فيها من الحنكة والدهاء بقدر ما فيها من الصعوبة
حرفة سلال القصب مهددة بالإنقراض في لبنان
جرجس طنوس: عتب كبير على الدولة التي لا تنصفنا
الأربعاء 15 آب 2012 2:54 صباحاً
"القصب المستخدم في صناعة السلال"
ثريا حسن زعيتر
يوم بعد الآخر تتلاشى المهن الحرفية في لبنان، حتى باتت مهددة بالانقراض لقلة الاهتمام بها، فكثير من البلدات والقرى اشتهرت ببعض المهن الحرفية، حتى باتت أرثاً خاصاً بها..
بلدة كفريا التي تبعد 7 كلم عن مدينة صيدا، هذه البلدة الجميلة حيث الطرقات متعرجة والضيقة، ما زالت بيوتها محافظة على تراثها القديم، ولطالما اشتهر أبناؤها بالأمس في صناعة سلال القصب، أما اليوم وحده جرجس طنوس واثنين آخرين ما زالوا يعملون بها، رغم كبر عمرهم الذي لم يدخلهم في تقاعد مع حرفة أحبوها، بل عشقوها..
حرفة السلال "صعبة"، فيها من الحنكة والدهاء الحرفي بقدر ما فيها من الصعوبة، فهي تحتاج إلى الصبر والى تحمّل جروح "نسلات" القصب، فيها فن الإبداع في تطويع القصب بما يلائم حرية السلة التي تختلف أشكالها وفقاً للحاجة لها، فسلال الورد مغايرة عن سلال الحمضيات وعن المونة والزيتون وغيرها..
"لواء صيدا والجنوب" حط رحاله في بلدة كفريا، والتقى جرجس طنوس في منزله، حيث كان يجلس أرضاً وبقربه تبعثرت السلال المنجزة، فيما هو منهمك في إنجاز سلة أخرى، وبحذاقة بالغة تتحرك أنامله، تطوع القصب بسلاسله، ثوان معدودة وينجز سلة "غاية في الروعة والدقة"..
زينة وتراث
سلال القصب موروث حرفي "عتيق" ونادر يعود إلى عصور قديمة رافقت نشأة العديد من الحضارات المندثرة، لا سيما في المناطق القريبة والمحيطة بالأنهار وأماكن توافر الماء كالجداول والمستنقعات، وهي لا توجد إلا في مناطق محددة في لبنان، أهمها: عمشيت، كواشرا، زغرتا وكفريا الجنوبية، وتختلف أشكالها بحسب مكان استخدامها، كما تستخدم في بعض المنازل كزينة تراثية.
جرجس طنوس "أبو طوني" (74 عاماً) واحد ممن يواظبون على حرفة الأجداد، حرفة يراها الناس "فن حياكة القصب في جدليات معقودة على بعضها في تراص متوازن". يقول: "لقد تعلمت حياكة سلال القصب منذ كنت في العاشرة من عمري، كانت عائلتي وكل عائلات كفريا يحيكون القصب سلالاً بأشكال وأحجام مختلفة، كانت السلال مهمة جداً بالنسبة للبستاني والتاجر والمزارع، وكان والدي ينكب لشهور في إنجاز الطلبيات التي تنتظر الدور، فأحببت هذه الحرفة التي لم يجبرني أحد على تعلمها، فأنا كنت كبير إخوتي، وكان عليَّ أن أساعد والدي في حرفته التي ورثها عن والده وجده".
"أبو طوني" ينشغل في شبك القصب وجدله بنسلات "متفسخة" من القصب الآخر الذي يتصف بطوله وتفرغه من القاعدة، بحيث يكون موزع بتباعد متساو، وبعد الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل "المسكة" العريضة، وكذلك الارتفاع، فتصبح بعدها السّلة من أوزان صغيرة أو كبيرة تتسع لستة كيلوغرامات أو صندوق ليمون كامل، جاهزة لدخول "سلك الخدمة"، أما عدتها الأساسية، فهي اليدين والسكين "الطيّب" الذي يصلح لشطب القصب أو تمرير النسلات بين الجدائل.
فن.. ودقة
يرفض "أبو طوني" تقاعد الحرفة، فهي تعني له الكثير، بحيث يجلس في غرفة منزله يتحاور مع القصب.. الذي يتحول في غضون ربع ساعة إلى "سلة قصب" تترك في الزاوية بقربه لكي تنتظر من يشتريها، "للحرفة أصول وفنون ودقة" ويقول: "إنها تمر بعدة مراحل، تبدأ من "شراء القصب من ضفاف الأنهر ومن طرابلس والصرفند، بعدها يتم بلّها بالمياه لتلين، ثم يتم تقشيرها وتقطيعها إلى نسلات متطابقة، وبالتالي يجري الانطلاق في تركيب البدوة - أي ما يسمى بقاعدة السلة"، فهي عبارة عن الركيزة الأساسية للسلة تتألف من أكثر من 10 قصبات، يتم رصّها في الأرض، وتتحكم بها الرجل واليدين التي تتحرك دون حدود أو قيود بسرعة ماهرة، بعدها نعلقها وندور حولها بوضعية الركوع، كل برمة تحتاج إلى برمة مقابلة، فيها مشقة وتعب كبير، لكنها تعد سهلة وصعبة في آن معاً".
إعجاب مميّز
ويفتخر "أبو طوني" بما أنجزه "لقد طلبت "مدرسة الكسليك" مني أن أنجز لهم سلة قاعدتها ورأسها بشكل وردة غير متناسقة، فحدثتني نفسي بأنها صعبة، وإنني سأخفق، فكيف لي أن احقق مطلباً صعباً كهذا، لكنني قررت وصممت على أن أحقق إنجازاً إبداعياً، لذلك صنعتها بكامل الدقة والإبداع والمهارة فنالت إعجاب مميّز من قبل المدرسة، رغم أنني أبديت رأيي بها وقلت لهم إنها لم تعجبني بنسبة 20٪، لكن توقعاتي كانت خاطئة بحيث أنهم طلبوا مني إنجاز أكثر من 20 قطعة كديكور للطلاب، مع ذلك لا أحب أن أغامر كثيراً إلا إذا طلب الزبون شيئا ما، لأننا أحيانا نصنع سلال ولا نبيع فلا أريد المجازفة. وعلى الرغم من أن صوت القصب يأنس الروح، إلا أن هناك عتبا كبيرا على الدولة التي تتصف باللامبالاة ولا تقدر ما تملك، فكم من مواطن بات يُفضل الجاهز على الحرفي اليدوي الذي يكد نهاره بتعب لا أحد يقدر التعب، ولا من يسأل أين أصبحنا اليوم، وأين هي حرفتنا"..
التنافس الحاد
وبحسرة يقول "أبو طوني": "لقد تراجعت هذه الحرفة بشكل كبير بعد أن اقتحم البلاستيك والمطاط فضاءها، فأقصى حضورها، ودفعها لكي تقف قاب قوسين أو أدنى من الإنقراض، خاصة في ظل التنافس الحاد مع السلال الصينية المزخرفة، فالحرفة التي كانت تدر 21 مليون ليرة شهرياً قبل خمسة أعوام، بالكاد تسد تعب الحرفي". ويرى أن "الطلب على نتاج السلال ضئيل جداً، فضلاً عن غياب السوق المحلي الذي يدعم المستور، رغم أنه لا فرق بالأسعار بين سلالنا التي نبيعها بـ 2500 ليرة في حين تباع الصينية بـ 3000 ليرة، أضف إلى أن المزارع يفضّل السلال البلاستيكية رغم أن القصب أمتن".
حقي وتعبي
يتأفف "أبو طوني" من الحال التي وصلت إليه حرفته "لقد كنت أتفنن بها، وكنت أحاول أن أبتكر أشياء جديدة بالقدر التي يسمح به القصب، لأنه ليس سهل التطويع بالطريقة التي تريدها، عكس الخيزران الذي يتحوّل إلى حشيش طري يسهل نحته بفن تجريدي مبتكر، لكن أمام جدار التعنت والانكماش تتصارع السلال، فهي بالكاد تفي حقي وتعبي، فحين تعمل طيلة النهار أو اسبوع كامل لكي تنتج 30 ألفاً "بلاها أفضل"، لا أنكر أنني أتسلى عبرها، لا بل وأنني أستفيد منها إلى حد ما، فهي "رزق" بغض النظر عن كونها زخرفة بالقصب".
