عز الدين المناصرة: (يتوهَّجُ كنعان) بين الخليل وبيروت
طلال سلمان
مؤسس جريدة "السفير"، بيروت
اختلفت الأزمنة علينا، فافترقنا، وتباعدت المسافات ما بيننا، وغامت الأسماء وسط افتقاد العناوين، لا سيّما بالنسبة إلى المخلوق الفلسطيني، الذي يُراد له أن يكون خارج الزمان، وخارج المكان، إلاّ إذا صارت الأرض، (دار حرب).
-عز الدين المناصرة... ما زال للاسم رنينُه، وما زالت في الذاكرة بعض الملامح، والكثير من الأبيات، والمقاطع المتحدّرة من قصائده، التي حفظت بيروت، بعضها، أو تلك التي جاءت أصداؤها من دمشق، وعمّان، والجزائر، وكلها تأتينا بفلسطين، وتأخذنا إليها.
-شعَّ الاسم (عز الدين المناصرة) على الغلاف الذي تحتلُّ صدره لوحة الصنوبر، حارس البحر للفنّان مصطفى فَرُّوخ. وأما عنوان الديوان (يتوهَّج كنعان)، فهو جديد – قديم، لأنه عبارة عن (مختارات شعرية)، من مجلَّدي أعماله الشعرية، ومع أنّ بعض قصائده تنتمي زمنياً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مطلع الألفية الجديدة، فقد وجدتُ فيه الكثير من ملامح الغد. و (بشيء من التسامح، يمكن أن يُعدَّ عز الدين المناصرة، رائداً من روّاد الحركة الشعرية الحديثة)، كما وصفه حارس الذائقة الشعرية العربية، (إحسان عباس، 1993). أو كما قال محمود شريح: (بعد نزار قباني، وأدونيس، جاء إلى بيروت، ثلاثة شعراء، كانوا يساهمون في تشكيل ملامح بيروت الشعرية في السبعينات هم: محمود درويش (العكّاوي)، وعز الدين المناصرة (الخليلي)، وسعدي يوسف (البصري)، ممّا ساهم في تحوّل جذري في خريطة الحداثة الشعريّة).
-وبشيء من التسامح، وجَّه عز الدين المناصرة إهداء ديوانه الجديد- القديم إلى (الصديق العتيق المُعتَّق)، فاتحاً أمامه، مرّةً أخرى، أبواب (سنوات النهوض)، التي كادت تكون ثورة، بشعر أقرب إلى (الحُداء)، مُتدرجاً عبر النزول المتسارع سقوطاً مع الزمن الفلسطيني إلى بكائيات، هي أقرب إلى (التحريض)، وليس الرثاء: ينهض (محمود درويش، وعز الدين المناصرة)، أمام أسوار عكّا، وجبال الخليل. فكلاهما أعطانا عبر فلسطين، ملحمة النضال العربي في هذا العصر. (والأخطر) أنّ كليهما، رسم لنا (طريق الغد)، يقول المناصرة:
(حين تكون الجُملةُ مخفيَّةْ / بدهاليز الفتنةِ، أو في قلب الريحْ/ وتكون الجملةُ ضوءاً يجهل زيتَ القنديلْ/ لا تشرحْ أسرار المنديلْ/ بل يكفي أنْ تتركَ شيئاً للقال وللقيلْ/ يكفي أنْ تترك للقارئِ، فَسْحةَ صمتٍ بيضاءْ/ من أجل التأويل). وما أكثر التأويلات، وما أحوج القارئ العربي إلى فسحة صمت بيضاء، بعدما ازدحمت فوق صدره الخيبات، التي التهمت الآمال العريضة، والتي كانت لا تلبث أن تجدد نفسها بدم الشهداء، فتزهر ربيعاً جديداً.
-(خليليٌّ حتى العظم، هو عز الدين المناصرة)، وهو لشدّة عشقه للخليل، يوزّعَها على كل شيء بفلسطين:
(مَنْ مُجيري إذا طاردوني، وكانت شعاراتُهم واحدةْ./ آخر الليل، حتماً تجيء الخليلُ إليَّ على شكل طفلٍ يُفجّرُ فيَّ شقاوته، وأنا ساهمٌ، والمقاهي هنا علَّمتني السَهَرْ./ صِحْتُ: إنَّ الخليل، رمادٌ، ترون، ولكنَّها عندما يبلغُ النهر أعلى الجبال، تكون الخليلُ رعوداً مُجلجلةً، ثمَّ برقا، تكون الخليل شَرَرْ). وفي مقطع آخر من قصيدة (القبائل): (قَدَمٌ في الريح وفي التابوت/ قَدَمٌ أخرى في بيروت/ قلبي في المنفى يا (باجسُ)، يخضرُّ قليلاً، ويموتْ).
-بيروت، بيروت، بيروت... المدينة التي توهمها (بعض الفلسطينيين) وطناً، لم تكن الوطن، قدَّمت نفسها معبراً، ولم تكن تريد، أو تهيئ نفسها لتكون (مقبرة)، لكن البريق مخادع، ووهم السلطة قاتلٌ للأوطان:
(يا هِلي، إنَّ بيروت في دمنا، إنْ سكنتُمْ بها/ قبِّلوا نحو باب الخليلْ... يا هِلي.../ شمِّلوا باتجاه بحار الجليلْ، يا هِلي، يا هِلي، يا هِلي).
-حتى (جفرا)، تستحضر بيروت، التي غدت تميمةً فلسطينية، يُعلّقها الشاعر في رقبتها، لعلّها تدرأ عنه (خطرها)، ثمَّ يقبّلها باشتهاءٍ، لأنه يتمنى أن تعود جفرا إلى وطنها، حتى لا يتخذ من بيروت، (وطناً بديلاً!!):
(منديلكِ في جيبي تذكار/ لم أرفع صاريةً إلاّ قلتُ: فِدى جفرا/ جفرا ظلَّت تبكي في الكرمل، ظلَّت تركض في بيروتْ/ وأبو الليل الأخضر من أجلِكِ يا جفرا/ يقذف من قهرٍ طلقته.. ويموتْ).
-عز الدين المناصرة، لم يكن في يوم من الأيام (شاعر سُلطة). كتب جورج ناصيف (جريدة السفير، 28/1/1981)، ما يلي: (الثورة، أملُنا... والسلطة الثورية، مأساتنا.. هذا التوقيع لعزالدين المناصرة، أستأذنه، لأضع توقيعي إلى جانب توقيعه، تماماً)، لكن قيادة الثورة الفلسطينية، لم تكن تقدر، ولم تكن تريد، ولعلّها لم تكن تستطيع أن ترفض (السلطة)، حتى لو وعت السلطة مقتلها وتابوت الأحلام:
(اذبحوا الخوف فينا، يُشرِّشُ، حتى يثور الذليلْ/ واركلوا جُثَّة الخوف في حُفرةٍ، وبلا أثرٍ، أو دليلْ/ خَرَسٌ وارفٌ كالنخيلْ/ من خليج المحيط/ من محيط الخليج/ بكاءٌ يزلزل أركانَ هذي البيوتْ/ نحاول مُلْكاً، وقد لا نموتْ/ بثوب السُموم الذي أرسلته لنا الرومْ/ خلفك رومٌ، حواليك رومٌ، وفي الماء رومْ/ وفي الشاي رومْ/ في الصحافةِ رومٌ، وفي كتب الجامعاتْ/ في أَسرَّةِ زوجاتنا والبيوتْ).
-أما حين وقعت جريمة اغتيال المبدع (ناجي العلي)، فقد تفجَّر غضب عز الدين المناصرة، واندفع يطارد (الريح السوداء)، التي قتلت فلسطين مرّة أخرى:
(رَجُلٌ من عنبٍ، قهوائيُّ السِحْنةِ، لا فرق إذا كان المطرُ الصيفيُّ، يحاصرنا بخليط الألوانْ/ رجلٌ يحمل أسئلةً، ويطوف بها فوق الأمواجْ: / خُذ سيفاً يا بوشكينْ، خُذ وتراً يا ناجي، خذ حِذْرك يا حلاّجْ./ رجلٌ من جسدٍ مهترئٍ مكسورْ، لكنْ ما طأطأ أبداً لهدير الاضواء/ أين إذنْ حنظلةُ، وكنعانْ: / الأوَّل قبرٌ في لندنَ، الأوَّل رسمٌ في صُحُفٍ، والقاتلُ أوَّلُ من يرثيه/ الثاني شعرٌ ممنوعٌ يركض في التيهْ/والثالث يشرب قهوته في البار، ويعنيهِ الأمرُ، ولا يعنيهْ./ يا كنعانيَّ الطوب الأحمر يا ناجي، وحدك عوسجةٌ ومديحْ/ يا سيف الدولة في تطوانْ/ يا شجر الدولة في وهرانْ/ مَنْ يوقف هذي الريح السوداءْ، مَنْ يشفطُ من قلبي هذا الشيحْ.).
