حتى يخمد الحريق
عبد الرازق أحمد الشاعر
فجأة نشبت النيران في الأدوار العليا من الفندق، وهرع النزلاء إلى الطابق السفلي ريثما ينتهي رجال الإطفاء من إخماد الحريق، وكان من بين النزلاء سيئي الطالع يومها نائب الرئيس الأمريكي تيدي روزفلت. وطال انتظار الحشد في البهو الداخلي حتى بدأ روزفلت يشعر بالتوتر إذ كان لديه موعد هام مع الرئيس لا يجب أن يفوته. وحين استبد به القلق وشعر أن الموعد قد صار قاب نصف ساعة أو أدنى، تقدم روزفلت نحو رجل يسد عنق السلم بكتفين عريضين وساعدين مفرودين وأخبره بأنه نائب الرئيس. عندها تراخت اليدان والتصق الكتفان بالجدار وبدأت قدما روزفلت تعلوان شيئا فشيئا فوق الرخام. لكن عريض المنكبين نادى الرئيس بعد ثوان قليلة ليسأله: "نائب أي رئيس أنت؟" فنظر إليه روزفلت من فوق كتفه الأيسر وقال: "نائب الرئيس الأمريكي يا رجل." عندها اهتز كرش الرجل حنقا وصاح فيه: "فلتعد أدراجك إذن، لقد ظننتك نائب رئيس الفندق."
هناك حدود إذن لا يجب أن يتجاوزها نائب الرئيس الأمريكي، وهناك درجات لا يجوز أن يرتقيها، وهناك حدود يمكن أن يتخطاها غيره من لابسي الأصفر حاملي الخراطيم أو من أصحاب المفاتيح المجلجلة والفواتير المكدسة في الأدراج الخشبية، بينما يحظر عليه التطلع نحوها ناهيك عن تجاوزها. لكن نائب الرئيس الذي لا يعرف صلاحياته يميل للقفز فوق الخطوط الحمراء وتجاوز الصلاحيات الموكلة إليه سفها أو كبرا فيفسد عمل المصلحين من الإطفائيين ويتسبب في حريق يمكن تجاوزه ببعض الحكمة وقليل من التعقل.
فإذا استبد وتولى كبره، فلا سبيل إلى تجنب الكارثة إلا بجذبه من كتفيه أو الإمساك بوتر أخيل لمنعه من حرق البلاد وسحق العباد. وهنا تأتي أهمية التشريعات التي تقنن الصلاحيات فترفع أقداما وتذل أخرى، وتقدم نائب رئيس فندق على نائب رئيس البلاد، ليس تحقيرا من شأنه ولكن حفاظا عليه وعلى من يسوسهم بصولجان منحوه إياه عن رضا وقناعة. لكن الخطر كل الخطر أن يظل الفندق بلا تشريعات فيرتقى السلم من وجب عليه النزول، وينزله من في نزوله هلكة له ولغيره. وفندق بلا تشريعات كحديقة حيوان بلا حواجز ولا حراس، وأتحدى من يفرق بين حديقة كهذه وبين غابة اختلطت قرودها بأسودها وباعتها الجائلين بملوكها ورؤوسها بذيولها.
غير مقبول في فندق يحترق أن يتحرك نائب الرئيس الأمريكي متجاوزا صلاحياته متسللا عبر درج نائب رئيس الطهاة أو نائب رئيس الخدم أو نائب رئيس الفندق، فلكل عمله وكل ميسر لما خلق له. لكن الأخطر أن يتجاوز عامل إطفاء حدود الحريق ليصل إلى مكتب نائب الرئيس فيقلب دفاتره ويمزق خرائطه ويحرق وثائقه. فمن غير المعقول أن يتدخل كل ذي عقيرة في عمل نائب الرئيس ويستحل لنفسه قفز درجات السلم دفعة واحدة في حذاء بلاستيكي طويل العنق لا يفرق بين أوراق دستور وأوراق مقلى.
ولا يجوز ولا يعقل أن تتحول واجهة قصر الرئاسة إلى حديقة عامة ينام أمامها كل مسافر أو سكير أو بائع جائل. فللحرية حدود مقدسة لا يجب العبث بها وإلا تحولت إلى فوضى عارمة تضيع فيها القيم ومراتب الأقدام. وعندها قد يجد نائب مدير الفندق مسوغا لاستخدام العنف المبرر في سحق متسلقي الدرج الذين تجاوزوا صلاحياتهم وقفزوا فوق خطوطهم الحمراء، وعندها يفتح المغرضون ثغرة سانحة في جدار بيت العروبة فيقلبون الطاولة على الرؤوس المشرئبة لتنسم الحرية ومعانقة الحياة.
ومغرض أو جاهل من يظن أو يعتقد أن نائب الرئيس قادر على إطفاء الحريق الذي تشعله أصابع من كافة الخرائط وحده، أو يحمله مسئولية تراث عميق من الحزن ضرب بجذوره كل حقل ومصنع وبيت. مخطئ من يظن أن صلاحيات نائب الرئيس تؤهله لزراعة السنين القاحلة أحلاما وسقيها آمالا وحصادها قصورا وفواكه، فسليمان الملك لم يكن ليصنع تراثه العبقري وحده لولا نفر من الجن والإنس عرفوا عجزه فآزروه وأدركوا خطأه فقوموه، وبنوا معه مملكة وسعت كل الأجناس وكافة المخلوقات. ولو تمردت الكائنات يومها على ملكها بدعوى الحريات لفسدت الأرض وما عليها، فليتنا نتقاسم الدرج ونلزم مواقعنا داخل البهو حتى يخمد الحريق.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات