف لوبون صاحب كتاب الثوراتِ، قالَ في كتابهِ مسوّغًا ديكتاتوريّةَ أتاتورك بعبارةٍ صريحَة: "ولا يجوزُ أن يُلامُوا على ذلك، فماذا يفعلونَ في تحويلِ أمّةٍ ذات تقاليدَ قديمةٍ راسخةٍ وذات عواطفَ دينيّةٍ قويّة؟ وكيفَ لا يبقى الإسلامُ دينَ الدولةِ في بلادٍ اتحدَ فيها الشرعُ المدنيُّ والشرعُ الدينيُّ وقامَ فيها المبدأ الوطنيُّ على الإيمانِ بالقرآن؟ يصعبُ ذلك. ولهذا رجعت تركيَا إلى نظامٍ استبداديٍّ ذي مسحةٍ دستوريّةٍ كنظامِها السّابق".
هكذا يلعبُ المثقّفُ العلمانيُّ -وهو يسوّغُ ديكتاتوريّةَ المشاريعِ العلمانيّةِ- دورَ شرطيِّ الأفكارِ، وإلهِ الشعوبِ، والمتحدّثِ الرسميَّ باسمِ العقلِ، يجعلُ من عقيدتهِ الفكريّةِ معيارًا ينطلقُ منهُ في تقريرِ ما هو رجعيٌّ ومتخلّفٌ ومرفوضٌ وإن آمنت بهِ الشعوبُ، وما هو حداثيٌّ ومتقدّمٌ وجديرٌ بالتطبيقِ وإن رفضتهُ الشعوب، رافضًا في السياقِ العمليِّ أن يُشاركَهُ في هذا الدّورِ غيرُه، وإلّا ناصبهُ العداوةَ باسمِ الحريّةِ والشعاراتِ ذاتِها التي يرفعُها تنظيرًا ويناقضُها تطبيقًا. ونحنُ حينَ ندرسُ سلوكيّاتِ النخبِ العلمانيةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ بشكلٍ أخصّ، يمكننا أن نتفهّمَ الدوافعَ التي تجعلُ من العلمانيِّ مثقفًا متناقضًا، إذ أنّ الإشكاليّةَ المطروحةَ عميقةٌ إلى الحدِّ الذي يمسُّ وجوديّةَ الفكرِ العلمانيِّ نفسهِ.
7/6/2017
خديجة الساعدي
يصعبُ أن ينكرَ أحدٌ مِن دارسِي التاريخِ سلوكَ المشروعِ العلمانيِّ سبيلَ العنفِ في فرضِ نفسهِ ابتداءً، فلم تكُن العلمانيّةُ حينَ فرضَت نفسَها على المجتمعاتِ الغربيّةِ وليدةَ إرادةٍ شعبيّةٍ كاملةٍ، ولم تأتِ بطريقٍ سلميٍّ. ومعَ ذلكَ فإن أحدًا لن ينكرَ أنّ الشعوبَ في المجتمعاتِ الغربيّةِ آمنت وسلّمت بعدَ ذلكَ لمَا فُرِضَ عليها واندمجَت مع طبيعتهِ لظروفٍ وعواملَ تتعلّقُ بطبيعةِ العقيدةِ المسيحيّةِ، وبعلاقةِ الكنيسةِ بالظروفِ السياسيةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ السيّئةِ التي شكّلت مرحلةَ ما قبلَ العلمانيّةِ في أوروبَّا.
ومِن هنا يبرزُ تساؤلٌ جوهريٌّ مهمٌ، وهوَ: من أينَ تكتسِبُ العلمانيّةُ الأحقيّةَ في فرضِ نفسِها نظامًا سياسيًّا وفكريًّا وثقافيًّا على أيِّ مجتمعٍ من المُجتمعات؟ فإذا سوّغنا فرضَ المشروعِ العلمانيِّ في أوروبّا بتقبّلِ الشعوبِ لهُ واندماجها معَ طبيعتهِ وسلّمنا بأنّ ذلكَ يمنحهُ الأحقيّةَ في صياغةِ أسلوبِ الحياةِ في المجتمعاتِ الغربيّةِ متجاوزينَ ظروفَ نشأتهِ العنيفةِ وما تعلّقَ بها، فإنّ التساؤلَ يظلُّ قائمًا فيما يتعلّقُ بحالِ المجتمعاتِ المسلمةِ التي فُرِضت عليها العلمانيّةُ فرضًا بالعنفِ والديكتاتوريّةِ على أنّها لا تزالُ تقاومُ المشروعَ العلمانيَّ وترفضُهُ.
