دعها تتسفل ..!!
***********
فتح أسيار محفظته العتيقة ليُخرج مظروفا كبيرا متفقدا أوراقه ..
وهو يُحدّث نفسه قبل أن يعيده ثانية إلى مكانه:..
الحمد لله أخيرا وجدت ضالتي..
تقدمتْ زوجته التي كانت تقف خلفه وبيدها رابطةَ العنق الجديدة لتسأله مستغربة :..عن أي ضالة تتحدث..؟
فاستدار نحوها - وهو يهندمُ نفسه ..و يغني بصوته الرخيم استعدادا لموعد كم انتظره بشغف – ثم قال بحبور :..
لقد اتصل بي الناشرُ أخيرا
ابتسمتْ ملء شفتيها لتضيف :..
ألم تقل لي بأنك لن تعوّل على نشر كتبك بمطابع لا تحترم مبادءك ..وقيمَك..؟
قال : ..لا..إن الأمر مختلفٌ تماما هذه المرة ..
هل رأيتِ حوار الليلة الماضية على الشاشة الصغيرة ..؟
وهل رأيتِ ذلك الكاتب المتميز الذي استلم روايته منذ يومين ..إنه أديب عالمي ..وهذه الدار هي من دعمته إلى آخر لحظة ..فكل كتبه صدرت من هناك ..
قالت :..عليك أن تؤمّن لقدمك قبل الخطو موضعَها، فما أدراك أنها لن تكون كسابقاتها ...هل قرأت مضامين روايات ذلك الكاتب ..؟
قال :.. كلا ليس بعد ..ولكن الأمرَ واضحٌ ..إنها دارٌ لها اسمُها المعروف ..وسمعتُها العالمية
عموما سوف أذهبُ الآن ..لقد طلبتُ الإذن من مدير المدرسة ووافق متأملا كل الخير مثلي ..تعلمين أنه من قرائي الأوفياء ..ولقد أصبتُهُ بعدوى الانتظار..حتى صار متلهفا لصدور روايتي أكثر مني؛ حيث وعدني بإقامة حفلٍ بهيجٍ للبيع بالتوقيع ..فكل طلبتي وزملائي ينتظرون ذلك اليوم الأغر على أحر من الجمر..ومن يدري فلعل الرياح تهب هونا ورخاءً
أشرقتْ نظراتُ عينيها بما اكتنفَ قلبها من فرح وهي تودعه متمنية له حظا أوفرَ هذه المرة..وانصرف مهللا ..مكبرا ..شاكرا فضله تعالى ..
وما كاد أن يركب سيارة الأجرة بآخر الشارع؛ حتى جنحتْ به الأحلام بعيدا ليرى نفسه يزرع بعض أزهار الحبور على وجوه أولئك الموجوعين الذين طالما أرّقتْ جفونَه قضاياهم وهو يزجّها بشكل أو بآخر بين ثنايا قصصه ورواياته ..مشيرا لما يضنيهم بطريقة ضمنية.. فلعل ..وعسى..
ياله من حلم جميل ذاك الذي صار في متناول يده ولم تعد تفصله عنه سوى رفةِ جفنٍ
وما كاد أن يصل مكانَه المحدد حتى نزل مسرعا وهو يردد بين خلجات نفسه :..
ما أسعدني بحمل رسالة سامية كهذه التي طالما أثارت شجوني..وأثقلت يميني
فناداه صاحبُ السيارة ..خذ بقية نقودِك يا سيدي
وانتبه لنبضات قلبه وهي تسبق خطواته ليرد على السائق ممتنا :..
هي هديةٌ مني إليك..لتشتري بعض ما يحلّي مساء أبنائك وأنت عائد إليهم ..
ثم وقف للحظات يتأمل واجهة دار النشر والتوزيع مشدوها :..
يا لهذا الرُّقي الذي سيجللُ صفحاتِ روايتي ..لقد قضيتُ قرابة الثلاث سنوات وأنا أرصف كلماتها حرفا ..حرفا..وأشيّد أسوارها المنيعة مدماكا..مدماكا
وأخيرا سوف ترى النورَ بعدما تقاذفتْــها أدراجُ المطابع ..
تقدم في هدوء ومد يده للباب الزجاجي ودفعه في حبور؛ والبسمة تعلو وجهه وإذا به يقابله مستقيما كالعادة ..ذلك الكهل الذي لا يكل.. ولا يملّ وهو يباشر عمله الدؤوب ..
