خلْفِيّات مسلسل "الحرب التّجارية":
أعلن الرئيس الأمريكي يوم 22 آذار/مارس 2018 بداية ما أطلق عليها هو نفسه "الحرب التجارية"، من خلال فرض رسوم جمركية بنسب تتراوح بين 10% و 25% على دخول سِلَعٍ صينية في البداية ثم وسَّع الحرب لتشمل سلع أوروبا وكندا و"حلفاء" الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي وفي الحروب العدوانية في آسيا والوطن العربي وإفريقيا، وتبلغ قيمة الرسوم في البداية خمسين مليار دولارا، على دُخول السلع الصينية الأسواق الأمريكية، وردّت الصين باتخاذ إجراء مُماثل قيمته 34 مليار دولارا يوم 06 تموز/يوليو 2018، وتُمثل هذه القيمة ما بين 0,1% و0,3% من إجمالي الناتج المحلي لكلا البلدين، ثم تبعتها إجراءات أخْرى، وادّعت الولايات المتحدة، بشأن إعلان هذه "الحرب التجارية" إنها ليست هُجُومًا مُعادِيًا، وإنما مُجَرّد رد على "الممارسات التجارية الصينية غير العادلة، وسرقة الملكية الفكرية"، كما تنتقد الإدارة الأمريكية دَعْم الحكومة الصينية للشركات المُنْتِجَة لهذه السّلع وغيرها، والواقع إن أمريكا تدعم الشركات وكبار الفَلاّحين والمصارف بمبالغ خيالية، بل يمكن أن تَشُنّ أمريكا عُدْوانًا عسكريًّا من أجل فَرْضِ هيمنة شركاتها على قطاع إقتصادي (النفط مثلاً) أو على بلدٍ مُعَيّن (العراق كمثال)، ومن المفارقات أن تتحدث أي حكومة أمريكية عن العدالة أو "التجارة العادلة"، في حين هيمنت أمريكا على الإقتصاد العالمي عبر عدّة أدوات فَرَضَتْها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن بينها القُوّة العسكرية (بما فيها السلاح النّوَوِي والكيماوي والأسلحة المَحْظُورَة دوليًّا) والمُؤسّسات المالية الدّولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) والتعامل بالدولار، وفَرْضِهِ في التجارة العالمية وفي التحويلات المالية بين الدول والشركات عبر العالم، وبلغ العجز التجاري الأمريكي قرابة 500 مليار دولارا (بحسب "دونالد ترامب")، لكن ذلك لا يُعْتَبَرُ أمرًا مُقْلِقًا، بما أن الدولار هو عُملة تقييم هذا العجز، وتستطع الولايات المتحدة طبع ما تشاء من الدولارات أو خفض قيمة العملة، دون مُحاسبة، لِتنخفض قيمة الدّيون الأمريكية وقيمة العجز التجاري والمالي... تتالت بعد ذلك القرارات العدوانية الأمريكية وقيمة الرسوم (ضد كافة دول العالم) وردود الفعل، وشملت زيادة الرّسوم كافة القطاعات الإقتصادية تقريبًا، ومن بينها التكنولوجيا والصّلب والألومنيوم ووسائل النّقل (الطائرات والسيارات)، والمواد الغذائية (فول الصّويا واللحوم والمُكسّرات) وقطع الغيار والبطاريات وأجهزة التلفزيون والأجهزة الطبية، وفرضت الولايات المتحدة قُيُودًا على الإستثمارات الصّيِنِيّة...
أثارت هذه السياسة العُدْوانية الأمريكية، بشكلها المتعجرف مخاوف بعض الشركات الأمريكية التي عَبّر مُمثلوها عن مخاوفهم من التأثير السّلْبِي، لزيادة الرّسُوم والتصريحات العدوانية، على أعمال هذه الشركات، ومن بينها المجلس الوطني لمنتجي لحم الخنزير وجمعية فول الصويا الأمريكية ورابطة مَسْؤُولي أسواق التجزئة، وقطاع الصناعات التحويلية، كما عبر بعض رؤساء البلديات والمدن عن مخاوفهم أيضا، ومُنِيَتْ أسعار الأسهم في أسواق المال الأمريكية بخسائر كبيرة لمدة أسبوعين مُتَتَالِيَيْن، بسبب الرسوم، قبل أن ترتفع من جديد...
