الكاتبة " آسيا رحاحلية" بداية عرفي قراء جريدة الجزائر على الكاتبة "آسيا رحاحلية"؟
آسيا رحاحليه، أستاذة لغة انجليزية متقاعدة، أمٌّ و ربة بيت.
هل هذا تعريف؟ حسنا. ليكن إذا. لا أدري لماذا أجد دائما نفسي في حيرة أمام سؤال كهذا رغم أنّه سهل جدا. أودّ أن أضيف بأنّي كاتبة أو قاصة و لكني أرغب في أن يأتي هذا التعريف من القارئ.
من أنا ؟ أنا الهاربة من سيف مسرور بصرّة حكايات.
- كيف كانت بداياتك ؟
لا أدري بالضبط. لقد أنبتتني السماء لكي أكتب، على رأي إحدى صديقات الدراسة. خبأتني الحياة من قدر الحرف لسنوات طويلة و رمت بي بعيدا تماما عن غواية الكتابة، إلى أن كان يوم، قفز قدري في صدري و بدأت أكتب.
في طفولتي، في المدرسة تميّزت بكتابة نصوص الإنشاء لدرجة أنّ معلميّ كانوا يحملون مواضيعي و يقرؤونها لتلاميذ الصفوف الأخرى، بعدها جاءت مرحلة المراهقة و صرت كاتبة رسائل العشاق، و أيضا مدوّنة ، أخط على دفتر صغير، يوما بيوم، ما ينتابني من أفكار و هواجس و مشاعر. و بدأت أيضا كتابة الخواطر و القصة. ثم تخصّصت في اللغة الانجليزية و تخرّجت من الجامعة لكي أشتغل بالتدريس/ مثلث برمودا/ لمدة 23 سنة و فقط منذ حوالي ثمان سنوات، شعرت باستحالة مواصلة مشوار التدريس . أحسست أنّي أفرغت بكل ما له علاقة بالتعليم فأخذت قرار التقاعد النسبي و جلست في البيت أكتب و أقرأ و أحلم و ظهرت للنور مجموعتي القصصية الأولى" ليلة تكلم فيها البحر".
- كيف كانت طفولتك ومن اكتشف موهبتك وهل للأسرة دور بتنمية الموهبة لديك ؟
طفولة عادية، هادئة و سعيدة. بين أب عصامي مكافح تعلّمت منه فضيلة الصمت و التأمّل، تفتّح سمعي على صوته حين يرتّل القرآن و بين أم لا تعرف القراءة و لا الكتابة لكن خارقة الذكاء و فنانة في سرد الحكايات و الأمثال و الأحاجي. في ذلك الزمن البعيد، الذي لم يكن فيه تلفزيون و لا نت، كنا نجتمع حول أمي فتسرد علينا قصصا و حكايات عجيبة، بعضها لا يزال إلى اليوم يؤثث الذاكرة الشعبية، كنت ألتقط حديث أمي بقلبي و حين ينام الجميع أظل مستيقظة أفكّر في الحكاية. من هنا تفتّق خيالي و نما حبي للسرد و عشقي للقصة. ولدت بعد الاستقلال و ترعرعت في أسرة مثل مئات الأسر في ذلك الوقت. والدٌ مشغول بتوفير لقمة العيش، و والدة مهتمة بشؤون منزل كبير و احتياجات خمس بنات و ابن.لا أستطيع أن أقول أن لأسرتي دور في تنمية موهبتي. أمي و أبي كانا يحرصان على تفوّقي الدراسي فقط ، و أمي بالتحديد كانت تخشى عليّ أن أهمل دروسي بسبب عشقي للمطالعة و الكتب، كنت أقرأ خلسة عنها. لكن بعض أساتذتي في المتوسطة و الثانوية تنبئوا لي بقدر الحرف.
- حدثني عن إبداعاتك الأدبية، ومساهماتك في مجال الصحافة؟
صدرت لي أربع مجموعات قصصية : ليلة تكلم فيها البحر ، سكوت إني أحترق ، اعتقني من جنتك و تدق الساعة تمام الغياب..نشرت لي عدة مقالات و أيضا نصوص قصصية في العديد من المواقع الالكترونية: النور، المثقف، أصوات الشمال، الفكر، ملتقى الأدباء و المبدعين العرب . و الجرائد الورقية من بينها مجلة ألوان في السودان في صفحة يشرف عليها المبدع الصحفي نجيب محمد علي.
كما صدر لي كتابان شبه مدرسيان باللغة الانجليزية لطلاب البكالوريا.
بالإضافة إلى مخطوط رواية و مجموعة قصصية خامسة.