-تتهاوى الحماسة تحت ضغوطات اجتياحات اليأس، ثمَّ لا تلبث أن تجدد نفسها بقرار واع: على الفلسطيني أن يستمر في المقاومة، وإلاّ انتهى: يقاتل العدوّ، يقاتل اليأس، يقاتل العالم، يقاتل ضدَّ نفسه أحياناً، لكنه، إن توقَّف عن القتال، خرج من فلسطين، ولم يعد:
(سنخترعُ البحرَ، ثمَّ نرشُّ البهار عليهِ، ونجلبُ من جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، مِنْ ضلوعك، بيروت، رَوْشتكِ القرمزية، نَشْوي على الفحم، فوق التلال المحيطة، قلْبكَ يا بحرُ، أحجاركَ المرمريّة، ننشرها فوق حبل النهارْ/ جهِّز جوادَكَ للرعي في مرج ذاكرة الغيم قبل المساءْ/ كعاصفةٍ من صباح كروم اليقينْ/ بطيءٌ بريدُكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصل العاشقينْ.).
-عز الدين المناصرة، شكراً أنك ما زلت حيّاً، تقول فلسطين شعراً، وتغني (الخليل، وجفرا، وكنعان، وعكا، وبيت لحم، وأريحا والناصرة، والبحر الميّت)، وتواصل (المقاومة حتى الشهادة)، ونحن مثلك، نردّد:
(ما الذي سوف أُعطي لطفلة هذا الشهيدْ: ناشفٌ غَضَبي/ جارحٌ عَتَبي/ ناحلٌ قَصَبي/ فاردٌ حُجُبي/ غامضٌ طربي/ واضحٌ عجبي/ مُسْدلٌ كُتُبي/ مُشرعٌ تعبي/ مازجٌ خَبَـبي/ فاعلنْ، فعلنْ...وفعولن سأحشرها في المحيط الذي طوَّق الدائرةْ/ القصيدةُ زعلانةٌ مثل أسوارها الناطرةْ.).
طلال سلمان
مؤسس جريدة "السفير"، بيروت
اختلفت الأزمنة علينا، فافترقنا، وتباعدت المسافات ما بيننا، وغامت الأسماء وسط افتقاد العناوين، لا سيّما بالنسبة إلى المخلوق الفلسطيني، الذي يُراد له أن يكون خارج الزمان، وخارج المكان، إلاّ إذا صارت الأرض، (دار حرب).
-عز الدين المناصرة... ما زال للاسم رنينُه، وما زالت في الذاكرة بعض الملامح، والكثير من الأبيات، والمقاطع المتحدّرة من قصائده، التي حفظت بيروت، بعضها، أو تلك التي جاءت أصداؤها من دمشق، وعمّان، والجزائر، وكلها تأتينا بفلسطين، وتأخذنا إليها.
-شعَّ الاسم (عز الدين المناصرة) على الغلاف الذي تحتلُّ صدره لوحة الصنوبر، حارس البحر للفنّان مصطفى فَرُّوخ. وأما عنوان الديوان (يتوهَّج كنعان)، فهو جديد – قديم، لأنه عبارة عن (مختارات شعرية)، من مجلَّدي أعماله الشعرية، ومع أنّ بعض قصائده تنتمي زمنياً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مطلع الألفية الجديدة، فقد وجدتُ فيه الكثير من ملامح الغد. و (بشيء من التسامح، يمكن أن يُعدَّ عز الدين المناصرة، رائداً من روّاد الحركة الشعرية الحديثة)، كما وصفه حارس الذائقة الشعرية العربية، (إحسان عباس، 1993). أو كما قال محمود شريح: (بعد نزار قباني، وأدونيس، جاء إلى بيروت، ثلاثة شعراء، كانوا يساهمون في تشكيل ملامح بيروت الشعرية في السبعينات هم: محمود درويش (العكّاوي)، وعز الدين المناصرة (الخليلي)، وسعدي يوسف (البصري)، ممّا ساهم في تحوّل جذري في خريطة الحداثة الشعريّة).
