Hitskin.com
2024-11-08, 10:09 pm من طرف محمد بن يوسف الزيادي
بسم الله الرحمن الرحيم
من القواعد الفقهية قاعدة : (لا يُنكر تغير الاحكام بتغير المكان والزمان)
ما لها وما عليها :
القاعدة هي اصل البناء حسيا كان كابتناء السقف على قواعده ، ام معنويا كابتناء الدين على قواعده واركانه....ومنه قول الله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل }127البقرة
وقد عرف تاج الدين الســـــبكي القاعدة الفقهية اصطلاحا بقوله: " هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها" .
وتختلف عن القاعدة الاصولية بان انطباقها على جزئياتها اكثري لا كلي، فيقول الحموي في شـــــــرحه لكتاب الأشـــــــبـاه والنظـائر لابن نجيم: " إن القـاعـدة هي عنـد الفقهـاء غيرهـا عنـد النحـاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتُعرف أحكامها".
ثم ان القاعدة الاصولية توجد قبل وجود الحكم وتصلح ان تكون دليلا له، اما الفقهية فتوجد بعد وجود الحكم وتحتاج الى الدليل لتوجد .
وبالرجوع الى موضوع بحثنا : قاعدة «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الاماكن و الأزمان» فهي قاعدة قررتها مجلة الأحكام العدلية, وقد وضعها الفقهاء للأحكام التي لا تستند مباشرة إلى نص شرعي, بل مصدرها عرف أو عادة أو مصلحة سكتت عنها النصوص.
ولقد اثارت هذه القاعدة الجدل بين العلماء بين مقر لها وبين راد لها وبين موسع لمجالها وبين مضيق لمجالها و آخرين مسيئين لاستخدامها...
و قد اساء استخدامها مفتوا العلمانية في العصر الحديث ، بحيث اتخذوها ركيزة في هجومهم على الاحكام الشرعية الثابتة بالادلة الشرعية المستفادة من نصوص الكتاب والسنة،واتخذوا منها ذريعة لمطالبتهم بتغيير احكام الاسلام،خاصة فيما يتعلق بالمرأة والمجتمع والحدود والعقوبات والسياسات الداخلية والخارجية والعلاقة بالكفار وتقسيم الديار والدول الى دار حرب ودار سلم وما شابه ذلك ، لتجاري العصر حسب زعمهم الباطل وليجاروا هم الغرب مصدر ثقافتهم وقبلة ولائهم ....
فلذلك وجدنا كثير من الغيارى على الاسلام يرفض هذه القاعدة رفضا باتا وذلك من باب سد الذرائع واغلاق الباب في وجوه اصحاب الاهواء والبدع والضلال ...
ان من اهم الأسباب التي أدت إلى الانحراف بهذه القاعدة عن مسارها الصحيح: عدم تحديد نوع «الأحكام» التي تتناولها. فالقاعدة ليست مطلقة تتناول جميع المسائل والأحكام، وإنما تتناول نوعًا منها لا تتجاوزها .
فالأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
الأول: جَعَلَ الشارع فيها الحكم ثابتًا مبنيًا على علةٍ لا تتغير بتغير الزمان والمكان والاحوال. كالحدود واحكام الميراث والزواج والمحرمات والحرمات ...
الثاني: جَعَلَ الشارع فيها الحكم مبنيًا على علة قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والاماكن . ومن ذلك حديث الدافة الذي اخرجه مسلم عن عبد الله بن واقد، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث»، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة، تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي»، فلما كان بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا» أخرجه مسلم في صحيحه
فبين صلى الله عليه وسلم ان علة النهي عن الادخار بعد ثلاث كانت من اجل الدافة التي دفت الى المدينة من الاعراب الطالبين للقوت ، فلما انتهت الدافة اجاز لهم الاكل والادخار بعد ثلاث ... ونلاحظ هنا ان الامر متعلق بسياسة وتدبير شؤون الرعية ...