- ما الذي يغريك في الكتابة؟
إنّه أمر يصعب شرحه. متعة لا يمكن تفسيرها. لحظة فرح نادر و عجيب. كلما أنهيت نصا انتشيت مثل طفل فقير جائع يعثر على قطعة كعك في جيب سرواله. الكتابة كلها إغراء. حياة موازية لحياتي إلاّ أنها أجمل و أعمق.
- ما هي المواضيع التي تحوم عليها قصصك؟
من أين تأتي القصة؟ بكل بساطة، من الحياة. حتى لو تدخّل الخيال و رسم بعض معالمها تبقى قصصي مستمدّة من صميم الحياة من حولي، بكل تناقضاتها و آلامها و آمالها. قلت مرة، الواقع في قصصي هيكل عظمي ألبسه ثوب الخيال فيتشكّل في النهاية كائنا آخر، ليس حقيقة صرفة و ليس خيالا محضا. تأتي القصة من الإنسان. الإنسان هو هاجسي، تمسّني مختلف حالاته النفسية و المزاجية، عذاباته، أسئلته، قلقه الوجودي، انفعالاته، إيمانه و كفره، تمسّني في العمق فلا أرتاح إلاّ حين أحوّل عبارة من امرأة التقي بها صدفة أو نظرة من طفل في الشارع، أو صورة قديمة بالأبيض و الأسود ، أحوّلها إلى نص قصصي يقف كما قلت بين الحقيقي و بين ما يجب أن يكون.
- ما مدى متابعتك للمشهد الأدبي؟
لست متابعة جيّدة. أحاول أن أكون في الصورة أو بالأحرى أن تكون الصورة أمامي رغم بعدي عن العاصمة و كبريات المدن و غيابي عن الفعاليات الثقافية و الأدبية، و تقوقعي نوعا ما. الجيّد أن مواقع التواصل الاجتماعي توفّر لي فرص المتابعة.
- الكثير من القاصات العربيات اتجهن لمغامرات روائية؟ هل لديك مغامرات في هذا المجال؟
مغامرة؟ هل هي خطيرة لهذا الحد؟ ( أمزح معك) حسنا. سألني صديقي محمد بومعراف مرة : لماذا لا تجرّبين كتابة الرواية مثل الكثيرين؟ فأجبته : لن أجرّب كتابة الرواية لأنّ الذي يجرّب يواجه احتمالين : الفشل أو النجاح، و أنا بصراحة قاسية مع نفسي جدا و لا أتسامح معها في حالة الفشل.ثم إنّني وصلت إلى مرحلة من العمر لا يسمح لي فيها الوقت بالتجريب و إنّني في مواجهة حاسمة مع الزمن.
و قلت له إنّي بالتأكيد لن أكتب رواية بسرعة أو لمجرّد أن أحظى بلقب روائية أو فقط كي أركب الموجة . كان هذا الكلام منذ ثلاث سنوات و لكني شرعت في كتابة رواية و أنهيتها منذ أيام. كتبتها على قدم الحب و ساق التعب.أعتقد أنها جيّدة و هي جاهزة للنشر. لا أراها مغامرة، بمفهوم الخطر، بل تجربة ثرية و ممتعة.
- من الشاعر المفضل لديك والأديب المفضل ؟
أستطيع أن أذكر لك اسما أو اثنين و أضع نقطة و ننتهي لكني لن أكون صادقة و لن يعجبني ذلك. في الأدب، هناك الغث و هناك السمين، لكن فكرة الأفضلية أجدها غريبة و غير منصفة. ربما في لعبة كرة القدم نستطيع القول بالأفضلية لكن في الإبداع الكتابي لا أظن.
ليس في رأسي الآن شاعرا مفضلا أو أديبا مفضلا. أنا امرأة تقرأ، يوميا، قرأت و أقرأ لكبار الأدباء قديما و حديثا، كما أقرأ للشعراء و الكتّاب و القاصين الناشئين أو المغمورين و صدّقيني بعض قصائد الشعر العمودي لحاتم برحال مثلا، من مداوروش، أمتن بكثير و أروع من قصائد مفدي زكريا، و ديوان عامر الطيب " يقف وحيدا كشجرتين" لا يقل دهشة عن دواوين محمود درويش. و تدهشني قصائد صونيا فرجاني بعفويتها و عمقها المستمد من الحياة البسيطة اليومية، و تذكّرني بالرائعة فروخ فرخزاد. محمد الخضور رائع في ديوانه" نقطة في فراغ". سامية رحاحليه، التي تكتب منذ الثمانينيات و لم تحظى بفرصة الطبع بعد، تملك من النصوص النثرية و القصائد ما يضاهي في جودته و روعته كتابات السمان و مستغانمي، بشهادة الكثيرين و أوّلهم الأستاذ محمد البدوي، رئيس اتحاد الكتاب في تونس و صاحب دار البدوي للنشر بالمنستير..
