الله واجب الوجود
أمَّا أنَّهُ لا بدَّ للأشياءِ مِن خالقٍ يخلُقُها فـذلك أنَّ الأشـ ياءَ الـتي
يُدرِكُها العقلُ هي الإنسانُ والحياةُ والكونُ، وهذه الأشياءُ محدودةٌ، فهـي
اجزةٌ وناقصةٌ ومحتاجةٌ إلى غيرِهَا. فالإنسانُ محدودٌ لأنَّهُ ينمُو في كلِّ شيءٍ
إلى حَدٍ لا يتجاوَزُهُ، فهو محدودٌ. والحياةُ محدودةٌ، لأنَّ مظهَرها فرديٌ فَقَطْ،
والمُشاهَدُ بالحِسِّ أنَّها تَنْتَهِي في الفردِ فهي محدودةٌ. والكونُ محـدودٌ لأنـه
مجموعُ أَجرامٍ وكلُّ جِرْمٍ مِنها محدودٌ، ومجموعُ المحدوداتِ محـدودٌ بداهـةً،
فالكونُ محدودٌ. وعلى ذلك فالإنسانُ والحياةُ والكوْنُ محدودةٌ قطعاً.
وحينَ ننظُرُ إلى المحدودِ نجدُهُ ليسَ أَزَلِياً وإلا لمَا كان محدوداً فلا بـدَّ
مِنْ أنْ يكونَ المحدودُ مخلوقاً لغيرِهِ، وهذا الغيرُ هو خالقُ الإ نـسانِ والحيـاةِ
والكونِ، وهو إِمَّا أَنْ يكونَ مخلوقاً لغيرِهِ، أَوْ خالقاً لنفسِهِ، أو أزلياً واجـبَ
الوجـودِ. أمَّا أنَّـهُ مخـلوقٌ لغيرِهِ فباطـلٌ، لأنَّـهُ يكـونُ محــدوداً،
وأمـا أنَّـهُ خالقٌ لنفسِهِ فباطلٌ أيضاً، لأنه يكونُ مخلوقاً لنفـسِهِ وخالقـاً
لنفسِهِ في آنٍ واحدٍ، وهذا باطـلٌ أيضـاً، فلا بُـدَّ أَنْ يكونَ الخالقُ أزليـاً
واجبَ الوجودِ وهو االلهُ تعالى.
على أنَّ كلَّ مَنْ كان لَهُ عقلٌ، يُدرِكُ من مجرَّدِ وجودِ الأشياءِ التي
يقَعُ عليْها حِسُّهُ، أَنَّ لهَا خالقاً خَلَقَهَا، لأَنَّ المشاهَدَ فيها جميعِهَا أَنَّها ناقصةٌ،
وعاجزةٌ ومحتاجةٌ لغيرِهَا، فهي مخلوقةٌ قطعاً. ولذلك يكفِي أنْ يُلْفَتَ النَظَرُ
إِلى أَيِّ شيءٍ في الكونِ والحياةِ والإنسانِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على وجودِ الخالقِ
المدبِّرِ. فالنَظَرُ إلى أَيِّ كَوْكَبٍ مِنَ الكواكبِ في الكونِ، والتأَمُّلُ في أَيِّ
مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الحياةِ، وإِدراكُ أَيِّ ناحيةٍ في الإنسانِ، لَيَدُلُّ دِلالةً قطعيةً
على وجودِ االلهِ تعالى. ولذلكَ نَجِدُ القرآنَ الكريمَ يَلْفِتُ النَظَرَ إلى الأشياءِ،
ويدعُو الإنسانَ لأَنْ ينظُرَ إِليها وإلى ما حَوْلَهَا وما يتعلَّقُ بِهَا، ويَسْتَدِلُّ بذلك
على وجودِ االلهِ تعالى. إِذْ ينظرُ إِلى الأشياءِ كَيْفَ أَنَّهَا محتاجةٌ إلى غيرِها،
فَيُدْرِكُ مِنْ ذلك وجودَ االلهِ الخالقِ المدبِّرِ إِدراكاً قطعياً.
وَقَدْ وَرَدَتْ مِئَاتُ
الآياتِ في هذا المعنى التي تدعُو الإنسانَ
لأَنْ ينظُرَ النَظْرَةَ العميقةَ إلى الأشياءِ وما حولهَا وما يتعلقُ بِهَا، ويَستدِلَّ
بذلك على وجودِ الخالقِ المدبِّرِ، حتَّى يكونَ إيمانُهُ بااللهِ إيماناً راسخاً عَنْ عَقْلٍ
وَبَيِّنَةٍ.