يمجّدُ العلمانيّونَ أتاتورك باعتبارهِ محرّرًا لتركيَا من إسلامويّتها، ويمجدونَ بورقيبة على ذاتِ الاعتبارِ، وكلا الرجلينِ ديكتاتوريينِ ظالِمَينِ مارسَا جرائمَ بشعةً في حقّ شعوبهما الرافضةِ للمشروعِ العلمانيّ
الدينُ عقيدةٌ وفكرَة، وكذلكَ العلمانيّةُ عقيدةٌ وفكرَة، وإذا كانَ الدينُ يكتسِبُ قداسَتَهُ من مرجعيّتهِ السّماويّة، فإنّ العلمانيّةَ خلعَت على نفسِها القداسَةَ من كونِها نتاجَ عقولٍ بشريّةٍ، وهذا لن يُكسِبَ العلمانيّةَ كعقيدةٍ وفكرةٍ أيّ ميزةٍ على الدينِ أو على التصوّراتِ الدينيّةِ حتى وإن سلّمنا جدلًا لمن ينكرُ المرجعيّةَ السّماويّة للدين، فهوَ إن أنكرَها جعلَ الدينَ أيضًا من نتاجِ عقولٍ بشريَّة.
فلماذَا يكونُ العقلُ العلمانيُّ معيارًا لما يُفترَضُ وجودُهُ وبقاؤُهُ، ولا يكونُ العقلُ الدينيُ، أو العقلُ الإنسانيُّ المؤمنُ بالتصوّرِ الدّينيِّ معيارًا لمَا يُفترَضُ وجودُهُ وبقاؤُهُ؟ تزدادُ هذهِ الإشكاليّةُ تعقيدًا إذا عرفنا أنّ العلمانيّةَ تجعلُ الحريّةَ مبدأً من مبادئها بما في ذلكَ حريّةُ الاعتقاد وحريّةُ الشعوبِ في تقريرِ دستورِها ونظامِها السياسيِّ، إذ إنَّ هذا يضعُها في تناقضٍ صارخٍ معَ نفسِها داخلَ الواقعِ الإسلاميِّ الذي يرفضُها.
قد يجيبُ العلمانيونَ على هذا التساؤلِ المطروحِ بقولهم إنّ العلمانيّةَ مفهومٌ سلبيٌّ لا إيجابيّ، فلا يمكنُ رفضهُ، لكنّ الحقيقةَ أنّهُ ليسَ مفهومًا سلبيًّا إلا من جانبٍ واحدٍ هوَ تحييدهُ للدين، لكنّهُ يضعُ بدلَ الدينِ فكرًا وتفسيرًا للحياةِ وقوانينَ منبثقةً من هذا الفكرِ وهذا التفسيرِ ملزمةً للمجتمعِ الذي تكونُ العلمانيّةُ نظامَهُ المُعتمَد، فالعلمانيةُ كأي عقيدةٍ دينيّةٍ أو فكريّةٍ أو سياسيّةٍ تحملُ داخلها مفهوماتٍ سلبيّةً وإيجابيّة، فليست نفيًا مطلقًا، ولا إيجابًا مطلقًا، ولو كانَت العلمانيّةُ مفهومًا سلبيًّا بالكُليّةِ لما وجدَت طريقها للتطبيق، ولما وجدنا مشاريعَ علمانيةً تطرحُ نفسَها وبرامجهَا وأفكارَها على النّخَب، فلا الشعوبُ يمكنُ أن تخضعَ لمفهومٍ سلبيٍّ، ولا الحياةُ يمكنُ أن تسيّرَ بمفهومٍ سلبيّ.