الأدب بحر و ما هو " أفضل " قد يكون سمكة صغيرة مذهلة في نهر بعيد، أو عصفور نادر مدهش الألوان فوق شجرة قصيرة في الأمازون، لكن من يهتم؟ و من يبحث؟
تلك هي المسألة.
- هل اطَّلعتِ على الرواية والقصة القصيرة في الجزائر؟ وإذا كان الجواب بنعم فما رأيكِ فيها؟ وما أبرز الأسماء التي لفتت نظركِ؟
بصراحة لست راضية عن نفسي بسبب تقصيري ، أحيانا لا يتوفّر لديّ الوقت و أحيانا لا تصلني الإصدارات و أحيانا لا أجد مزاجا للقراءة لكني قطعت على نفسي وعدا أن ألتزم هذا الصيف بقراءة القصة و الرواية للمبدعين الجزائريين.
في القصة مثلا، الأسماء كثيرة و أخشى لو ذكرت اسما أن أغفل آخر.قرأت للمتميّز طارق لحمادي ، اليمين أمير، لمياء بلخضر،عبد الله كروم، سعدي صباح، سهام بوخروف، جمال الدين بوثلجة، آسيا بودخانة، فوزية خليفي و نصوصها الجميلة جدا.
الكثير من الأسماء رصدها الأكاديمي الأستاذ حسن دواس في مؤلفه "حدثّ الهدهد" انطولوجيا القصة الجزائرية القصيرة / الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد مجاهد عام ، 2013 و قد قدّم فيه خريطة للقصاصين في بلادنا في فترة ما قبل الاستقلال وبعده .
أيضا الأستاذ بشير خلف، في إحدى ملتقيات القصة القصيرة، قدّم عرضا شاملا لكتّاب القصة في الجزائر سواء لمن بقوا أوفياء لها أو الذين تحوّلوا إلى الكتابة الروائية.
- ما هي أبرز المعوِّقات التي تواجه الكتابة الإبداعية اليوم، خاصة في ظل الانشغال بهموم الحياة اليومية؟
المعوقات كثيرة. صعوبة الطبع، غياب النقد ، عدم اهتمام الإعلام بالعمل، عدم توفّر الوقت للكتابة، غير أنّ المرأة الكاتبة بشكل عام تواجه صعوبات أكبر لأننا في مجتمع لم يهضم بعد و بشكل صحيح فكرة المرأة الكاتبة. ليس يسيرا أن تكون المرأة كاتبة سواء في الجزائر أو في العالم العربي عموما ..هذه حقيقة تعيشها كل امرأة تغامر بالمشي في الحقل الأدبي إذ عليها أن تحارب على أكثر من جبهة.البعض لا يزال يؤمن بأنّ القلم الوحيد الذي على المرأة أن تحمله بين أصابعها هو قلم / الروج/ لتصبغ شفتيها،أو قلم الكحل لتحدد نظرة عينيها. مرة سألتني صحفية: هل تعتقدين أن طريق المرأة المبدعة مفروش بالورود؟ فقلت لها: إذا كان مفروشا فهو بالتأكيد ليس بالورود.
و عموما الكتابة كفاح .أحيانا أحس بذلك حين أرغب في الكتابة بينما يتحتّم عليّ أن أدخل المطبخ أو أنظف البيت أو أهتم بعائلتي أو أستقبل ضيوفا. إنّني أومن بأنّ النجاح ، في أي مجال كان، ليس هبة علينا انتظارها من الآخرين و إنّها هو جهد و عمل و إيمان و صبر أيضا، و هذا يعطيه مذاقا و قيمة.
- هل هناك كتبٌ معيَّنة أَسَرَتكِ أكثر من غيرها، خاصة في المجال الأدبي؟
في صباي، أيام ولعي بالقراءة لم أكن أتخيّر ما أقرأ. لا أدري إذا كان هذا ايجابيا أم لا . كنت نهمة، ولوعة بمطالعة كل ما تقع عليه يدي من كتب و دواوين شعر و مجلات و صحف سواء بالعربية أو الفرنسية أو الانجليزية. اعتقد أنّ ميولنا القرائية تتغيّر مع العمر. ثم بعد ذلك بدأت أقرأ بوعي أكبر، و وجدت فيّ ميلا للكتب التي لها أبعاد نفسية أو فلسفية، التي تطرح إشكاليات الوجود، الموت و الولادة، التي تثير الفضول، و تشاغب العقل. المشكلة أني أنسى كثيرا و لا أحتفظ في ذاكرتي بأسماء الكتب التي أقرأ.
