أوروبا - "اليسار" البرجوازي والعُنْصُرِي: تجدر الملاحظة إن عبارة "يسار" هي عبارة فَضْفَاضَة جِدًّا ويَصْعُبُ تعريفها، واصْطُلِح على تعريفها بأنها نقيض لليمين وللبرجوازية ولسُلْطَة رأس المال، ولكن يبقى هذا التعريف تَقْرِيبيًّا وغير دقيق أيضًا...
تُصَنِّف المجموعات اليسارية الأوروبية، بمعظم فروعها، حزب "دي لينك" الألماني ضمن ما أطلق عليه "اليسار الراديكالي"، رغم الضبابية التي اكتنفت تأسيس وبرامج وطرق عمل هذا الحزب، ونجد من بين مؤسِّسِيه "أوسكار لافونتان"، بل هو زعيمه الأول، وهو وزير سابق في حكومة "غيرهارد شرودر" الذي أهدى المال العام للشركات الكُبْرى وخَرّب قانون العمل والقوانين ذات الصبغة الإجتماعية، وأقرّت حكومته مجموع القوانين التي تُلْغِي حقوق العُمال والأُجراء، وتُرْسِي العمل الهش وتعميم الدّوام الجُزْئي والرواتب المنخفضة جدا، مع زيادة سنوات العمل قبل التقاعد وخفض قيمة معاشات التقاعد، مما يضطر حاليا حوالي مليون متقاعد ألماني للعمل من أجل تلبية الحاجيات الأساسية، وغير ذلك من الإجراءات المناهضة لمصالح الأُجَراء...
في ألمانيا، تمول الدولة، من المال العام، المنظمات الموصوفة "غير حكومية"، ولكل حزب منظمته، مثل "فردريك إيبرت"، وهي تابعة للحزب الديمقراطي الإجتماعي، أما حزب "دي لينك" فيَمْتَلِكُ منظمة "روزا لكسمبورغ"، واشتهر المُشرفون عليها باحتقار اليسار في بلدان "العالم الثالث"، وخصوصًا اليسار العربي، ومن أشهر المداخلات التي تُعبر عن هذا الإحتقار، مداخلة أحد المُشْرِفِين على نَدْوة لليسار الفلسطيني في الضّفة الغربية المُحْتَلّة، ونَصَّب هذا المُشْرِفُ نفسَهُ أُسْتاذًا لليسار العربي والفلسطيني، لِيَصِف مناضِلِيه بالجَهَلة... ونذكِّرُ بشأن ألمانيا، بالإلْتزام القوى السياسية الألمانية، بما يُشْبِهُ الإجماع (لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية) بدعم الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني (مع بعض الإستثناءات، من بينها "الجيش الأحمر" الذي دعم المقاومة الفلسطينية، قبل عُقُود)، ومع ذلك يعتبر هذا اليسارُ الرّدِيءُ (الأوروبي، وبعض اليسار العربي أيضًا) حزبَ "دي لينك" ومنظماته، ومنها "مؤسسة روزا لكسمبورغ"، غير الرّبحية، "يسارًا راديكاليا"...