عَبَّر رئيس الجمعية الأميركية لسلطات المرافئ عن قَلَقِهِ من الأضْرار التي تلحق المرافئ المائية الأمريكية ( في المحيطيْن الهادئ والأطلسي وخليج المكسيك والبُحيرات الكبرى) بسبب الرّسُوم المفروضة، والتي ستؤدّي إلى انخفاض مداخيل الموانئ، لأن مجموع الرسوم الجمركية المفروضة وتدابير الرد الدولية يطاول نسبة 10% من مجمل المبادلات التي تمر عبر هذه المرافئ الأميركية، ما يمثل عائدات بنحو 160 مليار دولارا، ولذلك فقد تُصْبِح الخاسر الأكبر من الحرب التجارية، التي تُهَدِّدُ حركة التجارة العالمية، وخصوصًا التجارة البحرية، وسجّلت حركة السلع تراجعًا في مرفأ "نيو أورليانز" بولاية "لويزيانا (جنوب الولايات المتحدة) في واردات الألومنيوم، وتراجعا بنحو 350 ألف طن في واردات الفولاذ، من الصين وتركيا وكوريا الجنوبية، والفولاذ أهم البضائع التي تمر عبر هذا المرفأ، خلال النصف الأول من سنة 2018، مقارنة بنفس الفترة من سنة 2017، أو ما يعادل خسائر قد تصل إلى خمسة مليارات دولارا، بسبب الرسوم التي فَرَضَتْها الإدارة الأمريكية بنسبة 25% على واردات الفولاذ، كما تراجعت حركة تصدير الدّواجن الأمريكية إلى الصين، عبر نفس الميناء، الذي يُشَغِّلُ حوالي 11% من العاملين في جنوب ولاية كاليفورنيا، بينما يبلغ العدد الإجمالي للعاملين مُباشرة في الموانئ الأمريكية نحو ثلاثة ملايين عامل وموظف، ويمثل نشاط الشحن البحري حوالي 4,6 تريليون دولارا سنويّا، وضرائب للخزينة بحوالي 230 مليار دولارا سنويا، وترتبط بهذا النشاط عدة قطاعات أخرى، تُوَظِّفُ نحو 23 مليون شخص...
أما في الصين فَيُقَدّر التّأثير المُباشر للرسوم الأمريكية على نمو الاقتصاد الصيني سنة 2018 بما بين 0,1% و0,3%، ولئن كان التّأثِير أقل هذا العام على اقتصاد الولايات المتحدة، نقطة مئوية، فإنه سيكون التأثير أكبر سنة 2019، ولا يقتصر التأثير على الصين وأمريكا فحسب، بل يتعداه إلى إلحاق أضْرَارٍ باقتصاد وبنمو دول وشركات عديدة أخرى، بسبب ارتباط الإقتصاد العالمي، وبسبب وجود مُكَوّنات غير صينية كثيرة في المنتوجات الصينية التي استهدفتها الحرب التجارية الأمريكية، ويعتقد بعض خبراء الإقتصاد "إن فرض رسوم على واردات بقيمة 100 مليار دولار يقلص حجم التجارة العالمية بنسبة قد تبلغ نحو 0,5%، ويعتقد خبراء روسيا إن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، ستُلْحِقُ أضْرارًا كبيرةً باقتصاد روسيا وباقتصاد الدول التي تعتمد على تصدير المواد الخام، مثل روسيا وأستراليا وكندا والمكسيك، فضلاً عن الدول الأصغر التي تعتمد على صادرات النفط والغاز والفوسفات والمعادن الأخرى، ويتهدد اقتصاد هذه الدّول خُرُوج الأموال من أسواقِها، مما قد يُؤَدِّي إلى خسارة تفوق نسبتها 1% من إجمالي الناتج المحلي، مما يجعلها أكثر عُرْضَةً للمخاطر من اقتصاد الطَّرَفَيْن الأساسِيَّيْن للحرب التجارية، أي الولايات المتحدة والصين...
يُعتبر اقتصاد أمريكا واقتصاد الصين، أكبر اقتصادين في العالم، وارتفعت قيمة الرسوم الجمركية الإضافية التي فَرَضَها الطّرَفان على دُخُول السلع، إلى مائة مليار دولارا، في بداية شهر تموز/يوليو 2018، وتعتزم أمريكا زيادتها إلى مائتَيْ مليار دولارا، ويهدّد الرئيس الأمريكي ببلوغ القيمة الإجمالية للرسوم الأمريكية نحو 500 مليار دولارا سنويا (حجم العجز التجاري الأمريكي)، "ما لم تشتر الصين مزيدًا من السلع الأمريكية"، مما يُهدّد أُسُسَ الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي العالمي، الذي تنخرط الصين فيه بكل قُوّة، ويُهَدِّدُ النمو في كافة بلدان العالم، وأصبحت الصين، منذ نحو ثلاثة عُقُود أكبر مُدافع عن "التجارة الحرة" وعن "نظام عالمي متعدد الأطراف" (بديلاً عن هيمنة طَرَفٍ واحدٍ هو الولايات المتحدة)...
