د. ناصر الزيادات
أكاديمي
568
نظرة في معالم الاقتصاد السياسي الأميركي
7/2/2017
ليست هذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها رئيس أمريكي مثير للجدل من خلال وعوده الانتخابية وأوامره التنفيذية. فالتاريخ الأمريكي حافل بتجارب مماثلة كانت تتطلبها المعطيات السياسية والاقتصادية في حقب معينة. فبعد الحرب العالمية الأولى والكساد العظيم الذي مر به الاقتصاد الأمريكي قام روزفيلت بطرح ما يعرف بمشروع "الصفقة الجديدة" (The New Deal) كبرنامج لفترة حكمه التي امتدت منذ عام ١٩٣٣ وحتى وفاته عام ١٩٤٥. وقد امتازت حقبة الصفقة الجديدة بتدخل الحكومة الفيدرالية في الكثير من المعطيات الاقتصادية ما أدى إلى وصف العقيدة السياسية التي حكمت الاقتصاد الأمريكي خلال تلك الفترة بـ"الليبرالية المتضمنة"، وكان ذلك متزامناً مع تبني معطيات الاقتصاد الكينزي.
يقول العالمان الفرنسيان "بولتانسكي وشيابيلو" أن الرأسمالية قادرة على تحقيق الاستدامة لنفسها في ظل البيئة الديموقراطية من خلال توأمة متتالية من النقد والتغيير في المعايير الأخلاقية التي تحكم الرأسمالية.
وقد استمرت تلك العقيدة السياسية في حكم الاقتصاد الأمريكي حتى بدايات الثمانينيات حين بدأت حقبة جديدة من الاقتصاد النيوكلاسيكي التي لا تزال تحكم معظم معالم الاقتصاد العالمي حتى يومنا هذا وفق عقيدة في الاقتصاد السياسي تسمى (Neoliberalism) "الليبرالية الجديدة". أما فيما يسبق حقبة "الصفقة الجديدة" أو "الليبرالية المتضمنة" فقد كانت حقبة وسمت بـ"التقدمية" وقد استمرت في حكم أمريكا منذ منتصف السنوات العشر الأولى من القرن المنصرم وحتى بداية حقبة "الصفقة الجديدة". فيما هي الأسرار الكامنة وراء تغير العقيدة الأمريكية في الاقتصاد السياسي؟
يقول العالمان الفرنسيان "بولتانسكي وشيابيلو" في دراستيهما الصادرة عام ١٩٩٥ أن الرأسمالية قادرة على تحقيق الاستدامة لنفسها في ظل البيئة الديموقراطية من خلال توأمة متتالية من النقد والتغيير في المعايير الأخلاقية التي تحكم الرأسمالية. وقد أطلق العالمان على تلك المعايير الأخلاقية مصطلح "روح الرأسمالية". ويرى العالمان أن سبب ديمومة الدورات بين النقد والتغيير هو عدم التوازن بين متطلبات أصحاب رؤوس الأموال ومصالحهم وبين مصالح ومتطلبات العاملين لديهم والذين يشكلون الغالبية العظمى من المجتمع.
وفي ضوء ذلك يمكن تفسير تعاقب العقائد السياسية التي تدير الاقتصاد الأمريكي على أنها نتاج لنقد متراكم يفرز عقيدة جديدة لإدارة الاقتصاد. فهل نحن على أبواب تغيير جديد في العقيدة التي تدير الاقتصاد الأمريكي؟
بدأ العمل على الآيديولوجية النيوليبرالية من قبل البروفيسور هايك وتلميذه فريدمان في جامعة شيكاغوفي سبعينيات القرن المنصرم. وبدعم مالي من عدة جهات رأسمالية تهمها ما ستنتجه الأيديلوجية الجديدة تم إنشاء الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث التي روجت للفكرة واظهرتها بشكل جميل لكافة الأطرف ذات العلاقة. وقد نجح مروجو النيوليبرالية آنذاك في إقحامها في أجندة حزب المحافظين في أمريكا في عهد رونالد ريغان في بدايات الثمانينيات وذلك من خلال تبنيها من قبل مركز "هيريتيج فاونداشين" الذي يصنع سياسات حزب الجمهوريين.
وبالفعل تبنى ريغان هذه الأيديولوجية التي تقضي بمنح الحرية المطلقة للسوق في تنظيم أعماله من خلال نقل المخاطر عن كاهل الحكومة إلى كاهل المستهلك الذي بوعيه سيحدد الخبيث من الطيب في السوق. كما تقضي الأيديولوجية الجديدة بأن يكون نظام الرفاه الاجتماعي في الدولة مسؤولية جماعية وليست مسؤولية الحكومة بشكل خاص، هذا بالإضافة إلى خصخصة كافة القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص.