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقالاً حول بعض رموز اليسار الأوروبي (من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والدنمارك وغيرها...) الذين يُطالبون الحكومات الرّجعية الأوروبية بإغلاق الحدود الأوروبية (وهي مُغْلَقَة بالفعل منذ عُقُود) وعدم قبول مهاجرين جُدُد، وعدم إنقاذ المُهدَّدِين بالغرق في البحر الأبيض المتوسط، بذريعة "وجب أن يبقى كل شخص في بلَدِهِ"، ويتجاهل مثل هذا اليسار الأسباب الحقيقية للهجرة، ولا يذكُرُها (الأسباب) ولا يُنَدِّدُ بالمُتَسَبِّب في النزوح وفي الهجرة الجماعية لعشرات الملايين من البشر، الذي قصفتهم طائرات الحلف الأطلسي ومنها طائرات ألمانيا وفرنسا والدنمارك وإيطاليا وغيرها، وينآى هذا "اليسار الراديكالي" بنفسه عن التنديد بالحُرُوب العدوانية الأوروبية والأمريكية، كما يتجنّبُ التنديد بهيمنة الشركات متعددة الجنسية على ثروات هذه البلدان المُصَدِّرَة للمهاجِرِين، وفي المقابل تطالب منظمات أرباب العمل في ألمانيا وبعض البلدان الأخرى، مزيدًا من المهاجرين، في بعض القطاعات ذات العمل المُرْهق والرواتب المنخفضة (الإنشاء وبناء العقارات والفنادق والمطاعم والتنظيف...) أو بعض القطاعات التي تبحث عن اختصاصيين ذوي كفاءات وخبرات عالية (أطباء ومهندسين وباحثين وفَنِّيِّين في مجالات الحواسيب والتكنولوجيا الدقيقة...)، ولكن بعض زعماء "اليسار الراديكالي" (وفق توصيف بعض المنظمات العربية والأوروبية) ومنهم إحدى زعيمات "دي لينك" التي ربما تسكن غير بعيد من إحدى القواعد العسكرية الأمريكية العديدة المُنْتَشِرَة في ألمانيا ( التي تَدّعِي إنها "ماركسية") يكتبون "إن تدفق المُهاجرين أفْقَد الدولة استقلالية القرار ومُراقبة حركة المجتمع، وغَيَّرَ وجْهَ أوروبا والبلاد - أي ألمانيا - نحو الأسْوَأ، ووجب إغلاق الحدود لحماية الطبقة العاملة الأوروبية من المنافسة غير النّزيهة للعمال المهاجرين..."، أما زعيم ومؤسّس حزب "فرنسا المُتَمَرِّدَة" (وهو زعيم سابق في الحزب "الإشتراكي" الفرنسي ووزير سابق في حكومات هذا الحزب) فقد صرح "لا يجب اعتبار الهجرة شيئًا طبيعيًّا أو مُحَبّذًا أو مرغوبا فيه..." ورفض القائد المُؤَسِّس لحزب "فرنسا المتمردة" التوقيع على بيان يدعم إنقاذ المهاجرين واستقبالهم في دول الإتحاد الأوروبي، معتبرًا ذلك بمثابة "سياسة النّعامة"، أما في الدنمارك فذهب "اليسار" المَحلِّي أشواطًا بعيدة في العنصرية وإلصاق التُّهَم بالمهاجرين، واعتبر "إن الهجرة تُمثّل تهديدًا لتماسك مجتمعنا وسوف تتسبب بانهيار اقتصادنا"، وسبق أن ذكرنا إن كافة الدراسات والبحوث تُظْهِرُ استفادة مجتمعات أوروبا من الهجرة، في كافة المجالات، وتستفيد المجتمعات الأوروبية، كما يستفيد الأفراد الأوروبيون، من الإرتقاء في السّلّم الطبقي، وترك المهاجرين في أسفل درجات السُّلَّم، مع ارتفاع دخل العُمال المحلِّيِّين وزيادة فُرَص التدريب والتّأهيل... يأتي المهاجرون إلى أوروبا في عنفوان الشباب، وتختار دول أوروبا المهاجرين الذين تحتاجهم شركاتها واقتصادها (بعد فحص طِبِّي دقيق)، مع ترك هامش من المهاجرين غير النظاميين لاستغلالهم في قطاعات العمل المُضْنِي وبأُجور منخفضة، وبذلك تتمكن الشركات الأوروبية من تحقيق هامش أرباح مرتفع، وتتمكّنُ من منافسة الشركات في بلدان متوسطة الدخل، لكنها (الشركات الأوروبية) تُوزّع الأرباح الإضافية على أصْحاب الأسهم، وتُلْقِي بِبَعْض الفُتات للعمال المَحَلِّيِّين وتَفْتح لهم باب القُرُوض، لتثقل كاهلهم بقروض السيارات والمسكن والمدارس الخاصة، وحتى قروض الإستهلاك، وبذلك يتجنّبُون الإضرابات، وخسارة أجرة أيام الإضراب...