- ما هو الشّيء الذي لم تحققيه بعد وتحلمين بتحقيقه؟
حين أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، حقّقت حلم صبيّة تسكنني. كان أمرا رائعا. أحسست أنّني أنصفتها، تلك الصغيرة الخجولة التي جلست ذات مساء تتابع في التلفزيون برنامج " أقلام على الطريق" و بعد أن أطفئت الأنوار و نام الجميع، فتحت كراسة يومياتها و كتبت: (الجمعة 23 نوفمبر 1979: كان البرنامج هذه الليلة مع قاص شاب نسيت اسمه لكن أعجبني أسلوبه في قصة ألقاها و رحت أسأل نفسي..ترى هل سيتحقق أملي يوما ؟و هل سأصبح أديبة؟ ) أديبة مرة واحدة ههههه. كنت في السادسة عشرة من العمر.)
لكن الجميل في الأحلام أنّه كلما في حياتنا تحقّق حلم، تفتّق أمل جديد في تحقيق حلم آخر.
هذا ما يجعل الحياة جديدة بالعيش.
بعيدا عن الكتابة، أحلم بأن أسافر. جئت إلى الدنيا و لم أر الأرض. بي رغبة في التجوال. رؤية أماكن بعيدة، التعرّف بأناس آخرين، تذوّق أكلات جديدة. منذ قرون و أنا هنا، كأنّي شجرة أو صخرة.
كم هذا متعب و محزن.
- وما موقفكِ من النقد في المشهد الثقافي؟ وهل تتقبلين النقد؟
نظرت دائما إلى النقد على أنّه فن و إبداع، و أنّ العلاقة بينه و بين الأدب علاقة تكاملية، علاقة أخذ ورد. يحزنني كثيرا ما نشهده اليوم من نزاعات و خصومات و حروب وهمية بين كاتب و ناقد و كأنّ أحدهما لابد أن يكون عدوّ الآخر. يقول الدكتور وليد قصاب " الناقد ليس عرَّافًا ولا قارِئَ فنجان، وإنَّما هو متلقٍّ يقوم بنشاطٍ عقلي منطقي تُمْليه لغةُ النَّص الذي أمامَه".نعم لغة النص الذي أمامه و ليس شيئا آخر.
هناك أسماء، شخصيا أستمتع بقراءاتها النقدية مثل عامر مخلوف و محمد لمين بحري و لونيس بن علي و المصري محمود الغيطاني.
أقبل النقد حين يكون هادفا و موضوعيا، بعيدا عن الذاتية، مستندا على أسس و معايير دقيقة واضحة، ذلك النقد الذي لا يعمل على إبراز الجانب السلبي أو محاولة تضخيمه دون الالتفات إلى مزايا و ايجابيات العمل.
و بصراحة لو لم يكن هناك نقد هدّام لما جاءت عبارة النقد البنّاء.
- ما رأيك بمستوى الحركة الأدبية الراهنة في البلاد؟
الصورة ضبابية، اختلط الحابل بالنابل، و الجيد بالرديء، و خلا الجو للرداءة فهاهي تبيض و تفقّس. لكن في المقابل، بصيص أمل يبدو وسط الصورة و هو ما نراه من أقلام مبدعة تحاول شق طريقها وسط هيمنة أسماء معينة مكرّرة، و دور نشر بسواعد شبابية تسعى للتميّز.
- حدثينا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
مشروعي الأكبر أن أبقى وفيّة للكتابة و أن تبقى وفيّة لي.
- كلمة أخيرة توجهيها للقراء؟
أقول لهم ما قاله القاص الجزائري «علال سنقوقة»: " أمطروني مدحا ..فإنني قد كتبت..أو انحوا علي باللائمة و العتاب فإنني قد كتبت أيضا. "
عفوا، هذا لا يعني أنني لا أهتم بقرائي، و لا أسعى لرضاهم و لكن النص حين يخرج من قلبي كالرصاصة لا تعود إلى الزناد. أنا و نصوصي من دون قرّائي الأحبّاء مثل وردة بلاستيكية،لا عطر فيها و لا حياة .
و أقول لهم بكل صدق شكرا و أحبّكم و أنتم الأجمل لأنكم تمارسون فعلا عظيما لا يلقّاه إلا ذوي الشأن العظيم: القراءة.