-وبشيء من التسامح، وجَّه عز الدين المناصرة إهداء ديوانه الجديد- القديم إلى (الصديق العتيق المُعتَّق)، فاتحاً أمامه، مرّةً أخرى، أبواب (سنوات النهوض)، التي كادت تكون ثورة، بشعر أقرب إلى (الحُداء)، مُتدرجاً عبر النزول المتسارع سقوطاً مع الزمن الفلسطيني إلى بكائيات، هي أقرب إلى (التحريض)، وليس الرثاء: ينهض (محمود درويش، وعز الدين المناصرة)، أمام أسوار عكّا، وجبال الخليل. فكلاهما أعطانا عبر فلسطين، ملحمة النضال العربي في هذا العصر. (والأخطر) أنّ كليهما، رسم لنا (طريق الغد)، يقول المناصرة:
(حين تكون الجُملةُ مخفيَّةْ / بدهاليز الفتنةِ، أو في قلب الريحْ/ وتكون الجملةُ ضوءاً يجهل زيتَ القنديلْ/ لا تشرحْ أسرار المنديلْ/ بل يكفي أنْ تتركَ شيئاً للقال وللقيلْ/ يكفي أنْ تترك للقارئِ، فَسْحةَ صمتٍ بيضاءْ/ من أجل التأويل). وما أكثر التأويلات، وما أحوج القارئ العربي إلى فسحة صمت بيضاء، بعدما ازدحمت فوق صدره الخيبات، التي التهمت الآمال العريضة، والتي كانت لا تلبث أن تجدد نفسها بدم الشهداء، فتزهر ربيعاً جديداً.
-(خليليٌّ حتى العظم، هو عز الدين المناصرة)، وهو لشدّة عشقه للخليل، يوزّعَها على كل شيء بفلسطين:
(مَنْ مُجيري إذا طاردوني، وكانت شعاراتُهم واحدةْ./ آخر الليل، حتماً تجيء الخليلُ إليَّ على شكل طفلٍ يُفجّرُ فيَّ شقاوته، وأنا ساهمٌ، والمقاهي هنا علَّمتني السَهَرْ./ صِحْتُ: إنَّ الخليل، رمادٌ، ترون، ولكنَّها عندما يبلغُ النهر أعلى الجبال، تكون الخليلُ رعوداً مُجلجلةً، ثمَّ برقا، تكون الخليل شَرَرْ). وفي مقطع آخر من قصيدة (القبائل): (قَدَمٌ في الريح وفي التابوت/ قَدَمٌ أخرى في بيروت/ قلبي في المنفى يا (باجسُ)، يخضرُّ قليلاً، ويموتْ).
-بيروت، بيروت، بيروت... المدينة التي توهمها (بعض الفلسطينيين) وطناً، لم تكن الوطن، قدَّمت نفسها معبراً، ولم تكن تريد، أو تهيئ نفسها لتكون (مقبرة)، لكن البريق مخادع، ووهم السلطة قاتلٌ للأوطان:
(يا هِلي، إنَّ بيروت في دمنا، إنْ سكنتُمْ بها/ قبِّلوا نحو باب الخليلْ... يا هِلي.../ شمِّلوا باتجاه بحار الجليلْ، يا هِلي، يا هِلي، يا هِلي).
-حتى (جفرا)، تستحضر بيروت، التي غدت تميمةً فلسطينية، يُعلّقها الشاعر في رقبتها، لعلّها تدرأ عنه (خطرها)، ثمَّ يقبّلها باشتهاءٍ، لأنه يتمنى أن تعود جفرا إلى وطنها، حتى لا يتخذ من بيروت، (وطناً بديلاً!!):
(منديلكِ في جيبي تذكار/ لم أرفع صاريةً إلاّ قلتُ: فِدى جفرا/ جفرا ظلَّت تبكي في الكرمل، ظلَّت تركض في بيروتْ/ وأبو الليل الأخضر من أجلِكِ يا جفرا/ يقذف من قهرٍ طلقته.. ويموتْ).