يستخدم زعماء هذا اليسار "الراديكالي" الأوروبي، الشُّوفِيني، بعض مقولات "كارل ماركس"، ولكنهم أهملوا منذ عُقُود نداء "ياعُمّال العالم اتحدوا"، كما أصبحت المُطالبة بإلغاء الإستغلال أمرًا "مُحَرَّمًا" في نُصُوص وخطابات هذا "اليَسار"، بذريعة إن العالم تَغَيّر وبالتالي وجب تغيير الشعارات، وإلغاء هدف الإشتراكية والتّأميم وإعادة توزيع الثروات وِفْقَ حاجة كلٍّ منا، كما لا يُطالبون بالمُساواة بين كافة العُمّال (بين العمال الأجانب والمحلِّيِّين، أو بين عُمال أوروبا من جهة وعمال فيتنام أو ساحل العاج أو بوليفيا وغيرها من جهة أخرى)، ولا يُطالبون بقوانين تحْظُر استغلال العمال المهاجرين، ولا يُطالبون بتوزيع ثمرة جهود عمال العالم على الكادحين، كبديل لزيادة أرباح الأثرياء، أو لزيادة تركيز الثروات بين أيدي 1% من أثرياء العالم... أهمل هذا "اليسار" العمل من أجل تغيير المجتمع ومن أجل بديل اشتراكي، وأصبح زعماء "اليسار الراديكالي" الأوروبي يُحَمِّلُون العُمالَ المهاجرين (وهم جُزْءٌ من الطبقة العاملة) تدهوُر ظروف العمل والرواتب والخدمات الإجتماعية وانتشار البطالة والفقْر، ويُهْمِلُ هذا "اليسار" (عَمْدًا؟) مسؤولية البرجوازية ورأس المال، ويُلْقِي باللائمة على العمال المهاجرين الذين يُحَمِّلُهُم مسؤولية تدهور وضع الطبقة العاملة في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، فالمهاجرون لا يحكمون البلاد، ويتمكّنون بالكاد من تلبية حاجياتهم وحاجيات أُسَرِهم، ولكن زُعماء هذا "اليسار الرّاديكالي" لا يتجرّؤون على الإشارة إلى المسؤول الحقيقي عن تدهور الوضع، فرأس المال هو المسؤول الحقيقي عن الإستغلال وعن الفَقْر وعن تقسيم الطبقة العاملة، ويُهْمِل هذا "اليسار" أُطْرُوحات القادة المُؤسِّسِين للإشتراكية بشأن الطبيعة الطبقية للدولة ولنظام الحكم، فالدّولة ليست ناتجًا لوفاق اجتماعي، وليست حَكَمًا بين الطبقات، وإنما تُمثل الدّولة ومُؤسّساتها موازين قوى، ومصالح طبقة، وتُدافع عنها ضد طبقة (أو طبقات) أُخْرَى، وفي حال أوروبا (بدون استثناء) فإن البرجوازية والشركات الإحتكارية (العابرة للقارات) ورأس المال المالي يحكمها، وتُدافع البرجوازية عن مصالحها، ضد بقية المجتمع، عبر الإعلام والمؤسسات (ومنها المنظمات المسماة "غير حكومية") والبرلمانات، وعبر إيديولوجيا سائدة، تنشرها في المجتمع بكافة الوسائل، ويُدافع زعماء "اليسار الراديكالي" عن هذه الإيديولودجيا السّائِدَة، وإن تَخَفُّوا وراء استخدام مُحَسِّنات لَفْظِيّة، عبر التّلاعُبِ باللغة...
أظهرت الدراسات الإقتصادية الجماعية (المُشْتَرَكَة) التي أنجزتها العديد من مراكز البحث في خمسة عشر دولة تستضيف مهاجرين في غربي وشمال أوروبا، إن الهجرة مُفِيدة لاقتصاد البلدان الأوروبية، ولنظام الحماية الإجتماعية، وتناولت الدراسات حقبة تاريخية تمتد لثلاثة عُقُود (من 1985 إلى 2015)، وبينت بالحُجّة وبالأرقام مساهمة المهاجرين في رَفْعِ مُستوى الدّخل الفَرْدِي للمواطنين المَحَلِّيِّين الأوروبيين من ألمانيا إلى البرتغال ومن إيطاليا وجنوب القارة إلى السويد والبلدان الإسكندنافية، وفي تحقيق التّوازنات المالية للدولة، وخلق فائض يفوق أربعين مليار يورو سنويا (بين 2005 و 2015) في مجمل الدول التي شملتها الدراسة (أي مُجْتَمِعَة)، مما يُمَكِّنُ الحكومات (لو شاءت) من زيادة الإنفاق على دعم الفقراء والمتقاعدين والمسكن وعلى مؤسسات التعليم العمومي والصحة العمومية وغيرها، وتَكْمُنُ المُشكلة الرئيسة في احتكار هذه الثروات وهذه الأرباح من قِبَلِ أقلية، وتكمن أيضًا في طريقة توزيع الثروة التي يخلقها العُمال والأُجَراء، سواء كانوا مهاجرين أو مولودين في أوروبا، وهنا تَظْهَر حقيقة هذه الأحزاب الموصوفة ب"اليسار الراديكالي"، فهي ليست أحزابًا تُدافع عن مصالح الطبقة العاملة والمُنْتِجِين، وإنما لا تطمح سوى لتقاسم الحكم، عبر زيادة رصيدها في الإنتخابات، ولو كان ذلك باستخدام لغة و"حُجَجَ" اليمين المتطرف، ظنًّا منها إن ارتفاع عدد الأصوات والمقاعد النيابية التي فاز بها اليمين المتطرف هي نتيجة إعلانه الحرب ضد جزء من الطبقة العاملة والفقراء...
من وجهة نظرنا نحن مواطنو "الجنوب"، أو الدول المُصدِّرَة للمهاجرين، يكمن الحل (لوقف مغامرة الشباب بحياتهم فيرقوارب المَوت التي تَعْبُر البحر الأبيض المتوسط) في ما يُسَمّى "النّمُو المُسْتَديم"، في بُلْدانِنا، ويتمثل في خلق وظائف في الإقتصاد المَحَلِّي في القطاعات المنتجة، او التي تُلَبِّي حاجة المُجْتَمَع (أي الإقتصاد الحقيقي، وليس في اقتصاد المُضاربة أوالفقاعة العقارية، أو التشجيع على الإستهلاك عبر ضخ القروض الفردية للأُجراء) وفي دعم الإستغلال الجماعي للأراضي "المُهْمَلَة"، للتخلص من توريد المنتجات الغذائية بالعملات الأجنبية، وكذلك عبر تصنيع الفائض الزراعي والسّعي لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، والإستثمار في الصناعات البسيطة، عبر الإستفادة من الخبرات المحلية، ومن تجارب الشعوب، وتمويل هذه المشاريع عبر الإقتراض المَحَلِّي، وعبر تحفيز العُمال المهاجرين على تزويد البلاد بالعُمْلَة الأجنبية، من خلال المزج بين الحوافز المادية