جرجس طنوس خلال عمله
... وخلال تقشير القصب
بداية المشوار في صناعة السلة
السلال
مصنوعات من الخيزران
يشير الى القصب المستخدم في صناعة السلال
حرفة سلال القصب مهددة بالإنقراض في لبنان
جرجس طنوس: عتب كبير على الدولة التي لا تنصفنا
الأربعاء 15 آب 2012 2:54 صباحاً
"القصب المستخدم في صناعة السلال"
ثريا حسن زعيتر
يوم بعد الآخر تتلاشى المهن الحرفية في لبنان، حتى باتت مهددة بالانقراض لقلة الاهتمام بها، فكثير من البلدات والقرى اشتهرت ببعض المهن الحرفية، حتى باتت أرثاً خاصاً بها..
بلدة كفريا التي تبعد 7 كلم عن مدينة صيدا، هذه البلدة الجميلة حيث الطرقات متعرجة والضيقة، ما زالت بيوتها محافظة على تراثها القديم، ولطالما اشتهر أبناؤها بالأمس في صناعة سلال القصب، أما اليوم وحده جرجس طنوس واثنين آخرين ما زالوا يعملون بها، رغم كبر عمرهم الذي لم يدخلهم في تقاعد مع حرفة أحبوها، بل عشقوها..
حرفة السلال "صعبة"، فيها من الحنكة والدهاء الحرفي بقدر ما فيها من الصعوبة، فهي تحتاج إلى الصبر والى تحمّل جروح "نسلات" القصب، فيها فن الإبداع في تطويع القصب بما يلائم حرية السلة التي تختلف أشكالها وفقاً للحاجة لها، فسلال الورد مغايرة عن سلال الحمضيات وعن المونة والزيتون وغيرها..
"لواء صيدا والجنوب" حط رحاله في بلدة كفريا، والتقى جرجس طنوس في منزله، حيث كان يجلس أرضاً وبقربه تبعثرت السلال المنجزة، فيما هو منهمك في إنجاز سلة أخرى، وبحذاقة بالغة تتحرك أنامله، تطوع القصب بسلاسله، ثوان معدودة وينجز سلة "غاية في الروعة والدقة"..
زينة وتراث
سلال القصب موروث حرفي "عتيق" ونادر يعود إلى عصور قديمة رافقت نشأة العديد من الحضارات المندثرة، لا سيما في المناطق القريبة والمحيطة بالأنهار وأماكن توافر الماء كالجداول والمستنقعات، وهي لا توجد إلا في مناطق محددة في لبنان، أهمها: عمشيت، كواشرا، زغرتا وكفريا الجنوبية، وتختلف أشكالها بحسب مكان استخدامها، كما تستخدم في بعض المنازل كزينة تراثية.
جرجس طنوس "أبو طوني" (74 عاماً) واحد ممن يواظبون على حرفة الأجداد، حرفة يراها الناس "فن حياكة القصب في جدليات معقودة على بعضها في تراص متوازن". يقول: "لقد تعلمت حياكة سلال القصب منذ كنت في العاشرة من عمري، كانت عائلتي وكل عائلات كفريا يحيكون القصب سلالاً بأشكال وأحجام مختلفة، كانت السلال مهمة جداً بالنسبة للبستاني والتاجر والمزارع، وكان والدي ينكب لشهور في إنجاز الطلبيات التي تنتظر الدور، فأحببت هذه الحرفة التي لم يجبرني أحد على تعلمها، فأنا كنت كبير إخوتي، وكان عليَّ أن أساعد والدي في حرفته التي ورثها عن والده وجده".
"أبو طوني" ينشغل في شبك القصب وجدله بنسلات "متفسخة" من القصب الآخر الذي يتصف بطوله وتفرغه من القاعدة، بحيث يكون موزع بتباعد متساو، وبعد الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل "المسكة" العريضة، وكذلك الارتفاع، فتصبح بعدها السّلة من أوزان صغيرة أو كبيرة تتسع لستة كيلوغرامات أو صندوق ليمون كامل، جاهزة لدخول "سلك الخدمة"، أما عدتها الأساسية، فهي اليدين والسكين "الطيّب" الذي يصلح لشطب القصب أو تمرير النسلات بين الجدائل.