تستهدف أمريكا تغيير الخطط والسياسات الدّاخلية الصينية، وعرقلة برامج في طور الإنجاز، مثل برنامج "صُنِع في الصّين" الذي يتوقّع استكماله بنهاية 2025، وتَتَعَلّلُ الولايات المتحدة بدعم حكومة الصّين للشركات الخاصة، بينما تَمْتلك الولايات المتحدة الرقم القياسي في دعم الشركات ذات المنشأ الأمريكي، ومن ضمنها الشركات والمصارف العابرة للقارات، كما ترمي الولايات المتحدة إلى "تَرْكِيع" الصين، ووضعت الإدارة الأمريكية خطة للرفع التّدْرِيجي للرسوم لتصل إلى نسبة 25% مع بداية سنة 2019، ويهدف هذا التّدَرّج إلى إمهال الشركات الأمريكية مُدّة لتمكينها من البحث عن السلع في مناطق أُخْرَى، خارج الصّين، مما جعل الحكومة والشركات الصينية تُدْرِكُ إنها في مواجهة حرب استنزاف، ضمن خطة أمريكية طويلة الأجل، مُعدّة سَلَفًا بهدف القضاء على منافسة الإقتصاد الصيني (والشركات الصينية) للإقتصاد الأمريكي، سواء في الأسواق الأمريكية، أو في غيرها من أسواق العالم، كما تُحاول الولايات المتحدة اغتيال بعض المشاريع الصينية، في بداياتها (في المَهْد)، وأهمها محاولات الصين زيادة حجم المبادلات التجارية بعملتها الوطنية "يوان" بدل الدولارا، وسوف تشكل كل زيادة في وزن اليوان، انزياحًا للدولار، وخسارةً لنفوذه، كما تعمل الولايات المتحدة على إخراج الصين من دورة الإنتاج على الصعيد العالمي، عبر زيادة الرسوم التي سوف تُجْبِرُ الشركات الأمريكية والشركات العابرة للقارات على الخروج من الصين، قبل سنة 2025، أي قبل أن "تَتَحَرّر" الصين نهائيًّا من التكنولوجيا الأمريكية و"الغربية" في صناعة الحواسيب والهواتف الموصوفة "ذَكِيّة"، وقبل أن تكتسب الخبرة الضرورية التي تجعلها تُنافس أمريكا أو تتفوق عليها في القطاعات الإقتصادية، ذات القيمة الزّائدَة المُرتفعة، ومن بينها: الصناعات التكنولوجية الدقيقة وقطع غيار الطائرات، والحواسيب و"الذكاء" الاصطناعي، والسيارات التي تستخدم الكهرباء أو الطاقة الشمسية (أُثِيرت قضية الألواح الشمسية الصينية في أمريكا وأوروبا منذ سنوات عديدة)، كما تُحاول الولايات المتحدة مَنْعَ الصين من خفض الإعتماد على النّفط المُسْتَوْرَد، ومن تطوير الطاقة الكهربائية والطاقة "النظيفة" والمُتَجَدِّدَة، ويقول أحد مُستشاري الرئيس الأمريكي "إن الصين بصدد تطوير صناعة وسائل النقل الرّخيصة التي تعمل بالطاقة الكهربائية المَحلِّية، بفضل الدولارات التي تكسبها من الصادرات إلى الولايات المتحدة"، ولهذه الأسباب مجتمعة، وغيرها من الأسباب الأخرى التي لم تَرِدْ في هذه الورقة القصيرة، يُتَوَقّعُ أن تتواصل الحرب التجارية الأمريكية ضد الصين، بل أن تميل نحو التَّشَدُّد والتّصَلّب، مع محاولة عدم إلحاق الضّرَر بالشركات الأمريكية...
أوردنا هذه البيانات، لنكون على دِراية "بثمن" أية مُحاولة للإستقلال الإقتصادي (وبالتالي الإستقلال السياسي)، في ظل عالم تُهيْمِنُ عليه الإمبريالية الأمريكية، ولكي نتأمّل الأهداف الكامنة وراء "الحرب التّجارية"، بهدف إعداد برامج تُمكِّن من الإعتماد على الذات وعلى الموارد المحلية وعلى المبادلات الإقليمية مع الجيران، ومع الدول القليلة التي تحكمها أنظمة تقدمية... عن مجلة "فورين بوليسي" + رويترز + مجلة "ايكونوميست" + وكالة "بلومبرغ" - معلومات منشورة بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2018