وتعزيز انتمائهم للوطن الأم... هذه الحلول البسيطة تتطلب قرارا سياسيا، وهي مُمْكِنَة التحقيق في بلدان المغرب العربي وفي مصر ولبنان والأردن، وغيرها... عن موقع صحيفة "لوموند"، رُكْن ( La Matinale du Monde ) 05/10/18 + منشورات "مركز الدراسات والإستشراف والإعلام الدّولي" (Cépii ) بين 2011 و 2016 + دراسة لمعهد باريس للإقتصاد (Paris School of Economics - PSE ) ودراسة ل"معهد بحوث السياسات الإقتصادية" (لندن)وهما دراستان عن الإقتصاد الشمولي في أوروبا، بإشراف "جنيفير هونت" و"مايكل كليمنس" - 2017 + مجلة (Science Advances ) حزيران/يونيو 2018
تُصَنِّف المجموعات اليسارية الأوروبية، بمعظم فروعها، حزب "دي لينك" الألماني ضمن ما أطلق عليه "اليسار الراديكالي"، رغم الضبابية التي اكتنفت تأسيس وبرامج وطرق عمل هذا الحزب، ونجد من بين مؤسِّسِيه "أوسكار لافونتان"، بل هو زعيمه الأول، وهو وزير سابق في حكومة "غيرهارد شرودر" الذي أهدى المال العام للشركات الكُبْرى وخَرّب قانون العمل والقوانين ذات الصبغة الإجتماعية، وأقرّت حكومته مجموع القوانين التي تُلْغِي حقوق العُمال والأُجراء، وتُرْسِي العمل الهش وتعميم الدّوام الجُزْئي والرواتب المنخفضة جدا، مع زيادة سنوات العمل قبل التقاعد وخفض قيمة معاشات التقاعد، مما يضطر حاليا حوالي مليون متقاعد ألماني للعمل من أجل تلبية الحاجيات الأساسية، وغير ذلك من الإجراءات المناهضة لمصالح الأُجَراء...
في ألمانيا، تمول الدولة، من المال العام، المنظمات الموصوفة "غير حكومية"، ولكل حزب منظمته، مثل "فردريك إيبرت"، وهي تابعة للحزب الديمقراطي الإجتماعي، أما حزب "دي لينك" فيَمْتَلِكُ منظمة "روزا لكسمبورغ"، واشتهر المُشرفون عليها باحتقار اليسار في بلدان "العالم الثالث"، وخصوصًا اليسار العربي، ومن أشهر المداخلات التي تُعبر عن هذا الإحتقار، مداخلة أحد المُشْرِفِين على نَدْوة لليسار الفلسطيني في الضّفة الغربية المُحْتَلّة، ونَصَّب هذا المُشْرِفُ نفسَهُ أُسْتاذًا لليسار العربي والفلسطيني، لِيَصِف مناضِلِيه بالجَهَلة... ونذكِّرُ بشأن ألمانيا، بالإلْتزام القوى السياسية الألمانية، بما يُشْبِهُ الإجماع (لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية) بدعم الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني (مع بعض الإستثناءات، من بينها "الجيش الأحمر" الذي دعم المقاومة الفلسطينية، قبل عُقُود)، ومع ذلك يعتبر هذا اليسارُ الرّدِيءُ (الأوروبي، وبعض اليسار العربي أيضًا) حزبَ "دي لينك" ومنظماته، ومنها "مؤسسة روزا لكسمبورغ"، غير الرّبحية، "يسارًا راديكاليا"...