آسيا رحاحليه، أستاذة لغة انجليزية متقاعدة، أمٌّ و ربة بيت.
هل هذا تعريف؟ حسنا. ليكن إذا. لا أدري لماذا أجد دائما نفسي في حيرة أمام سؤال كهذا رغم أنّه سهل جدا. أودّ أن أضيف بأنّي كاتبة أو قاصة و لكني أرغب في أن يأتي هذا التعريف من القارئ.
من أنا ؟ أنا الهاربة من سيف مسرور بصرّة حكايات.
- كيف كانت بداياتك ؟
لا أدري بالضبط. لقد أنبتتني السماء لكي أكتب، على رأي إحدى صديقات الدراسة. خبأتني الحياة من قدر الحرف لسنوات طويلة و رمت بي بعيدا تماما عن غواية الكتابة، إلى أن كان يوم، قفز قدري في صدري و بدأت أكتب.
في طفولتي، في المدرسة تميّزت بكتابة نصوص الإنشاء لدرجة أنّ معلميّ كانوا يحملون مواضيعي و يقرؤونها لتلاميذ الصفوف الأخرى، بعدها جاءت مرحلة المراهقة و صرت كاتبة رسائل العشاق، و أيضا مدوّنة ، أخط على دفتر صغير، يوما بيوم، ما ينتابني من أفكار و هواجس و مشاعر. و بدأت أيضا كتابة الخواطر و القصة. ثم تخصّصت في اللغة الانجليزية و تخرّجت من الجامعة لكي أشتغل بالتدريس/ مثلث برمودا/ لمدة 23 سنة و فقط منذ حوالي ثمان سنوات، شعرت باستحالة مواصلة مشوار التدريس . أحسست أنّي أفرغت بكل ما له علاقة بالتعليم فأخذت قرار التقاعد النسبي و جلست في البيت أكتب و أقرأ و أحلم و ظهرت للنور مجموعتي القصصية الأولى" ليلة تكلم فيها البحر".
- كيف كانت طفولتك ومن اكتشف موهبتك وهل للأسرة دور بتنمية الموهبة لديك ؟
طفولة عادية، هادئة و سعيدة. بين أب عصامي مكافح تعلّمت منه فضيلة الصمت و التأمّل، تفتّح سمعي على صوته حين يرتّل القرآن و بين أم لا تعرف القراءة و لا الكتابة لكن خارقة الذكاء و فنانة في سرد الحكايات و الأمثال و الأحاجي. في ذلك الزمن البعيد، الذي لم يكن فيه تلفزيون و لا نت، كنا نجتمع حول أمي فتسرد علينا قصصا و حكايات عجيبة، بعضها لا يزال إلى اليوم يؤثث الذاكرة الشعبية، كنت ألتقط حديث أمي بقلبي و حين ينام الجميع أظل مستيقظة أفكّر في الحكاية. من هنا تفتّق خيالي و نما حبي للسرد و عشقي للقصة. ولدت بعد الاستقلال و ترعرعت في أسرة مثل مئات الأسر في ذلك الوقت. والدٌ مشغول بتوفير لقمة العيش، و والدة مهتمة بشؤون منزل كبير و احتياجات خمس بنات و ابن.لا أستطيع أن أقول أن لأسرتي دور في تنمية موهبتي. أمي و أبي كانا يحرصان على تفوّقي الدراسي فقط ، و أمي بالتحديد كانت تخشى عليّ أن أهمل دروسي بسبب عشقي للمطالعة و الكتب، كنت أقرأ خلسة عنها. لكن بعض أساتذتي في المتوسطة و الثانوية تنبئوا لي بقدر الحرف.
- حدثني عن إبداعاتك الأدبية، ومساهماتك في مجال الصحافة؟
صدرت لي أربع مجموعات قصصية : ليلة تكلم فيها البحر ، سكوت إني أحترق ، اعتقني من جنتك و تدق الساعة تمام الغياب..نشرت لي عدة مقالات و أيضا نصوص قصصية في العديد من المواقع الالكترونية: النور، المثقف، أصوات الشمال، الفكر، ملتقى الأدباء و المبدعين العرب . و الجرائد الورقية من بينها مجلة ألوان في السودان في صفحة يشرف عليها المبدع الصحفي نجيب محمد علي.
كما صدر لي كتابان شبه مدرسيان باللغة الانجليزية لطلاب البكالوريا.
بالإضافة إلى مخطوط رواية و مجموعة قصصية خامسة.