ومن ذلك ايضا عدم اقامة الحدود على اهل الثغور مخافة فتنتهم ولجوئهم لارض العدو فيكونون عونا له على امتهم، ومن ذلك ايضا ما اشتهر عن سيدنا عمر بن الخطاب من وقف تنفيذ حد القطع على السراق في عام الرمادة الذي جاع فيه اهل الجزيرة بسبب القحط والمحل واعتبر ذلك الحال شبهة يُدرأ بها الحد ، ومن ذلك ايضا حديث بريدة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، رواه مسلم ،فالنهي كان في البداية؛ لأنهم حدثاء عهد بجاهلية وكانوا يفعلون ما لا يليق عند القبور او خشية اتخاذها اوثانا يقدسونها وعلل الاذن بان زيارتها تذكر بالاخرة ...
ومما يجدر ذكره هنا ان فقهائنا كانوا لا يقبلون شهادة حاسر الرأس-الذي لا يغطي رأسه ويعتم بعمامة- واليوم نجد ان الكثير من اهل العمائم لا يؤتمن على دجاجة او قطمير ،في حين تأمن كاشف الرأس على قناطير ...
وذلك ان العرف كان لا يمشي الرجل حاسر الراس الا اذا كان نشازا في المجتمع متمردا على اعرافه وعاداته...
وعليه يمكننا القول بان الشارع الحكيم اذا اناط الحكم بعلة ثابتة مضطردة كان الحكم ثابتا، اما اذا اناطه بعرف او عادة او حال او مكان فان ذلك يتغير وفق تغير العرف والعادة والمكان والحال ...
وعليه فانه يجب ان تتغير صيغة القاعدة التي كان يفهمها الاوائل في اطار الشرع فهما سليما ،الى نص اخر يقطع على المستغلين طريقهم ويسد باب التهتك في وجوه اهل الاهواء والبدع والضلال ... وخاصة في هذه الايام التي استعجم فيها اللسان وتغرب الاسلام على اهله ...
وذلك بان نقول ان الفتاوى المناطة بالاحوال والعادات والاعراف والاماكن تتغير بتغير الاحوال والاماكن والعادات والاعراف....
فمثلا يحكم القاضي للمرأة الريفية او البدوية بنفقة مغايرة لما يفرضه للمرأة المدنية ..
ويحكم القاضي بقبول او رد الشهادة بحسب اعراف وتقاليد وعادات اهل البلد الذي هو فيه..كما يحمل معاني الالفاظ على ما اعتاد اهل البلد على استعمالها لأداء المعنى المتعارف عليه في بلدهم ...
وفي السياسة الشرعية : ذكر اصحاب السير والمحدثون في احداث غزوة الخندق قالوا: فلما اشتد على الناس البلاء ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمرا نحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به ، لا بد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا ( والله ) ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا .
فلاحظ هنا ان الامر متعلق بما يحقق مصلحة المسلمين ويدرأ عنهم المفسدة والعناء والشدة ....
قال الامام الشاطبي رحمه الله: «اعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف، كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف في أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها» انظر تشنيف المسامع بجمع الجوامع، للزركشي (٣/٥٣).
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: «ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان»انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (٤/٤٧٠).
وقال الامام الفقيه الاصولي القرافي رحمه الله: «إجراء الأحكام التي مُدرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلِّدين حتى يُشترَطَ فيه أهليةُ الاجتهاد، بل هذه قاعدةٌ اجتهدَ فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نَتْبَعُهم فيها من غيرِ استئنافِ اجتهاد» انظر الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للقرافي، ص (٢١٨).
فالعمل بالقاعدة اليوم يجب ان يكون باعادة صياغتها الى : لا يُنكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال .
واكثر ما يحتاجها المفتون ففي امور سياسة الرعية وتدبير شؤونها وفي القضاء ....