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقالاً حول بعض رموز اليسار الأوروبي (من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والدنمارك وغيرها...) الذين يُطالبون الحكومات الرّجعية الأوروبية بإغلاق الحدود الأوروبية (وهي مُغْلَقَة بالفعل منذ عُقُود) وعدم قبول مهاجرين جُدُد، وعدم إنقاذ المُهدَّدِين بالغرق في البحر الأبيض المتوسط، بذريعة "وجب أن يبقى كل شخص في بلَدِهِ"، ويتجاهل مثل هذا اليسار الأسباب الحقيقية للهجرة، ولا يذكُرُها (الأسباب) ولا يُنَدِّدُ بالمُتَسَبِّب في النزوح وفي الهجرة الجماعية لعشرات الملايين من البشر، الذي قصفتهم طائرات الحلف الأطلسي ومنها طائرات ألمانيا وفرنسا والدنمارك وإيطاليا وغيرها، وينآى هذا "اليسار الراديكالي" بنفسه عن التنديد بالحُرُوب العدوانية الأوروبية والأمريكية، كما يتجنّبُ التنديد بهيمنة الشركات متعددة الجنسية على ثروات هذه البلدان المُصَدِّرَة للمهاجِرِين، وفي المقابل تطالب منظمات أرباب العمل في ألمانيا وبعض البلدان الأخرى، مزيدًا من المهاجرين، في بعض القطاعات ذات العمل المُرْهق والرواتب المنخفضة (الإنشاء وبناء العقارات والفنادق والمطاعم والتنظيف...) أو بعض القطاعات التي تبحث عن اختصاصيين ذوي كفاءات وخبرات عالية (أطباء ومهندسين وباحثين وفَنِّيِّين في مجالات الحواسيب والتكنولوجيا الدقيقة...)، ولكن بعض زعماء "اليسار الراديكالي" (وفق توصيف بعض المنظمات العربية والأوروبية) ومنهم إحدى زعيمات "دي لينك" التي ربما تسكن غير بعيد من إحدى القواعد العسكرية الأمريكية العديدة المُنْتَشِرَة في ألمانيا ( التي تَدّعِي إنها "ماركسية") يكتبون "إن تدفق المُهاجرين أفْقَد الدولة استقلالية القرار ومُراقبة حركة المجتمع، وغَيَّرَ وجْهَ أوروبا والبلاد - أي ألمانيا - نحو الأسْوَأ، ووجب إغلاق الحدود لحماية الطبقة العاملة الأوروبية من المنافسة غير النّزيهة للعمال المهاجرين..."، أما زعيم ومؤسّس حزب "فرنسا المُتَمَرِّدَة" (وهو زعيم سابق في الحزب "الإشتراكي" الفرنسي ووزير سابق في حكومات هذا الحزب) فقد صرح "لا يجب اعتبار الهجرة شيئًا طبيعيًّا أو مُحَبّذًا أو مرغوبا فيه..." ورفض القائد المُؤَسِّس لحزب "فرنسا المتمردة" التوقيع على بيان يدعم إنقاذ المهاجرين واستقبالهم في دول الإتحاد الأوروبي، معتبرًا ذلك بمثابة "سياسة النّعامة"، أما في الدنمارك فذهب "اليسار" المَحلِّي أشواطًا بعيدة في العنصرية وإلصاق التُّهَم بالمهاجرين، واعتبر "إن الهجرة تُمثّل تهديدًا لتماسك مجتمعنا وسوف تتسبب بانهيار اقتصادنا"، وسبق أن ذكرنا إن كافة الدراسات والبحوث تُظْهِرُ استفادة مجتمعات أوروبا من الهجرة، في كافة المجالات، وتستفيد المجتمعات الأوروبية، كما يستفيد الأفراد الأوروبيون، من الإرتقاء في السّلّم الطبقي، وترك المهاجرين في أسفل درجات السُّلَّم، مع ارتفاع دخل العُمال المحلِّيِّين وزيادة فُرَص التدريب والتّأهيل... يأتي المهاجرون إلى أوروبا في عنفوان الشباب، وتختار دول أوروبا المهاجرين الذين تحتاجهم شركاتها واقتصادها (بعد فحص طِبِّي دقيق)، مع ترك هامش من المهاجرين غير النظاميين لاستغلالهم في قطاعات العمل المُضْنِي وبأُجور منخفضة، وبذلك تتمكن الشركات الأوروبية من تحقيق هامش أرباح مرتفع، وتتمكّنُ من منافسة الشركات في بلدان متوسطة الدخل، لكنها (الشركات الأوروبية) تُوزّع الأرباح الإضافية على أصْحاب الأسهم، وتُلْقِي بِبَعْض الفُتات للعمال المَحَلِّيِّين وتَفْتح لهم باب القُرُوض، لتثقل كاهلهم بقروض السيارات والمسكن والمدارس الخاصة، وحتى قروض الإستهلاك، وبذلك يتجنّبُون الإضرابات، وخسارة أجرة أيام الإضراب...
