ثلاثة وستون عاما على صندوق أبي
بقلم: ملكة أحمد الشريف
ما زلت أذكر في طفولتي الغابرة أن أبي -رحمه الله- كان له صندوق خشبي كبير داكن
اللون، وكان يحافظ عليه ويعتني به أيما اعتناء...
وأذكر ملامح وجه أبي وهو يجثو أمام الصندوق وعرقه يتصبب من جبينه الندي، وأذكر
كيف كانت أمنا الغالية -أطال الله في عمرها وأحسن عملها- تشاطر أبي صمته وحزنه
وعيناها مغرورقتان بالدموع، وكانت تنظر إلينا بلطفها المعهود وكأنها تشير إلينا بالصمت
احتراما للموقف... وما كنا نعي السر في صمت أبي وحزنه وعيني أمي الدامعتين.
ولم نعلم ما سر الصندوق الذي كرهناه لارتباطه بكفنا عن اللعب، ولكننا كنا نعرف أن
الصندوق هو سبب ذلك الصمت المطبق دون أن نعي ما هي قصته.
بعد مرور أعوام... أصبحنا على علم بما كان في هذا الصندوق الذي كنا نتساءل عما فيه...
فكانت صدمتنا -أنا وأخي الذي يصغرني بعامين- أنه لم يكن في الصندوق حلوى،
أو نقود، أو مصباح علاء الدين كما تخيلنا، ولكنه كان يحوي أوراقا قديمة متآكلة الأطراف طويت
بعناية فائقة، وإلى جانبها يرقد مفتاح كبير كأنه يحرسها، وفي الطرف الآخر من ذاك
الصندوق كوفية سوداء...
كانت هذه الأوراق هي أوراق (الطابو) لأملاك أبي وجدي، والمفتاح لبيت جدي، والكوفية
كانت لثام عمي الذي استشهد وهو يدافع اليهود عن بلدته أثناء الاغتصاب الصهيوني للأراضي
الفلسطينية عام 1948.
واليوم -وأجراس العودة التي لم تقرع بعد- ما زالت نواقيس كثيرة تدق في ذاكرتنا لتذكرنا
بأن طريق العودة لم تعد محفوفة بأزهار الأقحوان وشقائق النعمان، ولكنها طريق مغروسة
بالأشواك الغليظة التي أدمت القلوب والأقدام، لقد طالت الطريق وتأخرت العودة، فلم تكن -
كما ظن أبي رحمه الله- خلال يومين أو أسبوع من الهجرة، بل امتدت إلى ثلاثة وستين عاما
طويلة مريرة.
والآن وبتوالي السنين... توالت النكبات... وخرج مفتاح أبي من صندوقه؛ ليعلق على
الحائط في بيتنا؛ ليظنه صغاري تكملة (ديكور) لذلك الركن من البيت، وهو يذكرني بنكباتنا
المتتالية في المجازر والحروب التي عايشناها خلال تلك السنين، وأنا ما زلت أنتظر... متى
سيعرف أبنائي سر المفتاح المعلق على الحائط؟؟!!
بقلم: ملكة أحمد الشريف
ما زلت أذكر في طفولتي الغابرة أن أبي -رحمه الله- كان له صندوق خشبي كبير داكن
اللون، وكان يحافظ عليه ويعتني به أيما اعتناء...
وأذكر ملامح وجه أبي وهو يجثو أمام الصندوق وعرقه يتصبب من جبينه الندي، وأذكر
كيف كانت أمنا الغالية -أطال الله في عمرها وأحسن عملها- تشاطر أبي صمته وحزنه
وعيناها مغرورقتان بالدموع، وكانت تنظر إلينا بلطفها المعهود وكأنها تشير إلينا بالصمت
احتراما للموقف... وما كنا نعي السر في صمت أبي وحزنه وعيني أمي الدامعتين.
ولم نعلم ما سر الصندوق الذي كرهناه لارتباطه بكفنا عن اللعب، ولكننا كنا نعرف أن
الصندوق هو سبب ذلك الصمت المطبق دون أن نعي ما هي قصته.
بعد مرور أعوام... أصبحنا على علم بما كان في هذا الصندوق الذي كنا نتساءل عما فيه...
فكانت صدمتنا -أنا وأخي الذي يصغرني بعامين- أنه لم يكن في الصندوق حلوى،
أو نقود، أو مصباح علاء الدين كما تخيلنا، ولكنه كان يحوي أوراقا قديمة متآكلة الأطراف طويت
بعناية فائقة، وإلى جانبها يرقد مفتاح كبير كأنه يحرسها، وفي الطرف الآخر من ذاك
الصندوق كوفية سوداء...
كانت هذه الأوراق هي أوراق (الطابو) لأملاك أبي وجدي، والمفتاح لبيت جدي، والكوفية
كانت لثام عمي الذي استشهد وهو يدافع اليهود عن بلدته أثناء الاغتصاب الصهيوني للأراضي
الفلسطينية عام 1948.
واليوم -وأجراس العودة التي لم تقرع بعد- ما زالت نواقيس كثيرة تدق في ذاكرتنا لتذكرنا
بأن طريق العودة لم تعد محفوفة بأزهار الأقحوان وشقائق النعمان، ولكنها طريق مغروسة
بالأشواك الغليظة التي أدمت القلوب والأقدام، لقد طالت الطريق وتأخرت العودة، فلم تكن -
كما ظن أبي رحمه الله- خلال يومين أو أسبوع من الهجرة، بل امتدت إلى ثلاثة وستين عاما
طويلة مريرة.
والآن وبتوالي السنين... توالت النكبات... وخرج مفتاح أبي من صندوقه؛ ليعلق على
الحائط في بيتنا؛ ليظنه صغاري تكملة (ديكور) لذلك الركن من البيت، وهو يذكرني بنكباتنا
المتتالية في المجازر والحروب التي عايشناها خلال تلك السنين، وأنا ما زلت أنتظر... متى
سيعرف أبنائي سر المفتاح المعلق على الحائط؟؟!!