طلب منه فنجان قهوة ..فأحضره في رفة جفن وعباراتُ الثناء تنزلق من بين شفتيه شذية .. ندية ..
وكم انفرجتْ أساريرُه وهو يراه يدس بعض النقود في يده ليشكره مُشِيدا بكرمِه
وما هي إلا لحظات حتى وصل صاحب دار النشر بسيارته الفاخرة ..
بادرهما بتحية خاطفة وقد ارتسم على محياه ما خبأه صدره من حبور ليدق جرس مكتبه بسرعة البرق ..فطلب الكهل من الأستاذ أن يتفضل ..
وكم اهتزت أوصالُه وهو يقف معدِّلا رابطة عنقه.. محاولا أن يلقي نظرة أخيرة على مظروفه الذي أخرجه من المحفظة فرحا مسرورا ..
وما كاد أن يدخل حتى وجد السيد المدير مرحبا..مستبشرا وهو يمدح أسلوبه المتميز :..
ما أسعدنا بمثل هذه الأقلام المتندرّة ..هل أحضرت النسخة الورقية كما اتفقنا..؟
فازدادت نبضات قلبه عزفا ..وجللتْ الفرحةُ أسارَيره وهو يجيبه :..
نعم ..نعم يا سيدي
وقد شعر وكأن أنوار الكون قد أشرقتْ أمام ناظريه بعد سنوات الصبر والانتظار..
صمت المدير لحظة ثم أضاف :
لقد أثـــلجت صدري أيها الأديب المتفهم..
قال : هل أعتبر هذا قبولا منكم ..؟
المدير :.. طبعا ..طبعا نحن نراهن على الأقلام الجادة التي نفتقدها هذه الأيام، وقد صار كل من يتهجّى جملة مفيدة يُملي علينا شروطه..
في الحقيقة لقد قرأت الرواية بإسهاب مطلق فور وصولها بالبريد الالكتروني ..وراقت لي كثيرا وسوف نتفق بإذن الله ولكن ...هناك بعض النقاط التي سوف نناقشها سوية؛ ولا أظن أنها عصية على قلم متمرّس مثلِك..
ولا أخفيك سرا فأنا أريدها أن تكون رواية الموسم.. وسوف أدخل بها معرض الكتاب الدولي لهذه السنة.
الأستاذ :..لقد فاجأتني يا سيدي ..ما أكرمك إنك مثال يُــقتدى به.. أتمنى فقط ألا تطلب مني أي حذف أو تعديل ..فكل فصل منها هو لحظةُ نزيفِ صامتة لتبقى في نظري كُلا متكاملا لا يتجزأ، لأنني أكتب من عمق المعاناة ويستحيل أن يطل قلمي من شرفات المنابر عندما يريد اقتناص مادته.
المدير :...لا..لا الأمر أهونُ من هذا بكثير ..
ثم راح يقلب صفحاتِ الرواية وهو يقول:..
راجعْ معي هذا الفصل ..ما أروعه.. ولكن لماذا دفنت البطلة ..؟
الأستاذ : أي بطلة تقصد ..؟ !!
المدير : "جميلة" .. أنظر إنها جميلة فعلا كيف دفنت شبابها بالحجاب ..؟؟
تأمل معي جيدا ..فلو نزعت حجابها لكانت أروع .. !!!
ثم ما هذا الحوار الجاف ..؟ كيف يتحدث الأبطال بهذه الطريقة وكأنهم يطلون من بروج عاجية، عليك أن تُـــقرّب الناس من بعضهم يا رجل تجنبا للفتنة ..
أتريد أن يقاطعك القراء..؟؟
إن قارئ اليوم يريد شيئا يحرك المشاعر يثيرها ..يلهبها
كيف لك أن تعطيهم مواعظ وإرشادات، إنها رواية ..ر..و..ا..يــ...ة وليست خطبة إصلاحية ..فمن أراد أن يقرأ مثل هذا الكلام عليه أن يوفر ماله ويتجه إلى أقرب مسجد..
ثم لاحظ معي هذه العجوز ..وهذه الأسمال البالية التي تندسّ فيها.. وهذه المبيعات التي تقتات منها؛ لماذا لا تجعلها تبيع أشياءً شبابية ..فما حاجتنا للمسك والروائح هنا ..
أنت تفهمني أليس كذلك..؟؟
اقتضب وجه الأستاذ وهو يقول :..