يستخدم زعماء هذا اليسار "الراديكالي" الأوروبي، الشُّوفِيني، بعض مقولات "كارل ماركس"، ولكنهم أهملوا منذ عُقُود نداء "ياعُمّال العالم اتحدوا"، كما أصبحت المُطالبة بإلغاء الإستغلال أمرًا "مُحَرَّمًا" في نُصُوص وخطابات هذا "اليَسار"، بذريعة إن العالم تَغَيّر وبالتالي وجب تغيير الشعارات، وإلغاء هدف الإشتراكية والتّأميم وإعادة توزيع الثروات وِفْقَ حاجة كلٍّ منا، كما لا يُطالبون بالمُساواة بين كافة العُمّال (بين العمال الأجانب والمحلِّيِّين، أو بين عُمال أوروبا من جهة وعمال فيتنام أو ساحل العاج أو بوليفيا وغيرها من جهة أخرى)، ولا يُطالبون بقوانين تحْظُر استغلال العمال المهاجرين، ولا يُطالبون بتوزيع ثمرة جهود عمال العالم على الكادحين، كبديل لزيادة أرباح الأثرياء، أو لزيادة تركيز الثروات بين أيدي 1% من أثرياء العالم... أهمل هذا "اليسار" العمل من أجل تغيير المجتمع ومن أجل بديل اشتراكي، وأصبح زعماء "اليسار الراديكالي" الأوروبي يُحَمِّلُون العُمالَ المهاجرين (وهم جُزْءٌ من الطبقة العاملة) تدهوُر ظروف العمل والرواتب والخدمات الإجتماعية وانتشار البطالة والفقْر، ويُهْمِلُ هذا "اليسار" (عَمْدًا؟) مسؤولية البرجوازية ورأس المال، ويُلْقِي باللائمة على العمال المهاجرين الذين يُحَمِّلُهُم مسؤولية تدهور وضع الطبقة العاملة في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، فالمهاجرون لا يحكمون البلاد، ويتمكّنون بالكاد من تلبية حاجياتهم وحاجيات أُسَرِهم، ولكن زُعماء هذا "اليسار الرّاديكالي" لا يتجرّؤون على الإشارة إلى المسؤول الحقيقي عن تدهور الوضع، فرأس المال هو المسؤول الحقيقي عن الإستغلال وعن الفَقْر وعن تقسيم الطبقة العاملة، ويُهْمِل هذا "اليسار" أُطْرُوحات القادة المُؤسِّسِين للإشتراكية بشأن الطبيعة الطبقية للدولة ولنظام الحكم، فالدّولة ليست ناتجًا لوفاق اجتماعي، وليست حَكَمًا بين الطبقات، وإنما تُمثل الدّولة ومُؤسّساتها موازين قوى، ومصالح طبقة، وتُدافع عنها ضد طبقة (أو طبقات) أُخْرَى، وفي حال أوروبا (بدون استثناء) فإن البرجوازية والشركات الإحتكارية (العابرة للقارات) ورأس المال المالي يحكمها، وتُدافع البرجوازية عن مصالحها، ضد بقية المجتمع، عبر الإعلام والمؤسسات (ومنها المنظمات المسماة "غير حكومية") والبرلمانات، وعبر إيديولوجيا سائدة، تنشرها في المجتمع بكافة الوسائل، ويُدافع زعماء "اليسار الراديكالي" عن هذه الإيديولودجيا السّائِدَة، وإن تَخَفُّوا وراء استخدام مُحَسِّنات لَفْظِيّة، عبر التّلاعُبِ باللغة...