اعلان
وعلى الفور تبنت المرأة الحديدية المحافظة ماغريت تاتشر الليبرالية الجديدة وبدت عمليات خصخصة واسعة النطاق في المملكة المتحدة ومن ثم تبعها الكثير من دول العالم. فما الذي أنتجته عمليات الخصخصة وتولي القطاع الخاص مقدرات الشعوب خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمن؟
بعد قرابة 10 سنوات من الخصخصة والليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية ارتفع دخل الـ 10في المائة من الأمريكيين الأكثر غنى بحوالي 16في المائة أما دخل الـ 5في المائة الأكثر غنى في أمريكا فارتفع بحوالي 23في المائة في حين أن دخل الـ 1في المائة الأكثر غنى في أمريكا ارتفع بحوالي 50في المائة.
سعى الشعب الأمريكي لإحداث التغيير المنشود من خلال انتخابه لباراك أوباما الذي، بلا شك، حسن من أوضاع الاقتصاد الأمريكي لكن دون إحداث تغييرات جذرية يطمح لها الناس.
وكلما ارتفعنا بفئة النسبة المئوية من السكان كلما قل الدخل وذلك استنادا لنظرية باريتو التي تقول أن 20في المائة من الناس يملكون دخل أو ثروات أجمالية تصل إلى 80في المائة مما يملكه الجميع في حين أن 80في المائة من الناس يملكون ثروات أو دخل يساوي 20في المائة من إجمالي ما يملكه الناس. أما بالنسبة للـ 80في المائة من الأمريكيين فقد انخفض دخلهم السنوي نزولاً كلما انحدرت النسبة المئوية. وكان الـ 10في المائة الأقل فقراً في أمريكا قد انخفض دخلهم قرابة 15في المائة. وفي عام 1997 اتسعت الفجوة بين الـ 1في المائة الأكثر غنى وبين الـ 10في المائة الأكثر فقراً ليحقق الغني 115 مرة زيادة عما يحققه الفقير.
وفي عام 1997 نشرت الأونتكاد تقريراً رصدت فيه اتساع الهوة بين الفقر والغنى في العديد من المجتمعات كنتيجة حتمية للعولمة التي نشرت الليبرالية الجديدة إلى العالم وروجت لها من خلال حرية التجارة وتدفق رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي. وكانت الأزمة المالية العالمية من ضمن ما زاد من حدة النقد للأوضاع الاقتصادية السائدة متمثلة في العقيدة النيوليبرالية.
وقد سعى الشعب الأمريكي لإحداث التغيير المنشود من خلال انتخابه لباراك أوباما الذي، بلا شك، حسن من أوضاع الاقتصاد الأمريكي لكن دون إحداث تغييرات جذرية يطمح لها الناس. فهل هذا يعني أن الذين صوتوا لترمب رأوا فيه الحل للمشاكل الاقتصادية؟
تشير الإحصائيات الديموغرافية للناخبين الأمريكيين الذي مارسوا حقهم في التصويت في الانتخابات الأخيرة أن ترمب فاز بالانتخابات ليس لأنه خصم جمهوري للمرشحة الديموقراطية كلينتون، بل لثلاثة أسباب رئيسة متسلسلة. أولها أن غالبية الناخبين أرادوا تغييراً يأتي من خارج الأطر المعتادة للحزبين الجمهوري والديموقراطي. وثانيهما أن حملة ترمب نجحت في تقديمه على أنه مرشح مختلف عن الحزب الجمهوري وعن الحزب الديموقراطي على الرغم من أنه جمهوري.
اعلان
وقد قامت حملته بصياغة وعود انتخابية مثيرة للجدل، لكنها تمثل اختلافاً عن ربما يكون جوهرياً عما يطرحه الحزبين. وثالثها أن حملة كلينتون أخطأت في تقديمها على أنها مرشحة ديموقراطية مثل أي مرشح ديموقراطي منافس للحزب الجمهوري، ما أدى بها إلى فقدان أجزاء لا يستهان بها من الشرائح الانتخابية التي كسبها باراك أوباما إما لصالح ترمب أو لصالح المرشحين الآخرين.
لقد محورت حملة ترمب وعوده الانتخابية حول فكرتين أساسيتين: الوطنية والحمائية للعودة بأمريكا "عظيمة كما كانت من قبل". وهاتان الفكرتان تمثلان تغيراً جذرياً قد يطرأ على العقيدة النيوليبرالية التي تؤمن بانفتاح الأسواق العالمية وتذليل الحدود وتسهيل التبادل التجاري. لذلك واجه ترمب معارضة من قبل الأثرياء الأمريكان سواء أكانوا جمهوريين أو ديموقراطيين.
وتشير الإحصائيات الديموغرافية أنه كلما ارتفع الدخل للشريحة الانتخابية قل معدل التصويت لترمب لكنه ازداد للمشرحين الآخرين وليس لكلينتون. كما تشير الإحصائيات أن ترمب حصل على الأغلبية من أصوات الطبقات الفقيرة التي يقل مستوى دخلها السنوي عن ٣٠ ألف دولار سنوي في حين كانت تلك الشريحة من قاعدة الناخبين لباراك أوباما. وهناك معلومة جديرة بالأخذ بعين الاعتبار تفيد بأن أكثر من ٧٠ في المائة من يهود أمريكا لم يصوتوا لترمب، فكيف يمكن أن نقرأ مثل تلك الإحصائيات؟ هذا ما سيتم تناوله في الجزء الثاني من هذه المقالة.