الإمام الشافعي وعرقلة القراءة الحداثية للنص الشرعي
لـ عبد الله الشتوي
27/02/2019 | 4٬125 مشاهدة
من مسالك التيارات الحداثية التي توظفها لخدمة الفكر الغربي المستورد: العمل من داخل المنظومة الفقهية للوصول إلى نتائج محدَّدة سلفا، وهي طريقة التفافية لإبعاد الشريعة عن الحياة العامة، ليقتصر دورها على إسباغ مسحة شرعية على أهواء الناس درءا للحرج الذي يسببه لهم الوعي الإسلامي العام.
يقول علي حرب: (فنحن نجد أن حسن حنفي الفيلسوف الناقد الهادم بعقله لكل شيء والساعي في الوقت نفسه إلى إعادة بنائه وتأسيسه يقدم نفسه بوصفه فقيها من فقهاء المسلمين يجدد لهم دينهم) [1].
وهكذا فإن الانخراط في سلك الفقهاء بلمسة عصرانية هي أولى خطوات التنوير لتفجير الإسلام وتلغيمه من الداخل حسب تعبير علي حرب نفسه.
فإذا كانت الشريعة قد جاءت مثلا بتحريم الخمر في مقابل تيار علماني يعتبرها جزء من ثقافة الحداثة، فإن التحايل على إباحتها شرعا أمر حاوله كثيرون فجاءوا باجتهادات وتكلفات مضحكة.
نجد هذا التصور الفاسد مثلا عند التونسي محمد الطالبي [2] الذي يدافع عن حِلّيّة الخمر ويجادل عنها، ولكي نختصر الوقت بدلا من تتبع كل الكلام الفارغ الذي سرده في الدفاع عن موقفه، أقدم مثالا واحدا عن تهافت استدلالاته: يسرد الطالبي في معرض دفاعه عن حِلِّية الخمر حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخُمرة من المسجد، قلت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك [3].
يعمد الطالبي إلى الحديث فيفهم ”الخُمرة” بضم الخاء وهي الثوب أو سجادة الصلاة، على أنها الخَمرة بفتح الخاء!
وهذا فهم عجيب غريب ينِم عن ضحالة في الثقافة الشرعية وفقر فظيع في اللغة العربية، بل كان يكفي أن يطالع أيسر شرح للحديث، أو يتأمل بعض ألفاظ الحديث التي فسرت الخُمرة بالثوب، بل كان يكفي أي شخص عاقل أن يتأمل سياق الحديث، ليدرك أن لا علاقة للخمر بالمسجد أو بالحيض!
فلا غرابة إذن أن يتسلَّح هؤلاء بتوظيف مصطلحات من داخل التراث الإسلامي، فيما يشبه التنازع مع الفقهاء التقليديين على مراكز النفوذ والسلطة ومحاولة لسحب بساط الشرعية من تحت أرجلهم.
وفي هذا الباب أيضا نجد تضخما كبيرا لفقه المقاصد والمصالح فلا تسمع من القوم إلا ”حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”، دون انضباط أو تحديد للمرجعية التي تحدد لنا هذا المصلحة.
فإذا كان فقه المقاصد تتويجا لقرون من التأليف والتقعيد الأصولي عند المسلمين، فإنه صار اليوم آلية اقتلعت من جذورها لتستعمل في صباغة واجهة العلمانية بصبغة شرعية.
فلا غرابة إذن أن نجد مؤلفات تحمل عناوين تحاول تأسيس شكل جديد من أصول الفقه والاستدلال، منها: (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي لمحمد شحرور) و (موافقات في قراءة النص الديني لعبدالمجيد الشرفي) و (من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه لحسن حنفي) وغيرها من الكتب…
هنا يظهر الإمام الشافعي عقبة أمام القفز على أصول الفقه باعتباره أول من دوّن في أصول الفقه وصاحب منهجية أصولية صارمة تقيّد القراءات المتفلتة للنص الشرعي، وتمنع التلاعب بدلالات الخطاب الشرعي ومقاصده، فكان لا بد أن يهاجَم الشافعي ويُرمى بالعظائم، ويتهم في دينه وأمانته، ويتداعى لذلك محمد أركون وأدونيس ومحمد شحرور وجورج طرابيشي [4] وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وعلي مبروك وغيرهم …
فهذا محمد أركون يتهم الشافعي بالتسبب في جمود العقل الإسلامي وسجنه تحت سلطة النص [5]، وهذه تهمة باطلة يعلمها كل من تتبع عمل الشافعي فهو لم يزد عن تقعيد العمل الأصولي وفق نفس المنهج الذي كان قبله ولم يوجد في رسالته أصل من الأصول إلا ويرجع إلى الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة…
أما أدونيس في كتابه ”الثابت والمتحول” فينسب الشافعي إلى الجمود والعجز عن تأسيس معرفة جديدة والاكتفاء بإعادة إنتاج المعارف السابقة.
