(5) – حين تبحث الضحية عن حلول لمأزق الجلاَّد:
(الحلُّ العادل) كما هو معروف، أن تفكك دولة الاحتلال نفسها حتى تستطيع حماية البشر الذين ينتمون لها، أو يقوم أصحاب الأرض الأصليين بتفكيكها، بعيداً عن مفهوم الاستطاعة من عدمها. وفي حالة العجز، يستطيع (الأصلي)، نبذ ومقاطعة وعزل دولة الاحتلال، بكل أشكال المقاومة حتى يرجح ميزان القوى لصالحه في لحظة زمنية تاريخية قد تأتي في المدى المنظور أو المدى البعيد. عدم الاعتراف بشرعية دولة الاحتلال، هو ورقة المقاومة الممكنة في كل زمان، حتى في زمن الضعف، لأنَّ النقطة المركزية في ضعف دولة الاحتلال، هي في عدم حصولها على الشرعية من أبناء الأرض الأصليين. لكن شريحة فلسطينية من المثقفين السياسيين، لم تشارك في الثورة الفلسطينية المعاصرة، (1964–1994)، أو كانت على هامشها تأثرت بالأفكار المتأسرلة والمتأمركة، أصبحت تؤمن أنَّ إسرائيل، حقيقة واقعية على الأرض، ولا بد من الاعتراف بها، والتحاور معها للوصول إلى ما يسمى (الحل الوسط)، بعيداً عن فكرة العدالة، والحل العادل. فبدأت هذه الشريحة المثقفة التي لا تمتلك رصيداً شعبياً، تبحث عن حلول لمأزق الجلاَّد، مدعية أنَّ هذه الحلول، ستكون لمصلحة الأصلي أيضاً. كما أن هناك شريحة متأسرلة في (فلسطين – 48)، ترى قوة إسرائيل الفعلية كل يوم على أنها حقيقة أبدية، وبالتالي طرحت ضرورة التكيف التدريجي معها، انطلاقاً من حالة التحول من مرحلة كره الجلاَّد إلى حالة عشق الجلاَّد والإعجاب بقوته. لكن الجلاَّد يعترف في أعماق نفسه أن (الأصلي) يمتلك ورقة قوية هي عدم الاعتراف بشرعية الجلاَّد، لا في (دولتين)، ولا في التشارك معه في (دولة واحدة). هناك منهجية، مارستها الحركة الوطنية الفلسطينية، أسميها: (منهجية التنازل التدريجي)، منذ عام 1974 في (برنامج النقاط، العشر)، ورغم أنَّ هذا البرنامج لم يعترف بشرعية دولة إسرائيل، ولم يعترف بالقرار 242، ولم يلغ ممارسة الكفاح المسلح، إلاَّ أنه أقر بفكرة (المرحلية)، التي كانت تعني (تحرير أي جزء من أرض فلسطين، وإقامة سلطة وطنية فلسطينية مقاتلة مسلحة على هذا الجزء)، ومعنى ذلك أنَّ تحرير الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية، هو مرحلة من مراحل تحرير فلسطين التاريخية، بل لم يحدد برنامج النقاط العشر جغرافياً هذه السلطة ولو نظرياً، لكن ما وراء النص أو (المسكوت عنه) في النص كان واضحاً. ورغم ضجيج (جبهة الرفض)، آنذاك، إلاّ أنها وافقت عليه عام 1977 .لكن الأمر ظلَّ موضوعاً نظرياً لصراع النصوص الفلسطينية، حتى جاء عام 1988 حين أقرالمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، الاعتراف بالقرار (181): قرار التقسيم، والقرار (242): إزالة آثار عدوان 1967. وكانت هذه هي الخطوة الأولى العملية، التي ساهمت في دخول منظمة التحرير في (مؤتمر مدريد، 1991)، المشكلة هي الاعتراف بالقرار (242) دون مقابل. هذا الاستعجال غير المدروس، كان ثمنه رفع صفة الإرهاب عن المنظمة من قبل الولايات المتحدة، وهو ثمن بخس. فالقادة الإسرائيليون الذين فاوضوا في مؤتمر مدريد، هم قادة موصومون عالمياً بالإرهاب تاريخياً، بل كانت وما تزال دولة إسرائيل، هي منبع ونموذج للإرهاب. ثمَّ جاءت بعد (الجزائر، مدريد)، خطوة (التنازل الاستراتيجي) في (اتفاق أوسلو)، التي كان ثمنها تأسيس (سلطة تحت الاحتلال) في الضفة وغزة. أدى (اتفاق أوسلو) إلى تجاهل (فلسطين – 48)، بل تجاهل الشعب الفلسطيني، الذي يعيش في مخيمات الشتات. وهكذا استغلت شريحة (التأسرل) الثقافية الفلسطينية في (فلسطين 48، وفي الشتات)، التي تلاقت مع أفكار أوسلو باعتباره حلاً مرحلياً، لتعمم فكرة التأسرل على فلسطين التاريخية. ويجب أن نتذكر أنَّ (تيار التأسرل الفلسطيني)، هو نفسه الذي شجع منظمة التحرير الفلسطينية على الدخول في مفاوضات مدريد، وهو نفسه الذي شارك في مفاوضات مدريد وأوسلو واتفاقاتها قبل إعلان المبادئ، وبعد الإعلان، وشاركوا (عرفات) في اقتسام الكعكة المسمومة (السلطة) في الضفة والقطاع. ولكن عندما أدرك هذا (التيار الانتهازي)، أن فشل مفاوضات كامب ديفيد، واندلاع الانتفاضة الثانية المسلحة، (2000)، سيؤدي حتماً إلى نهاية أوسلو العملية، وليست القانونية، بدأوا بالتفتيش عن لعبة سحرية استخرجوها من جراب الحاوي، وهي لعبة يهودية صهيونية قديمة (1952) تدعى: (الدولة الإسرائيلية الفلسطينية الواحدة)، وقالوا بأن (أوسلو) هو الخطوة الأولى فيها، تقوم فكرتها الأساسية على (الحل الديموغرافي)، فهي فكرة (سماوية!!) ميتافيزيقية، تعتمد على ما أسميه: (التلقائية الديموغرافية): حسب هؤلاء: لا داعي لمقاومة الاحتلال، لأنه أمر واقع لا مفر منه، والمطلوب هو التكيف مع الاحتلال تدريجياً، والاندماج التدريجي في (التأسرل)، وذلك بالاعتراف الواقعي بشرعية وطبيعية دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين التاريخية، عندئذ، ستجدون أنّ عدد السكان المتكافئ يميل لصالح الفلسطينيين، وفجأة ستجدون أن إسرائيل شريك طبيعي في دولة واحدة ثنائية القومية، أو (ثلاثية الدين). هذا الحل السماوي الميتافيزيقي الطوباوي لا يحتاج إلى مقاومة ولا إلى حروب، حسب أنصاره ومروجيه، وما علينا سوى مزيد من (الخطوات التطبيعية والتعايش) حسب إدوار سعيد، و(الابتعاد عن العروبة وأفكار الوحدة العربية)، حسب أسعد غانم، و(الاعتراف بأن نصف الأرض للإسرائيليين، ونصفها الآخر للفلسطينيين)، حسب محمود درويش. هكذا نعيش معاً عرباً ويهوداً على أرض فلسطين )في تبات ونبات، ونخلّف صبياناً وبنات!!)