نَعَم؛ إِنَّ الإيمانَ بالخالقِ المدبِّرِ فِطْرِيٌ في كلِّ إنـسانٍ. إِلا أَنَّ هـذا
الإيمانَ الفطريَّ يأتِي عن طريقِ الوِجْدَانِ. وهو طريقٌ غيرُ مَـأْمُونِ العاقِبَـةِ،
وغيرُ مُوصِلٍ إِلى تركيزٍ إذا تُرِكَ وَحْدَهُ. فالوِجدانُ كثيراً ما يُضْفِي على مـا
يُؤْمِنُ بِهِ أَشْيَاءَ لا حقائقَ لهَا، ولكنَّ الوِجدانَ تخَيَّلَهَا صِفاتٍ لازمةً لِمَا آمَـنَ
بِهِ، فَوَقَعَ في الكُفرِ أو الضَّلالِ. وما عبادةُ الأوثانِ، وما الخُرافاتُ والتُرَّهَاتُ
إلا نَتيجَةً لخطأِ الوِجدانِ. ولهذا لم يَتْرُكِ الإسلامُ الوجدانَ وحـدَهُ طريقـةً
للإيمانِ، حتى لا يجعلَ اللهِ صفاتٍ تَتَنَاقَضُ مَعَ الأُلُوهِيَّـةِ، أو يجعلَـهُ مُمْكِـن
التَجَسُّدِ في أشياءَ مادِّيَّةٍ، أو يَتَصَوَّرَ إِمكانَ التَقَرُّبِ إلَيْهِ بعِبادةِ أَشياءَ مادِّيَّـةٍ،
فيُؤَدِّيَ إمَّا إلى الكفرِ أو الإشراكِ، وإمَّا إلى الأوْهَامِ والخُرافَاتِ الَّـتي يَأْبَاهـا
الإيمانُ الصادقُ. ولذلكَ حَتَّمَ الإسلامُ استعمالَ العَقْلِ مَعَ الوِجدانِ، وأَوْجَبَ
على المُسلمِ استعمالَ عقلِهِ حينَ يُؤْمنُ بِااللهِ تعالى، ونَهـى عَـنِ التقليـدِ في
العقيدةِ ولذلكَ جَعَلَ العقلَ حكماً في الإيمانِ بااللهِ تعالى. .ولهذا
كانَ واجباً عَلى كلِّ مسلمٍ أَنْ يَجْعَلَ إيمانَهُ صادراً عَنِ تَفْكيرٍ وبَحْثٍ ونَظَرٍ،
وأَنْ يُحَكِّمَ العَقلَ تحكيماً مُطلقاً في الإيمانِ بااللهِ تعالى. والدعوةُ إلى النَظَرِ في
الكونِ لاستنباطِ سُنَنِهِ وللاهتداءِ إلى الإيمانِ بِبَارِئِهِ، يُكَرِّرُهَا القُـرآنُ مِئَـاتِ
المرَّاتِ في سُوَرِهِ المُخْتَلِفَةِ، وكُلُّهَا مُوَجَّهَةٌ إلى قُوَى الإِنسانِ العاقِلَةِ تَدعُوهُ إلى
التَدَبُّرِ والتَأَمُّلِ لِيَكونَ إيمانُهُ عَنْ عقلٍ وبَيِّنَةٍ وتُحَذِّرُهُ الأَخْذَ بما وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ
مِنْ غيرِ نَظَرٍ فيه وتَمْحِيصٍ لَهُ وثِقَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمَبْلَغِهِ مِنَ الحقِّ . هذا هوَ الإيمـانُ
الذي دَعَا الإِسلامُ إِلَيْهِ، وهوَ لَيْسَ هذا الإيمانَ الَّذي يُ سَمُّونَهُ إيمانَ العَجَـائِزِ،
إنَّمَا هوَ إيمانُ المُسْتَنِيرِ المُسْتَيْقِنِ الَّذي نَظَرَ ونَظرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وفَكَّرَ، ثُمَّ وَصَلَ مِنْ
طَريقِ النَظرِ والتَفْكِيرِ إلى اليَقِينِ بِااللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.