ولكنني أربي الأجيال منذ عقدين من الزمن ..كيف تريدني أن أدسّ لهم سموما بين حروف كتبٍ ظلوا ينتظرونها معي لسنين عددا ..؟ !!!
المدير :..وهذا هو المطلوب تحديدا ..
فروايتك سوف تكون لها الأسبقية للعالمية صدقني مادام أبناؤك الطلبة متعطشين لها
الأستاذ :.. ولكن يا سيدي ..الإنسان مهما كان ظمئا فإنه يستحيل أن يشرب من بركة آسنة ..وأنا يستحيل أن أكتب ما أخاف أن يقرأه أبنائي..؟
المدير:..وسوف يرضى أبناؤك أكيد عندما يرون صورك تملأ الجرائد، وصوتك يجلجل بالحوارات المتميزة عبر المحطات الفضائية..
زوّى الأستاذ ما بين حاجبيه وضمّ يديه لبعضهما وهو يقول بلهوَجة..
وقد تنزّى قلبه : ..
إذن هذا آخر ما عندك ..؟
المدير : بل أول ماعندي ..
غيــّــــرْ فقط هذين المشهدين وسوف نعوج على بقية التفاصيل في اللقاءات القادمة
بإذن الله ..
نسيتُ أن أخبرك بأنك لن تدفع فلسا واحدا ..فحقوق الطبع سوف تكون هديتنا إليك هذه المرة باستثناء اللقاءات الأدبية، والأسفار للبيع بالتوقيع عبر المعارض المختلفة ..كل شيء مدفوع الأجر سلفا ..
وقف الأستاذ مستنفرا وجبينه يتفصّد عرقا وهو يزم شفتيه لتنفرجا عن بسمة استخفاف ثم حمل مظروفه ومضى..
وما كاد أن يصل الرواق الخارجي حتى راحت أوراقه تتناثر واحدة... فأخرى
ليجمعها الساعي بلهفة وحذر وهو يناديه :..
الرواية يا سيدي ..لقد سقطت منك سهوا
قال : ..بل عمدا يا هذا ..دعها تتسفل معهم فأنا في القمة..
*************************
من مجموعة "نوافذ موجعة" الجزء الثاني
فاكية صباحي
***********
فتح أسيار محفظته العتيقة ليُخرج مظروفا كبيرا متفقدا أوراقه ..
وهو يُحدّث نفسه قبل أن يعيده ثانية إلى مكانه:..
الحمد لله أخيرا وجدت ضالتي..
تقدمتْ زوجته التي كانت تقف خلفه وبيدها رابطةَ العنق الجديدة لتسأله مستغربة :..عن أي ضالة تتحدث..؟
فاستدار نحوها - وهو يهندمُ نفسه ..و يغني بصوته الرخيم استعدادا لموعد كم انتظره بشغف – ثم قال بحبور :..
لقد اتصل بي الناشرُ أخيرا
ابتسمتْ ملء شفتيها لتضيف :..
ألم تقل لي بأنك لن تعوّل على نشر كتبك بمطابع لا تحترم مبادءك ..وقيمَك..؟
قال : ..لا..إن الأمر مختلفٌ تماما هذه المرة ..
هل رأيتِ حوار الليلة الماضية على الشاشة الصغيرة ..؟
وهل رأيتِ ذلك الكاتب المتميز الذي استلم روايته منذ يومين ..إنه أديب عالمي ..وهذه الدار هي من دعمته إلى آخر لحظة ..فكل كتبه صدرت من هناك ..
قالت :..عليك أن تؤمّن لقدمك قبل الخطو موضعَها، فما أدراك أنها لن تكون كسابقاتها ...هل قرأت مضامين روايات ذلك الكاتب ..؟
قال :.. كلا ليس بعد ..ولكن الأمرَ واضحٌ ..إنها دارٌ لها اسمُها المعروف ..وسمعتُها العالمية
عموما سوف أذهبُ الآن ..لقد طلبتُ الإذن من مدير المدرسة ووافق متأملا كل الخير مثلي ..تعلمين أنه من قرائي الأوفياء ..ولقد أصبتُهُ بعدوى الانتظار..حتى صار متلهفا لصدور روايتي أكثر مني؛ حيث وعدني بإقامة حفلٍ بهيجٍ للبيع بالتوقيع ..فكل طلبتي وزملائي ينتظرون ذلك اليوم الأغر على أحر من الجمر..ومن يدري فلعل الرياح تهب هونا ورخاءً
أشرقتْ نظراتُ عينيها بما اكتنفَ قلبها من فرح وهي تودعه متمنية له حظا أوفرَ هذه المرة..وانصرف مهللا ..مكبرا ..شاكرا فضله تعالى ..
