بسم الله الرحمن الرحيم
من خلاصة ما تقدم في الحلقات السابقة نصل الى هذه الفوائد الجليلة في علم التوحيد و العقيدة، في ضوء فهمنا واستحضارنا للاحدية ، والتي تعني التفرد في الوجود الواجب لله تعالى:
لاقياس الا بين متماثلين او متشابهين او متحدين في الجنس و النوع ، و ليبطل الله تعالى القياس في حقه سبحانه و تعالى بمخلوقاته ويمنعه ، و الذي تبنته فلسفة الاغريق ومن نحى نحوهم ، وذلك بقياسهم الغائب على الحاضر، في مباحثهم الميتافيزيقية ، فقال سبحانه :- ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فنفى الشبيه ومنعه، وانتفى عنه التشبيه وبطل، ولينفي المثيل قال:- (ولم يكن له كفوا احد) فنفي الكفؤ نفي للمثل، و لينفي الجنس والنوع او السلالة قال:- (قل هو الله احد) و الاحد هو المتفرد في وجوده بلا نوع ولا جنس، فهو الذي لا نوع له ولا جنس ، فاكد لنا انه لم يلد فلا جنس له ولا سلالة، ولم يولد لانه لا نوع له لينحدر و ينسل منه ، وبذلك بطل التشبيه والتمثيل، ثم قال :- (الله الصمد) اي الذي لا يعتريه التغيير ولا التبديل، لان ذلك يقع لمن يخضع لتاثيرات قوانين الزمان والمكان، وهو تعالى فوق ذلك، والزمان والمكان من محدثاته، فهو المتصرف بها والمؤثر فيها بارادته وقدرته تعالى، فلا تؤثر فيه او عليه سبحانه، ولما كان المكان هو الوجود المادي والزمان هو حركة المادة، والخالق جل وعلا فوق المادة وفوق مقياس حركتها الذي هو الزمن، فهو تعالى بذاته العلية فوق مدارك الاحساس، وبالتالي فوق مدارك العقل، فلا يستطيع العقل تصور ذاته او استيعاب تلك الذات العلية والاحاطة بها، كونها فوق قدرات الانسان الادراكية . فلذلك قال سبحانه مقررا هذه الحقيقة:-(لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)الانعام) .علما بان العقل يدرك وجوب وجوده ويجزم به ، من خلال ادراك اثره وصنعته وعنايته ورعايته التي يشهد بها الحي وسنن حياته، والجماد وقوانين وجوده، فيستند الوجود الى وجوده، ولا يستند هو في وجوده الى وجود. فهو الغني في وجوده عن الوجود والموجود والوجود مفتقر اليه .
واخبرنا سبحانه ان من اسماءه تعالى الحسنى: الظاهر والباطن، فهو الظاهر باثاره ودلائل وجوده وبراهينه و اياته ، والباطن المستتر عن الالباب بذاته. ومن معاني الصمد الذي لا جوف له، فليس بحاجة بالتالي الى طعام او شراب او هواء، ومن ثم اخراج . لان ذلك من صفات النقص المنزه عنها سبحانه، فقد قال في معرض دحضه سبحانه لدعوى تاليه المسيح عليه السلام :- (مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (75 المائدة)، قال الزمخشري رحمه الله فيها(({ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام)).
و قال ابن الجوزي -رحمه الله-في ((زاد المسير)): ((وفي قوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } قولان : أحدهما : أنه بيّن أنهما يعيشان بالغذاء ، ومن لا يُقيمه إِلا أكل الطعام فليس بإلـه ، قاله الزجاج . والثاني : أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته ، وهو الحدث ، إِذ لا بد لآكل الطعام من الحدث ، قاله ابن قتيبة . قال : وقوله : { انظر كيف نبيِّن لهم الآيات } من ألطف ما يكون من الكناية )) اهـ. .
وجاء في الكامل في اللغة والادب للمبرد :
ويكن من الكناية - وذاك أحسنها - الرغبةُ عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره ، قال الله - وله المثل الأعلى: " كانا يأكلان الطّعام " المائدة:75، كنايةٌ بإجماع عن قضاء الحاجة، لأن كلّ من يأكل الطعام في الدنيا أنجى، يقال: نجا وأنجى، إذا قام لحاجة الإنسان. اه
وعليه فانه كما انتفى التمثيل والشبه عن الله تعالى فيجب ان ينتفي ويمنع التجسيد والتجسيم، ولان ذلك من صفات حدود وقيود المادة المخلوقة ، و التماثل بين الخالق والمخلوق ممنوع . ومن الاشارات والرسائل البليغة في القران الكريم انه طلب منا الاستعانة والتبرك والتسبيح باسم الرب تعالى، كقوله فسبح باسم ربك العظيم، وقوله سبح اسم ربك الاعلى، وقوله اقرا باسم ربك الذي خلق، مشيرا بذلك الى انه لن تدرك من الحق جل وعلا الا اسمه، ونافيا لك ادراك ذاته سبحانه و تعالى. لان ابصارنا ومداركنا لا تحيط ادراكا الا بالمحدودات التي تقع تحت مدارك الحس. وعليه فلا يصح ان ترتسم له تعالى في الاذهان صورة ولا ان يجسد بتمثال. فسبح باسم ربك العظيم.
و رزقنا الله واياكم حق اليقين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2021-09-05, 8:18 am عدل 1 مرات