-عز الدين المناصرة، لم يكن في يوم من الأيام (شاعر سُلطة). كتب جورج ناصيف (جريدة السفير، 28/1/1981)، ما يلي: (الثورة، أملُنا... والسلطة الثورية، مأساتنا.. هذا التوقيع لعزالدين المناصرة، أستأذنه، لأضع توقيعي إلى جانب توقيعه، تماماً)، لكن قيادة الثورة الفلسطينية، لم تكن تقدر، ولم تكن تريد، ولعلّها لم تكن تستطيع أن ترفض (السلطة)، حتى لو وعت السلطة مقتلها وتابوت الأحلام:
(اذبحوا الخوف فينا، يُشرِّشُ، حتى يثور الذليلْ/ واركلوا جُثَّة الخوف في حُفرةٍ، وبلا أثرٍ، أو دليلْ/ خَرَسٌ وارفٌ كالنخيلْ/ من خليج المحيط/ من محيط الخليج/ بكاءٌ يزلزل أركانَ هذي البيوتْ/ نحاول مُلْكاً، وقد لا نموتْ/ بثوب السُموم الذي أرسلته لنا الرومْ/ خلفك رومٌ، حواليك رومٌ، وفي الماء رومْ/ وفي الشاي رومْ/ في الصحافةِ رومٌ، وفي كتب الجامعاتْ/ في أَسرَّةِ زوجاتنا والبيوتْ).
-أما حين وقعت جريمة اغتيال المبدع (ناجي العلي)، فقد تفجَّر غضب عز الدين المناصرة، واندفع يطارد (الريح السوداء)، التي قتلت فلسطين مرّة أخرى:
(رَجُلٌ من عنبٍ، قهوائيُّ السِحْنةِ، لا فرق إذا كان المطرُ الصيفيُّ، يحاصرنا بخليط الألوانْ/ رجلٌ يحمل أسئلةً، ويطوف بها فوق الأمواجْ: / خُذ سيفاً يا بوشكينْ، خُذ وتراً يا ناجي، خذ حِذْرك يا حلاّجْ./ رجلٌ من جسدٍ مهترئٍ مكسورْ، لكنْ ما طأطأ أبداً لهدير الاضواء/ أين إذنْ حنظلةُ، وكنعانْ: / الأوَّل قبرٌ في لندنَ، الأوَّل رسمٌ في صُحُفٍ، والقاتلُ أوَّلُ من يرثيه/ الثاني شعرٌ ممنوعٌ يركض في التيهْ/والثالث يشرب قهوته في البار، ويعنيهِ الأمرُ، ولا يعنيهْ./ يا كنعانيَّ الطوب الأحمر يا ناجي، وحدك عوسجةٌ ومديحْ/ يا سيف الدولة في تطوانْ/ يا شجر الدولة في وهرانْ/ مَنْ يوقف هذي الريح السوداءْ، مَنْ يشفطُ من قلبي هذا الشيحْ.).
-تتهاوى الحماسة تحت ضغوطات اجتياحات اليأس، ثمَّ لا تلبث أن تجدد نفسها بقرار واع: على الفلسطيني أن يستمر في المقاومة، وإلاّ انتهى: يقاتل العدوّ، يقاتل اليأس، يقاتل العالم، يقاتل ضدَّ نفسه أحياناً، لكنه، إن توقَّف عن القتال، خرج من فلسطين، ولم يعد:
(سنخترعُ البحرَ، ثمَّ نرشُّ البهار عليهِ، ونجلبُ من جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، مِنْ ضلوعك، بيروت، رَوْشتكِ القرمزية، نَشْوي على الفحم، فوق التلال المحيطة، قلْبكَ يا بحرُ، أحجاركَ المرمريّة، ننشرها فوق حبل النهارْ/ جهِّز جوادَكَ للرعي في مرج ذاكرة الغيم قبل المساءْ/ كعاصفةٍ من صباح كروم اليقينْ/ بطيءٌ بريدُكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصل العاشقينْ.).
-عز الدين المناصرة، شكراً أنك ما زلت حيّاً، تقول فلسطين شعراً، وتغني (الخليل، وجفرا، وكنعان، وعكا، وبيت لحم، وأريحا والناصرة، والبحر الميّت)، وتواصل (المقاومة حتى الشهادة)، ونحن مثلك، نردّد:
(ما الذي سوف أُعطي لطفلة هذا الشهيدْ: ناشفٌ غَضَبي/ جارحٌ عَتَبي/ ناحلٌ قَصَبي/ فاردٌ حُجُبي/ غامضٌ طربي/ واضحٌ عجبي/ مُسْدلٌ كُتُبي/ مُشرعٌ تعبي/ مازجٌ خَبَـبي/ فاعلنْ، فعلنْ...وفعولن سأحشرها في المحيط الذي طوَّق الدائرةْ/ القصيدةُ زعلانةٌ مثل أسوارها الناطرةْ.).