- ما الذي يغريك في الكتابة؟
إنّه أمر يصعب شرحه. متعة لا يمكن تفسيرها. لحظة فرح نادر و عجيب. كلما أنهيت نصا انتشيت مثل طفل فقير جائع يعثر على قطعة كعك في جيب سرواله. الكتابة كلها إغراء. حياة موازية لحياتي إلاّ أنها أجمل و أعمق.
- ما هي المواضيع التي تحوم عليها قصصك؟
من أين تأتي القصة؟ بكل بساطة، من الحياة. حتى لو تدخّل الخيال و رسم بعض معالمها تبقى قصصي مستمدّة من صميم الحياة من حولي، بكل تناقضاتها و آلامها و آمالها. قلت مرة، الواقع في قصصي هيكل عظمي ألبسه ثوب الخيال فيتشكّل في النهاية كائنا آخر، ليس حقيقة صرفة و ليس خيالا محضا. تأتي القصة من الإنسان. الإنسان هو هاجسي، تمسّني مختلف حالاته النفسية و المزاجية، عذاباته، أسئلته، قلقه الوجودي، انفعالاته، إيمانه و كفره، تمسّني في العمق فلا أرتاح إلاّ حين أحوّل عبارة من امرأة التقي بها صدفة أو نظرة من طفل في الشارع، أو صورة قديمة بالأبيض و الأسود ، أحوّلها إلى نص قصصي يقف كما قلت بين الحقيقي و بين ما يجب أن يكون.
- ما مدى متابعتك للمشهد الأدبي؟
لست متابعة جيّدة. أحاول أن أكون في الصورة أو بالأحرى أن تكون الصورة أمامي رغم بعدي عن العاصمة و كبريات المدن و غيابي عن الفعاليات الثقافية و الأدبية، و تقوقعي نوعا ما. الجيّد أن مواقع التواصل الاجتماعي توفّر لي فرص المتابعة.
- الكثير من القاصات العربيات اتجهن لمغامرات روائية؟ هل لديك مغامرات في هذا المجال؟
مغامرة؟ هل هي خطيرة لهذا الحد؟ ( أمزح معك) حسنا. سألني صديقي محمد بومعراف مرة : لماذا لا تجرّبين كتابة الرواية مثل الكثيرين؟ فأجبته : لن أجرّب كتابة الرواية لأنّ الذي يجرّب يواجه احتمالين : الفشل أو النجاح، و أنا بصراحة قاسية مع نفسي جدا و لا أتسامح معها في حالة الفشل.ثم إنّني وصلت إلى مرحلة من العمر لا يسمح لي فيها الوقت بالتجريب و إنّني في مواجهة حاسمة مع الزمن.
و قلت له إنّي بالتأكيد لن أكتب رواية بسرعة أو لمجرّد أن أحظى بلقب روائية أو فقط كي أركب الموجة . كان هذا الكلام منذ ثلاث سنوات و لكني شرعت في كتابة رواية و أنهيتها منذ أيام. كتبتها على قدم الحب و ساق التعب.أعتقد أنها جيّدة و هي جاهزة للنشر. لا أراها مغامرة، بمفهوم الخطر، بل تجربة ثرية و ممتعة.
- من الشاعر المفضل لديك والأديب المفضل ؟
أستطيع أن أذكر لك اسما أو اثنين و أضع نقطة و ننتهي لكني لن أكون صادقة و لن يعجبني ذلك. في الأدب، هناك الغث و هناك السمين، لكن فكرة الأفضلية أجدها غريبة و غير منصفة. ربما في لعبة كرة القدم نستطيع القول بالأفضلية لكن في الإبداع الكتابي لا أظن.
ليس في رأسي الآن شاعرا مفضلا أو أديبا مفضلا. أنا امرأة تقرأ، يوميا، قرأت و أقرأ لكبار الأدباء قديما و حديثا، كما أقرأ للشعراء و الكتّاب و القاصين الناشئين أو المغمورين و صدّقيني بعض قصائد الشعر العمودي لحاتم برحال مثلا، من مداوروش، أمتن بكثير و أروع من قصائد مفدي زكريا، و ديوان عامر الطيب " يقف وحيدا كشجرتين" لا يقل دهشة عن دواوين محمود درويش. و تدهشني قصائد صونيا فرجاني بعفويتها و عمقها المستمد من الحياة البسيطة اليومية، و تذكّرني بالرائعة فروخ فرخزاد. محمد الخضور رائع في ديوانه" نقطة في فراغ". سامية رحاحليه، التي تكتب منذ الثمانينيات و لم تحظى بفرصة الطبع بعد، تملك من النصوص النثرية و القصائد ما يضاهي في جودته و روعته كتابات السمان و مستغانمي، بشهادة الكثيرين و أوّلهم الأستاذ محمد البدوي، رئيس اتحاد الكتاب في تونس و صاحب دار البدوي للنشر بالمنستير..