ورُغْمَ وُجوبِ استعمالِ الإنسان العَقْلَ في الوُصولِ إلى الإيمانِ بااللهِ
تعالى فإنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إِدْراك ما هوَ فَوْقَ حِسِّهِ وفوقَ عقلِهِ، وذلكَ لأَنَّ العقـلَ
الإِنسانيَّ محدودٌ، ومحدودةٌ قُوَّتُهُ مَهْمَا سَمَتْ ونَمَتْ بِحُـدُودٍ لا تَتَعَـدَّاهَا،
ولِذلكَ كانَ محدودَ الإدْرَاكِ، ومنْ هنا كانَ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْصُرَ العقـلُ دونَ
إِدراكِ ذاتِ االلهِ، وأَنْ يَعْجَـزَ عـنْ إدراكِ حَقِيقَتِـهِ، لأَنَّ االلهَ وراءَ الكـونِ
والإنسانِ والحياةِ، والعقلُ في الإنسانِ لا يدركُ حقيقـةَ مـا وراءَ الكـونِ
والإنسانِ والحياةِ، ولذلكَ كانَ عاجِزاً عَنْ إدراكِ ذاتِ االلهِ . ولا يقالُ هُنَـا:
كيفَ آمَنَ الإنسانُ بااللهِ عقلاً معْ أَنَّ عقلَهُ عاجِزٌ عـنْ إدراكِ ذاتِ االلهِ؟ لأنَّ
الإيمانَ إنَّمَا هوَ إيمانٌ بِوجودِ االلهِ وَوُجودُهُ مُدْرَكٌ منْ وجودِ مخلوقاتِهِ، وهـيَ
الكونُ والإنسانُ والحياةُ. وهذهِ المخلوقاتُ داخلةٌ في حـدودِ مـا يُدْرِكُـهُ
العقلُ، فأَدْرَكَهَا، وأدركَ منْ إدراكِهِ إياهَا وجودَ خالقٍ لَهَا، وهوَ االلهُ تعالى.
ولذلكَ كانَ الإيمانُ بِوجودِ االلهِ عقلياً وفي حدودِ العقلِ، بِخِلافِ إدراكِ ذاتِ
االلهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ، لأنَّ ذاتَهُ وراءَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، فهوَ ورا ءَ العقلِ.
والعقلُ لا يمكنُ أنْ يدركَ حقيقةَ ما وراءَهُ لِقُصورِهِ عنْ هذا الإدراكِ. وهـذا
القصورُ نفسُهُ يجبُ أنْ يكونَ منْ مُقوياتِ الإيمانِ، ولـيسَ مـنْ عوامـلِ
الارتيابِ والشكِّ. فإنِّهُ لمَّا كانَ إيمانُنَا بااللهِ آتِياً عنْ طريقِ العقلِ كانَ إدراكُنَا
لِوُجودِهِ إِدْراكاً تامَّاً، ولمَّا كانَ شعورُنا بِوجودِهِ تعالى مَقْرُوناً بالعقلِ كـانَ
شُعُورُنَا بوجودِهِ شُعوراً يَقينياً، وهذا كُلُّهُ يجعلُ عِنْدَنَا إِدراكاً تامَّاً وَشُـعوراً
يقينِياً بجَميعِ صفاتِ الأُلوهيَّةِ. وَهذا منْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْنِعَنَا أَنَّنا لنْ نَستَطيعَ إدراكَ
حقيقةِ ذاتِ االلهِ على شِدَّةِ إيمانِنَا بِهِ، وأنَّنَا يجبُ أنْ نُسَلِّمَ بِما أخبرنَا بِهِ مِمَّـا
قَصَّرَ العقلُ عنْ إدراكِهِ أو الوصولِ إلى إدراكِه، وذلكَ لِلْعَجْزِ الطَبِيعِيِّ عـنْ
أنْ يَصِلَ العقلُ الإنْسَانِيُّ بمَقَاييسِهِ النِسْبِيَّةِ المحدودةِ إلى إدراكِ مـا فوقَـهُ. إذْ
يحتاجُ هذا الإدراكُ إلى مقاييسَ ليسَتْ نِسْبِيَّةً وليستْ محدودةً، وهي ممَّـا لا
يملكُهُ الإنسانُ ولا يستطيعُ أنْ يملِكَهُ.