أظهرت الدراسات الإقتصادية الجماعية (المُشْتَرَكَة) التي أنجزتها العديد من مراكز البحث في خمسة عشر دولة تستضيف مهاجرين في غربي وشمال أوروبا، إن الهجرة مُفِيدة لاقتصاد البلدان الأوروبية، ولنظام الحماية الإجتماعية، وتناولت الدراسات حقبة تاريخية تمتد لثلاثة عُقُود (من 1985 إلى 2015)، وبينت بالحُجّة وبالأرقام مساهمة المهاجرين في رَفْعِ مُستوى الدّخل الفَرْدِي للمواطنين المَحَلِّيِّين الأوروبيين من ألمانيا إلى البرتغال ومن إيطاليا وجنوب القارة إلى السويد والبلدان الإسكندنافية، وفي تحقيق التّوازنات المالية للدولة، وخلق فائض يفوق أربعين مليار يورو سنويا (بين 2005 و 2015) في مجمل الدول التي شملتها الدراسة (أي مُجْتَمِعَة)، مما يُمَكِّنُ الحكومات (لو شاءت) من زيادة الإنفاق على دعم الفقراء والمتقاعدين والمسكن وعلى مؤسسات التعليم العمومي والصحة العمومية وغيرها، وتَكْمُنُ المُشكلة الرئيسة في احتكار هذه الثروات وهذه الأرباح من قِبَلِ أقلية، وتكمن أيضًا في طريقة توزيع الثروة التي يخلقها العُمال والأُجَراء، سواء كانوا مهاجرين أو مولودين في أوروبا، وهنا تَظْهَر حقيقة هذه الأحزاب الموصوفة ب"اليسار الراديكالي"، فهي ليست أحزابًا تُدافع عن مصالح الطبقة العاملة والمُنْتِجِين، وإنما لا تطمح سوى لتقاسم الحكم، عبر زيادة رصيدها في الإنتخابات، ولو كان ذلك باستخدام لغة و"حُجَجَ" اليمين المتطرف، ظنًّا منها إن ارتفاع عدد الأصوات والمقاعد النيابية التي فاز بها اليمين المتطرف هي نتيجة إعلانه الحرب ضد جزء من الطبقة العاملة والفقراء...
من وجهة نظرنا نحن مواطنو "الجنوب"، أو الدول المُصدِّرَة للمهاجرين، يكمن الحل (لوقف مغامرة الشباب بحياتهم فيرقوارب المَوت التي تَعْبُر البحر الأبيض المتوسط) في ما يُسَمّى "النّمُو المُسْتَديم"، في بُلْدانِنا، ويتمثل في خلق وظائف في الإقتصاد المَحَلِّي في القطاعات المنتجة، او التي تُلَبِّي حاجة المُجْتَمَع (أي الإقتصاد الحقيقي، وليس في اقتصاد المُضاربة أوالفقاعة العقارية، أو التشجيع على الإستهلاك عبر ضخ القروض الفردية للأُجراء) وفي دعم الإستغلال الجماعي للأراضي "المُهْمَلَة"، للتخلص من توريد المنتجات الغذائية بالعملات الأجنبية، وكذلك عبر تصنيع الفائض الزراعي والسّعي لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، والإستثمار في الصناعات البسيطة، عبر الإستفادة من الخبرات المحلية، ومن تجارب الشعوب، وتمويل هذه المشاريع عبر الإقتراض المَحَلِّي، وعبر تحفيز العُمال المهاجرين على تزويد البلاد بالعُمْلَة الأجنبية، من خلال المزج بين الحوافز المادية وتعزيز انتمائهم للوطن الأم... هذه الحلول البسيطة تتطلب قرارا سياسيا، وهي مُمْكِنَة التحقيق في بلدان المغرب العربي وفي مصر ولبنان والأردن، وغيرها... عن موقع صحيفة "لوموند"، رُكْن ( La Matinale du Monde ) 05/10/18 + منشورات "مركز الدراسات والإستشراف والإعلام الدّولي" (Cépii ) بين 2011 و 2016 + دراسة لمعهد باريس للإقتصاد (Paris School of Economics - PSE ) ودراسة ل"معهد بحوث السياسات الإقتصادية" (لندن)وهما دراستان عن الإقتصاد الشمولي في أوروبا، بإشراف "جنيفير هونت" و"مايكل كليمنس" - 2017 + مجلة (Science Advances ) حزيران/يونيو 2018