الأدب بحر و ما هو " أفضل " قد يكون سمكة صغيرة مذهلة في نهر بعيد، أو عصفور نادر مدهش الألوان فوق شجرة قصيرة في الأمازون، لكن من يهتم؟ و من يبحث؟
تلك هي المسألة.
- هل اطَّلعتِ على الرواية والقصة القصيرة في الجزائر؟ وإذا كان الجواب بنعم فما رأيكِ فيها؟ وما أبرز الأسماء التي لفتت نظركِ؟
بصراحة لست راضية عن نفسي بسبب تقصيري ، أحيانا لا يتوفّر لديّ الوقت و أحيانا لا تصلني الإصدارات و أحيانا لا أجد مزاجا للقراءة لكني قطعت على نفسي وعدا أن ألتزم هذا الصيف بقراءة القصة و الرواية للمبدعين الجزائريين.
في القصة مثلا، الأسماء كثيرة و أخشى لو ذكرت اسما أن أغفل آخر.قرأت للمتميّز طارق لحمادي ، اليمين أمير، لمياء بلخضر،عبد الله كروم، سعدي صباح، سهام بوخروف، جمال الدين بوثلجة، آسيا بودخانة، فوزية خليفي و نصوصها الجميلة جدا.
الكثير من الأسماء رصدها الأكاديمي الأستاذ حسن دواس في مؤلفه "حدثّ الهدهد" انطولوجيا القصة الجزائرية القصيرة / الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد مجاهد عام ، 2013 و قد قدّم فيه خريطة للقصاصين في بلادنا في فترة ما قبل الاستقلال وبعده .
أيضا الأستاذ بشير خلف، في إحدى ملتقيات القصة القصيرة، قدّم عرضا شاملا لكتّاب القصة في الجزائر سواء لمن بقوا أوفياء لها أو الذين تحوّلوا إلى الكتابة الروائية.
- ما هي أبرز المعوِّقات التي تواجه الكتابة الإبداعية اليوم، خاصة في ظل الانشغال بهموم الحياة اليومية؟
المعوقات كثيرة. صعوبة الطبع، غياب النقد ، عدم اهتمام الإعلام بالعمل، عدم توفّر الوقت للكتابة، غير أنّ المرأة الكاتبة بشكل عام تواجه صعوبات أكبر لأننا في مجتمع لم يهضم بعد و بشكل صحيح فكرة المرأة الكاتبة. ليس يسيرا أن تكون المرأة كاتبة سواء في الجزائر أو في العالم العربي عموما ..هذه حقيقة تعيشها كل امرأة تغامر بالمشي في الحقل الأدبي إذ عليها أن تحارب على أكثر من جبهة.البعض لا يزال يؤمن بأنّ القلم الوحيد الذي على المرأة أن تحمله بين أصابعها هو قلم / الروج/ لتصبغ شفتيها،أو قلم الكحل لتحدد نظرة عينيها. مرة سألتني صحفية: هل تعتقدين أن طريق المرأة المبدعة مفروش بالورود؟ فقلت لها: إذا كان مفروشا فهو بالتأكيد ليس بالورود.
و عموما الكتابة كفاح .أحيانا أحس بذلك حين أرغب في الكتابة بينما يتحتّم عليّ أن أدخل المطبخ أو أنظف البيت أو أهتم بعائلتي أو أستقبل ضيوفا. إنّني أومن بأنّ النجاح ، في أي مجال كان، ليس هبة علينا انتظارها من الآخرين و إنّها هو جهد و عمل و إيمان و صبر أيضا، و هذا يعطيه مذاقا و قيمة.
- هل هناك كتبٌ معيَّنة أَسَرَتكِ أكثر من غيرها، خاصة في المجال الأدبي؟
في صباي، أيام ولعي بالقراءة لم أكن أتخيّر ما أقرأ. لا أدري إذا كان هذا ايجابيا أم لا . كنت نهمة، ولوعة بمطالعة كل ما تقع عليه يدي من كتب و دواوين شعر و مجلات و صحف سواء بالعربية أو الفرنسية أو الانجليزية. اعتقد أنّ ميولنا القرائية تتغيّر مع العمر. ثم بعد ذلك بدأت أقرأ بوعي أكبر، و وجدت فيّ ميلا للكتب التي لها أبعاد نفسية أو فلسفية، التي تطرح إشكاليات الوجود، الموت و الولادة، التي تثير الفضول، و تشاغب العقل. المشكلة أني أنسى كثيرا و لا أحتفظ في ذاكرتي بأسماء الكتب التي أقرأ.