وما كاد أن يركب سيارة الأجرة بآخر الشارع؛ حتى جنحتْ به الأحلام بعيدا ليرى نفسه يزرع بعض أزهار الحبور على وجوه أولئك الموجوعين الذين طالما أرّقتْ جفونَه قضاياهم وهو يزجّها بشكل أو بآخر بين ثنايا قصصه ورواياته ..مشيرا لما يضنيهم بطريقة ضمنية.. فلعل ..وعسى..
ياله من حلم جميل ذاك الذي صار في متناول يده ولم تعد تفصله عنه سوى رفةِ جفنٍ
وما كاد أن يصل مكانَه المحدد حتى نزل مسرعا وهو يردد بين خلجات نفسه :..
ما أسعدني بحمل رسالة سامية كهذه التي طالما أثارت شجوني..وأثقلت يميني
فناداه صاحبُ السيارة ..خذ بقية نقودِك يا سيدي
وانتبه لنبضات قلبه وهي تسبق خطواته ليرد على السائق ممتنا :..
هي هديةٌ مني إليك..لتشتري بعض ما يحلّي مساء أبنائك وأنت عائد إليهم ..
ثم وقف للحظات يتأمل واجهة دار النشر والتوزيع مشدوها :..
يا لهذا الرُّقي الذي سيجللُ صفحاتِ روايتي ..لقد قضيتُ قرابة الثلاث سنوات وأنا أرصف كلماتها حرفا ..حرفا..وأشيّد أسوارها المنيعة مدماكا..مدماكا
وأخيرا سوف ترى النورَ بعدما تقاذفتْــها أدراجُ المطابع ..
تقدم في هدوء ومد يده للباب الزجاجي ودفعه في حبور؛ والبسمة تعلو وجهه وإذا به يقابله مستقيما كالعادة ..ذلك الكهل الذي لا يكل.. ولا يملّ وهو يباشر عمله الدؤوب ..
طلب منه فنجان قهوة ..فأحضره في رفة جفن وعباراتُ الثناء تنزلق من بين شفتيه شذية .. ندية ..
وكم انفرجتْ أساريرُه وهو يراه يدس بعض النقود في يده ليشكره مُشِيدا بكرمِه
وما هي إلا لحظات حتى وصل صاحب دار النشر بسيارته الفاخرة ..
بادرهما بتحية خاطفة وقد ارتسم على محياه ما خبأه صدره من حبور ليدق جرس مكتبه بسرعة البرق ..فطلب الكهل من الأستاذ أن يتفضل ..
وكم اهتزت أوصالُه وهو يقف معدِّلا رابطة عنقه.. محاولا أن يلقي نظرة أخيرة على مظروفه الذي أخرجه من المحفظة فرحا مسرورا ..
وما كاد أن يدخل حتى وجد السيد المدير مرحبا..مستبشرا وهو يمدح أسلوبه المتميز :..
ما أسعدنا بمثل هذه الأقلام المتندرّة ..هل أحضرت النسخة الورقية كما اتفقنا..؟
فازدادت نبضات قلبه عزفا ..وجللتْ الفرحةُ أسارَيره وهو يجيبه :..
نعم ..نعم يا سيدي
وقد شعر وكأن أنوار الكون قد أشرقتْ أمام ناظريه بعد سنوات الصبر والانتظار..
صمت المدير لحظة ثم أضاف :
لقد أثـــلجت صدري أيها الأديب المتفهم..
قال : هل أعتبر هذا قبولا منكم ..؟
المدير :.. طبعا ..طبعا نحن نراهن على الأقلام الجادة التي نفتقدها هذه الأيام، وقد صار كل من يتهجّى جملة مفيدة يُملي علينا شروطه..
في الحقيقة لقد قرأت الرواية بإسهاب مطلق فور وصولها بالبريد الالكتروني ..وراقت لي كثيرا وسوف نتفق بإذن الله ولكن ...هناك بعض النقاط التي سوف نناقشها سوية؛ ولا أظن أنها عصية على قلم متمرّس مثلِك..