فن.. ودقة
يرفض "أبو طوني" تقاعد الحرفة، فهي تعني له الكثير، بحيث يجلس في غرفة منزله يتحاور مع القصب.. الذي يتحول في غضون ربع ساعة إلى "سلة قصب" تترك في الزاوية بقربه لكي تنتظر من يشتريها، "للحرفة أصول وفنون ودقة" ويقول: "إنها تمر بعدة مراحل، تبدأ من "شراء القصب من ضفاف الأنهر ومن طرابلس والصرفند، بعدها يتم بلّها بالمياه لتلين، ثم يتم تقشيرها وتقطيعها إلى نسلات متطابقة، وبالتالي يجري الانطلاق في تركيب البدوة - أي ما يسمى بقاعدة السلة"، فهي عبارة عن الركيزة الأساسية للسلة تتألف من أكثر من 10 قصبات، يتم رصّها في الأرض، وتتحكم بها الرجل واليدين التي تتحرك دون حدود أو قيود بسرعة ماهرة، بعدها نعلقها وندور حولها بوضعية الركوع، كل برمة تحتاج إلى برمة مقابلة، فيها مشقة وتعب كبير، لكنها تعد سهلة وصعبة في آن معاً".
إعجاب مميّز
ويفتخر "أبو طوني" بما أنجزه "لقد طلبت "مدرسة الكسليك" مني أن أنجز لهم سلة قاعدتها ورأسها بشكل وردة غير متناسقة، فحدثتني نفسي بأنها صعبة، وإنني سأخفق، فكيف لي أن احقق مطلباً صعباً كهذا، لكنني قررت وصممت على أن أحقق إنجازاً إبداعياً، لذلك صنعتها بكامل الدقة والإبداع والمهارة فنالت إعجاب مميّز من قبل المدرسة، رغم أنني أبديت رأيي بها وقلت لهم إنها لم تعجبني بنسبة 20٪، لكن توقعاتي كانت خاطئة بحيث أنهم طلبوا مني إنجاز أكثر من 20 قطعة كديكور للطلاب، مع ذلك لا أحب أن أغامر كثيراً إلا إذا طلب الزبون شيئا ما، لأننا أحيانا نصنع سلال ولا نبيع فلا أريد المجازفة. وعلى الرغم من أن صوت القصب يأنس الروح، إلا أن هناك عتبا كبيرا على الدولة التي تتصف باللامبالاة ولا تقدر ما تملك، فكم من مواطن بات يُفضل الجاهز على الحرفي اليدوي الذي يكد نهاره بتعب لا أحد يقدر التعب، ولا من يسأل أين أصبحنا اليوم، وأين هي حرفتنا"..
التنافس الحاد
وبحسرة يقول "أبو طوني": "لقد تراجعت هذه الحرفة بشكل كبير بعد أن اقتحم البلاستيك والمطاط فضاءها، فأقصى حضورها، ودفعها لكي تقف قاب قوسين أو أدنى من الإنقراض، خاصة في ظل التنافس الحاد مع السلال الصينية المزخرفة، فالحرفة التي كانت تدر 21 مليون ليرة شهرياً قبل خمسة أعوام، بالكاد تسد تعب الحرفي". ويرى أن "الطلب على نتاج السلال ضئيل جداً، فضلاً عن غياب السوق المحلي الذي يدعم المستور، رغم أنه لا فرق بالأسعار بين سلالنا التي نبيعها بـ 2500 ليرة في حين تباع الصينية بـ 3000 ليرة، أضف إلى أن المزارع يفضّل السلال البلاستيكية رغم أن القصب أمتن".
حقي وتعبي
يتأفف "أبو طوني" من الحال التي وصلت إليه حرفته "لقد كنت أتفنن بها، وكنت أحاول أن أبتكر أشياء جديدة بالقدر التي يسمح به القصب، لأنه ليس سهل التطويع بالطريقة التي تريدها، عكس الخيزران الذي يتحوّل إلى حشيش طري يسهل نحته بفن تجريدي مبتكر، لكن أمام جدار التعنت والانكماش تتصارع السلال، فهي بالكاد تفي حقي وتعبي، فحين تعمل طيلة النهار أو اسبوع كامل لكي تنتج 30 ألفاً "بلاها أفضل"، لا أنكر أنني أتسلى عبرها، لا بل وأنني أستفيد منها إلى حد ما، فهي "رزق" بغض النظر عن كونها زخرفة بالقصب".
جرجس طنوس خلال عمله
... وخلال تقشير القصب
بداية المشوار في صناعة السلة
السلال
مصنوعات من الخيزران
يشير الى القصب المستخدم في صناعة السلال