- ما هو الشّيء الذي لم تحققيه بعد وتحلمين بتحقيقه؟
حين أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، حقّقت حلم صبيّة تسكنني. كان أمرا رائعا. أحسست أنّني أنصفتها، تلك الصغيرة الخجولة التي جلست ذات مساء تتابع في التلفزيون برنامج " أقلام على الطريق" و بعد أن أطفئت الأنوار و نام الجميع، فتحت كراسة يومياتها و كتبت: (الجمعة 23 نوفمبر 1979: كان البرنامج هذه الليلة مع قاص شاب نسيت اسمه لكن أعجبني أسلوبه في قصة ألقاها و رحت أسأل نفسي..ترى هل سيتحقق أملي يوما ؟و هل سأصبح أديبة؟ ) أديبة مرة واحدة ههههه. كنت في السادسة عشرة من العمر.)
لكن الجميل في الأحلام أنّه كلما في حياتنا تحقّق حلم، تفتّق أمل جديد في تحقيق حلم آخر.
هذا ما يجعل الحياة جديدة بالعيش.
بعيدا عن الكتابة، أحلم بأن أسافر. جئت إلى الدنيا و لم أر الأرض. بي رغبة في التجوال. رؤية أماكن بعيدة، التعرّف بأناس آخرين، تذوّق أكلات جديدة. منذ قرون و أنا هنا، كأنّي شجرة أو صخرة.
كم هذا متعب و محزن.
- وما موقفكِ من النقد في المشهد الثقافي؟ وهل تتقبلين النقد؟
نظرت دائما إلى النقد على أنّه فن و إبداع، و أنّ العلاقة بينه و بين الأدب علاقة تكاملية، علاقة أخذ ورد. يحزنني كثيرا ما نشهده اليوم من نزاعات و خصومات و حروب وهمية بين كاتب و ناقد و كأنّ أحدهما لابد أن يكون عدوّ الآخر. يقول الدكتور وليد قصاب " الناقد ليس عرَّافًا ولا قارِئَ فنجان، وإنَّما هو متلقٍّ يقوم بنشاطٍ عقلي منطقي تُمْليه لغةُ النَّص الذي أمامَه".نعم لغة النص الذي أمامه و ليس شيئا آخر.
هناك أسماء، شخصيا أستمتع بقراءاتها النقدية مثل عامر مخلوف و محمد لمين بحري و لونيس بن علي و المصري محمود الغيطاني.
أقبل النقد حين يكون هادفا و موضوعيا، بعيدا عن الذاتية، مستندا على أسس و معايير دقيقة واضحة، ذلك النقد الذي لا يعمل على إبراز الجانب السلبي أو محاولة تضخيمه دون الالتفات إلى مزايا و ايجابيات العمل.
و بصراحة لو لم يكن هناك نقد هدّام لما جاءت عبارة النقد البنّاء.
- ما رأيك بمستوى الحركة الأدبية الراهنة في البلاد؟
الصورة ضبابية، اختلط الحابل بالنابل، و الجيد بالرديء، و خلا الجو للرداءة فهاهي تبيض و تفقّس. لكن في المقابل، بصيص أمل يبدو وسط الصورة و هو ما نراه من أقلام مبدعة تحاول شق طريقها وسط هيمنة أسماء معينة مكرّرة، و دور نشر بسواعد شبابية تسعى للتميّز.
- حدثينا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
مشروعي الأكبر أن أبقى وفيّة للكتابة و أن تبقى وفيّة لي.
- كلمة أخيرة توجهيها للقراء؟
أقول لهم ما قاله القاص الجزائري «علال سنقوقة»: " أمطروني مدحا ..فإنني قد كتبت..أو انحوا علي باللائمة و العتاب فإنني قد كتبت أيضا. "
عفوا، هذا لا يعني أنني لا أهتم بقرائي، و لا أسعى لرضاهم و لكن النص حين يخرج من قلبي كالرصاصة لا تعود إلى الزناد. أنا و نصوصي من دون قرّائي الأحبّاء مثل وردة بلاستيكية،لا عطر فيها و لا حياة .
و أقول لهم بكل صدق شكرا و أحبّكم و أنتم الأجمل لأنكم تمارسون فعلا عظيما لا يلقّاه إلا ذوي الشأن العظيم: القراءة.