أما جورج طرابيشي فقد اتكأ على خلفيته النصرانية وغالى في التهجم على الشافعي إلى درجة تشبيه عمله الأصولي بما فعله بولس الرسول في الديانة المسيحية [6]! وهذه فرية ساقطة لم يستطع طرابيشي أن يأتي عليها بدليل واحد، بل قصارى ما حاوله أن ينقل نقائص ديانته النصرانية ليسقطها على الإسلام.
وهذا حسن حنفي وتلميذه نصر حامد أبو زيد يتهمان الشافعي بالانحياز الإيديولوجي للعروبة ويختلقان فكرة تأثير الصراع الشعوبي على رسالة الشافعي [7]، ويقدم حنفي صورة الشافعي عند تلميذه أبوزيد بهذه الصورة التي تجمع أخطاء غريبة، فالشافعي عنده: (أموي، سلطوي، قرشي، عروبي، مناهض للعقل والاجتهاد، باحث عن عمل، وربما مرتزق يريد أن يقبض ثمن تأييده للأمويين) [8].
وهذه والله فرية مضحكة، فما علاقة الشافعي بالأمويين! ولد الشافعي سنة 150 هـ، أي بعد 18 سنة من سقوط حكم الأمويين! فأي علاقة تجمع بين الشافعي وبني أمية أم هو مجرد التعلق بفكرة العروبة التي اختلقها وتخرصات لا علاقة لها بالبحث العلمي الجاد؟!
ليس الأمر غريبا عندما تقرأ لأستاذه حسن حنفي أن الشافعي تلميذ لأبي حنيفة [9]! مع أن الشافعي ولد في السنة التي توفي فيها أبو حنيفة رحمهم الله جميعا!
حاول أبوزيد ترقيع هذه الفرية وادعى أنه لم يكن يقصد الأمويين بل العلويين وأن الأمر مجرد خطإ مطبعي!
لكنه تناسى أن خطأه كان مزدوجا حين اتهم الشافعي بأنه: (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس الذي كان له مع الأمويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطلاقه) [10]، فإن فتوى الإمام مالك وما تبعها إنما كان في خلافة أبي جعفر المنصور!
أما محمد شحرور فيتهم الشافعي بزرع بذور التحريم في العقل العربي الإسلامي [11]، ويزعم علي مبروك أن الشافعي لم يطلب العلم ولا درس الفقه إلا من أجل الدنيا وتكسّب المال [12]!
ولم يكن هؤلاء بدعا في هذا القدح المغرض في الشافعي، وهم في كل هذا تبع لأساتذتهم المستشرقين مثل جوزيف شاخت [13] الذي شن هجوما باطلا على الشافعي في كتابه (بداية الفقه المحمدي).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : نقد النص، علي حرب ص: 30.
[2] : محمد الطالبي: (1921-2017) مفكر تونسي حصل على شهادة الدكتوراه من السوربون، وكان أول عميد لكلية الآداب في جامعة تونس ثم رئيسا لجامعتها، ودرس في عدد من الجامعات العربية والأوروبية.
[3] : صحيح مسلم والسنن الأربعة ومسند أحمد.
[4] : جورج طرابيشي : (1939-2016) مفكر ومترجم عربي سوري، عمل مديراً لإذاعة دمشق ورئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية ومحرراً رئيسياً لمجلة الوحدة، أقام فترة في لبنان، ولكنه غادر بعد الحرب الأهلية إلى فرنسا التي بقي فيها حتى وفاته متفرغاً للكتابة والتأليف، من مؤلفاته: معجم الفلاسفة، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.
[5] : انظر كتاب: تاريخية الفكر العربي، محمد أركون ص: 74.
[6] : جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ص: 219.
[7] : كتاب نصر حامد أبوزيد : الامام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية.
[8] : حوار الأجيال، حسن حنفي ص: 466.
[9] : حسن حنفي، من النص إلى الواقع ص: 56، والغريب أنه جعل أبا حنيفة تلميذا لمالك!
[10] : الإمام الشافعي، نصر حامد أبوزيد ص: 16.
[11] : نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، محمد شحرور ص: 171.
[12] : ما وراء تأسيس الأصول، علي مبروك ص: 110.
[13] : جوزيف شاخت: (1902-1969) مستشرق ألماني وباحث في الدراسات العربية والإسلامية ومتخصص في الفقه الإسلامي، حصل على الدكتوراه في ألمانيا ودرّس فيها، وعمل أستاذا زائرا في جامعة القاهرة وخالطه فيها عدد من المفكرين العرب، كما زار المغرب والجزائر وتونس وتركيا.