نسال الله تعالى ان يفقهنا ويعلمنا ويزدنا علما والله ولي التوفيق
من القواعد الفقهية قاعدة : (لا يُنكر تغير الاحكام بتغير المكان والزمان)
ما لها وما عليها :
القاعدة هي اصل البناء حسيا كان كابتناء السقف على قواعده ، ام معنويا كابتناء الدين على قواعده واركانه....ومنه قول الله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل }127البقرة
وقد عرف تاج الدين الســـــبكي القاعدة الفقهية اصطلاحا بقوله: " هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها" .
وتختلف عن القاعدة الاصولية بان انطباقها على جزئياتها اكثري لا كلي، فيقول الحموي في شـــــــرحه لكتاب الأشـــــــبـاه والنظـائر لابن نجيم: " إن القـاعـدة هي عنـد الفقهـاء غيرهـا عنـد النحـاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتُعرف أحكامها".
ثم ان القاعدة الاصولية توجد قبل وجود الحكم وتصلح ان تكون دليلا له، اما الفقهية فتوجد بعد وجود الحكم وتحتاج الى الدليل لتوجد .
وبالرجوع الى موضوع بحثنا : قاعدة «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الاماكن و الأزمان» فهي قاعدة قررتها مجلة الأحكام العدلية, وقد وضعها الفقهاء للأحكام التي لا تستند مباشرة إلى نص شرعي, بل مصدرها عرف أو عادة أو مصلحة سكتت عنها النصوص.
ولقد اثارت هذه القاعدة الجدل بين العلماء بين مقر لها وبين راد لها وبين موسع لمجالها وبين مضيق لمجالها و آخرين مسيئين لاستخدامها...
و قد اساء استخدامها مفتوا العلمانية في العصر الحديث ، بحيث اتخذوها ركيزة في هجومهم على الاحكام الشرعية الثابتة بالادلة الشرعية المستفادة من نصوص الكتاب والسنة،واتخذوا منها ذريعة لمطالبتهم بتغيير احكام الاسلام،خاصة فيما يتعلق بالمرأة والمجتمع والحدود والعقوبات والسياسات الداخلية والخارجية والعلاقة بالكفار وتقسيم الديار والدول الى دار حرب ودار سلم وما شابه ذلك ، لتجاري العصر حسب زعمهم الباطل وليجاروا هم الغرب مصدر ثقافتهم وقبلة ولائهم ....
فلذلك وجدنا كثير من الغيارى على الاسلام يرفض هذه القاعدة رفضا باتا وذلك من باب سد الذرائع واغلاق الباب في وجوه اصحاب الاهواء والبدع والضلال ...
ان من اهم الأسباب التي أدت إلى الانحراف بهذه القاعدة عن مسارها الصحيح: عدم تحديد نوع «الأحكام» التي تتناولها. فالقاعدة ليست مطلقة تتناول جميع المسائل والأحكام، وإنما تتناول نوعًا منها لا تتجاوزها .
فالأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
الأول: جَعَلَ الشارع فيها الحكم ثابتًا مبنيًا على علةٍ لا تتغير بتغير الزمان والمكان والاحوال. كالحدود واحكام الميراث والزواج والمحرمات والحرمات ...
الثاني: جَعَلَ الشارع فيها الحكم مبنيًا على علة قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والاماكن . ومن ذلك حديث الدافة الذي اخرجه مسلم عن عبد الله بن واقد، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث»، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة، تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي»، فلما كان بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا» أخرجه مسلم في صحيحه
فبين صلى الله عليه وسلم ان علة النهي عن الادخار بعد ثلاث كانت من اجل الدافة التي دفت الى المدينة من الاعراب الطالبين للقوت ، فلما انتهت الدافة اجاز لهم الاكل والادخار بعد ثلاث ... ونلاحظ هنا ان الامر متعلق بسياسة وتدبير شؤون الرعية ...