ولا أخفيك سرا فأنا أريدها أن تكون رواية الموسم.. وسوف أدخل بها معرض الكتاب الدولي لهذه السنة.
الأستاذ :..لقد فاجأتني يا سيدي ..ما أكرمك إنك مثال يُــقتدى به.. أتمنى فقط ألا تطلب مني أي حذف أو تعديل ..فكل فصل منها هو لحظةُ نزيفِ صامتة لتبقى في نظري كُلا متكاملا لا يتجزأ، لأنني أكتب من عمق المعاناة ويستحيل أن يطل قلمي من شرفات المنابر عندما يريد اقتناص مادته.
المدير :...لا..لا الأمر أهونُ من هذا بكثير ..
ثم راح يقلب صفحاتِ الرواية وهو يقول:..
راجعْ معي هذا الفصل ..ما أروعه.. ولكن لماذا دفنت البطلة ..؟
الأستاذ : أي بطلة تقصد ..؟ !!
المدير : "جميلة" .. أنظر إنها جميلة فعلا كيف دفنت شبابها بالحجاب ..؟؟
تأمل معي جيدا ..فلو نزعت حجابها لكانت أروع .. !!!
ثم ما هذا الحوار الجاف ..؟ كيف يتحدث الأبطال بهذه الطريقة وكأنهم يطلون من بروج عاجية، عليك أن تُـــقرّب الناس من بعضهم يا رجل تجنبا للفتنة ..
أتريد أن يقاطعك القراء..؟؟
إن قارئ اليوم يريد شيئا يحرك المشاعر يثيرها ..يلهبها
كيف لك أن تعطيهم مواعظ وإرشادات، إنها رواية ..ر..و..ا..يــ...ة وليست خطبة إصلاحية ..فمن أراد أن يقرأ مثل هذا الكلام عليه أن يوفر ماله ويتجه إلى أقرب مسجد..
ثم لاحظ معي هذه العجوز ..وهذه الأسمال البالية التي تندسّ فيها.. وهذه المبيعات التي تقتات منها؛ لماذا لا تجعلها تبيع أشياءً شبابية ..فما حاجتنا للمسك والروائح هنا ..
أنت تفهمني أليس كذلك..؟؟
اقتضب وجه الأستاذ وهو يقول :..
ولكنني أربي الأجيال منذ عقدين من الزمن ..كيف تريدني أن أدسّ لهم سموما بين حروف كتبٍ ظلوا ينتظرونها معي لسنين عددا ..؟ !!!
المدير :..وهذا هو المطلوب تحديدا ..
فروايتك سوف تكون لها الأسبقية للعالمية صدقني مادام أبناؤك الطلبة متعطشين لها
الأستاذ :.. ولكن يا سيدي ..الإنسان مهما كان ظمئا فإنه يستحيل أن يشرب من بركة آسنة ..وأنا يستحيل أن أكتب ما أخاف أن يقرأه أبنائي..؟
المدير:..وسوف يرضى أبناؤك أكيد عندما يرون صورك تملأ الجرائد، وصوتك يجلجل بالحوارات المتميزة عبر المحطات الفضائية..
زوّى الأستاذ ما بين حاجبيه وضمّ يديه لبعضهما وهو يقول بلهوَجة..
وقد تنزّى قلبه : ..
إذن هذا آخر ما عندك ..؟
المدير : بل أول ماعندي ..
غيــّــــرْ فقط هذين المشهدين وسوف نعوج على بقية التفاصيل في اللقاءات القادمة
بإذن الله ..
نسيتُ أن أخبرك بأنك لن تدفع فلسا واحدا ..فحقوق الطبع سوف تكون هديتنا إليك هذه المرة باستثناء اللقاءات الأدبية، والأسفار للبيع بالتوقيع عبر المعارض المختلفة ..كل شيء مدفوع الأجر سلفا ..
وقف الأستاذ مستنفرا وجبينه يتفصّد عرقا وهو يزم شفتيه لتنفرجا عن بسمة استخفاف ثم حمل مظروفه ومضى..
وما كاد أن يصل الرواق الخارجي حتى راحت أوراقه تتناثر واحدة... فأخرى
ليجمعها الساعي بلهفة وحذر وهو يناديه :..
الرواية يا سيدي ..لقد سقطت منك سهوا
قال : ..بل عمدا يا هذا ..دعها تتسفل معهم فأنا في القمة..
*************************
من مجموعة "نوافذ موجعة" الجزء الثاني
فاكية صباحي