فلا يزالُ الإشكالُ قائمًا إذن، ولا تزالُ النخبُ العلمانيّةُ عاجزةً عن حلّهِ، بل إنّ بعضَ النخبِ تجاوزت الإشكالَ ومنحَت لنفسِها الأحقيّةَ في مصادرةِ حقّ الشعوبِ في رفضِ العلمانيّةِ واقعةً في تناقُضٍ بينَ التنظيرِ الذي يرفعُ شعارَ حريّةِ الشعوبِ وبينَ التطبيقِ الذي لم يستطِع أن يتماشَى مع تلكَ الحريّةِ التي تهددهُ في نفسِه.
يمجّدُ العلمانيّونَ أتاتورك باعتبارهِ محرّرًا لتركيَا من إسلامويّتها، ويمجدونَ بورقيبة على ذاتِ الاعتبارِ، وكلا الرجلينِ ديكتاتوريينِ ظالِمَينِ مارسَا جرائمَ بشعةً في حقّ شعوبهما الرافضةِ للمشروعِ العلمانيّ، وفرضَا عبرَ القوةِ العسكريّةِ والسلطةِ الاستبداديّةِ تغييرًا جذريًّا على ثقافةِ الشعبِ لم يتدخلِ الشعبُ في اختيارهِ ولا في صياغتهِ لنفسهِ.
حينَ ندرسُ سلوكيّاتِ النخبِ العلمانيةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ بشكلٍ أخصّ، يمكننا أن نتفهّمَ الدوافعَ التي تجعلُ من العلمانيِّ مثقفًا متناقضًا، إذ أنّ الإشكاليّةَ المطروحةَ عميقةٌ إلى الحدِّ الذي يمسُّ وجوديّةَ الفكرِ العلمانيِّ نفسهِ
بل ويسوّغ المثقفونَ العلمانيونَ هذه الديكتاتوريّة، حتّى إن المفكر الفرنسيّ غوستاف لوبون صاحب كتاب الثوراتِ، قالَ في كتابهِ مسوّغًا ديكتاتوريّةَ أتاتورك بعبارةٍ صريحَة: "ولا يجوزُ أن يُلامُوا على ذلك، فماذا يفعلونَ في تحويلِ أمّةٍ ذات تقاليدَ قديمةٍ راسخةٍ وذات عواطفَ دينيّةٍ قويّة؟ وكيفَ لا يبقى الإسلامُ دينَ الدولةِ في بلادٍ اتحدَ فيها الشرعُ المدنيُّ والشرعُ الدينيُّ وقامَ فيها المبدأ الوطنيُّ على الإيمانِ بالقرآن؟ يصعبُ ذلك. ولهذا رجعت تركيَا إلى نظامٍ استبداديٍّ ذي مسحةٍ دستوريّةٍ كنظامِها السّابق".
هكذا يلعبُ المثقّفُ العلمانيُّ -وهو يسوّغُ ديكتاتوريّةَ المشاريعِ العلمانيّةِ- دورَ شرطيِّ الأفكارِ، وإلهِ الشعوبِ، والمتحدّثِ الرسميَّ باسمِ العقلِ، يجعلُ من عقيدتهِ الفكريّةِ معيارًا ينطلقُ منهُ في تقريرِ ما هو رجعيٌّ ومتخلّفٌ ومرفوضٌ وإن آمنت بهِ الشعوبُ، وما هو حداثيٌّ ومتقدّمٌ وجديرٌ بالتطبيقِ وإن رفضتهُ الشعوب، رافضًا في السياقِ العمليِّ أن يُشاركَهُ في هذا الدّورِ غيرُه، وإلّا ناصبهُ العداوةَ باسمِ الحريّةِ والشعاراتِ ذاتِها التي يرفعُها تنظيرًا ويناقضُها تطبيقًا. ونحنُ حينَ ندرسُ سلوكيّاتِ النخبِ العلمانيةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ بشكلٍ أخصّ، يمكننا أن نتفهّمَ الدوافعَ التي تجعلُ من العلمانيِّ مثقفًا متناقضًا، إذ أنّ الإشكاليّةَ المطروحةَ عميقةٌ إلى الحدِّ الذي يمسُّ وجوديّةَ الفكرِ العلمانيِّ نفسهِ.