ومن ذلك ايضا عدم اقامة الحدود على اهل الثغور مخافة فتنتهم ولجوئهم لارض العدو فيكونون عونا له على امتهم، ومن ذلك ايضا ما اشتهر عن سيدنا عمر بن الخطاب من وقف تنفيذ حد القطع على السراق في عام الرمادة الذي جاع فيه اهل الجزيرة بسبب القحط والمحل واعتبر ذلك الحال شبهة يُدرأ بها الحد ، ومن ذلك ايضا حديث بريدة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، رواه مسلم ،فالنهي كان في البداية؛ لأنهم حدثاء عهد بجاهلية وكانوا يفعلون ما لا يليق عند القبور او خشية اتخاذها اوثانا يقدسونها وعلل الاذن بان زيارتها تذكر بالاخرة ...
ومما يجدر ذكره هنا ان فقهائنا كانوا لا يقبلون شهادة حاسر الرأس-الذي لا يغطي رأسه ويعتم بعمامة- واليوم نجد ان الكثير من اهل العمائم لا يؤتمن على دجاجة او قطمير ،في حين تأمن كاشف الرأس على قناطير ...
وذلك ان العرف كان لا يمشي الرجل حاسر الراس الا اذا كان نشازا في المجتمع متمردا على اعرافه وعاداته...
وعليه يمكننا القول بان الشارع الحكيم اذا اناط الحكم بعلة ثابتة مضطردة كان الحكم ثابتا، اما اذا اناطه بعرف او عادة او حال او مكان فان ذلك يتغير وفق تغير العرف والعادة والمكان والحال ...
وعليه فانه يجب ان تتغير صيغة القاعدة التي كان يفهمها الاوائل في اطار الشرع فهما سليما ،الى نص اخر يقطع على المستغلين طريقهم ويسد باب التهتك في وجوه اهل الاهواء والبدع والضلال ... وخاصة في هذه الايام التي استعجم فيها اللسان وتغرب الاسلام على اهله ...
وذلك بان نقول ان الفتاوى المناطة بالاحوال والعادات والاعراف والاماكن تتغير بتغير الاحوال والاماكن والعادات والاعراف....
فمثلا يحكم القاضي للمرأة الريفية او البدوية بنفقة مغايرة لما يفرضه للمرأة المدنية ..
ويحكم القاضي بقبول او رد الشهادة بحسب اعراف وتقاليد وعادات اهل البلد الذي هو فيه..كما يحمل معاني الالفاظ على ما اعتاد اهل البلد على استعمالها لأداء المعنى المتعارف عليه في بلدهم ...
وفي السياسة الشرعية : ذكر اصحاب السير والمحدثون في احداث غزوة الخندق قالوا: فلما اشتد على الناس البلاء ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمرا نحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به ، لا بد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا ( والله ) ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا .
فلاحظ هنا ان الامر متعلق بما يحقق مصلحة المسلمين ويدرأ عنهم المفسدة والعناء والشدة ....
قال الامام الشاطبي رحمه الله: «اعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف، كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف في أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها» انظر تشنيف المسامع بجمع الجوامع، للزركشي (٣/٥٣).
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: «ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان»انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (٤/٤٧٠).
وقال الامام الفقيه الاصولي القرافي رحمه الله: «إجراء الأحكام التي مُدرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلِّدين حتى يُشترَطَ فيه أهليةُ الاجتهاد، بل هذه قاعدةٌ اجتهدَ فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نَتْبَعُهم فيها من غيرِ استئنافِ اجتهاد» انظر الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للقرافي، ص (٢١٨).
فالعمل بالقاعدة اليوم يجب ان يكون باعادة صياغتها الى : لا يُنكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال .
واكثر ما يحتاجها المفتون ففي امور سياسة الرعية وتدبير شؤونها وفي القضاء ....
نسال الله تعالى ان يفقهنا ويعلمنا ويزدنا علما والله ولي التوفيق
