مهنة يتوارثها الأبناء عن الأجداد لحفظها من الاندثار
محمد نصر الله: صنعت هالة بحرية في صدفيات تنطق بلسان بحري
الأربعاء 22 آب 2012 1:40 صباحاً
ثريا حسن زعيتر
داخل صيدا القديمة تلوّن الأصداف المتعددة الأشكال والأحجام وحتى الألوان أزقتها التراثية والتاريخية المتداخلة، لتروي سيرة حرفة مختلفة عن باقي الحرف.. تتداخل فيها المهنة مع الفن التشكيلي لتصل إلى درجة الإبداع، يتوارثها الأبناء عن الأجداد ليحفظوها من النسيان والاندثار، في مدينة مفتوحة على علاقة حب ورزق مع البحر وحكاياته ومغامراته التي لا تنتهي..
محمد خليل نصر الله، واحد من هؤلاء الذين يحترفون هذه المهنة النادرة داخل صيدا القديمة، ويعشقون التفنن بأشكالها ليجمع بين المهنة والفن وطلب الرزق..
قد يراها البعض أنها أقل من عادية ولا إبداع فني داخلها، لكن الأصداف بين يدي نصر الله تختلف كلياً، تخرج عن إطارها التقليدي لتتحوّل إلى منحوتات تشكيلية جميلة، داخل محترفه في إحدى زوايا سوق صيدا العتيق، بالقرب من ساحة باب السراي، القلب النابض بالحياة في البلد القديمة..
"لـواء صيدا والجنوب" زار محترف نصر الله، الذي حوّله إلى متحف نادر، ومعرض مفتوح يشد انتباه العابرين، ليدخلوه تلقائياً، سائلين عن هذا الإبداع الصيداوي المستمر جيلاً بعد آخر.
عظمة الإبداع
بأنامله الخفيفه يحوّل محمد نصر الله الأصداف الصغيرة إلى تحفة ناطقة ذات لمسة يدوية، يضفيها على منحوتات تخرج حاملة لواء البحر بكل أبعاده، وتتجلى عظمة الإبداع عنده في سفينة عملاقة من الصدف التي حرص على إبراز أدق وأصغر التفاصيل التي تحويها السفن.
يتساءل نصر الله بمرارة "كيف يُمكن لحرفي أن يصمد في غياب الدعم الرسمي والجمعيات الحرفية التي تُعنى بالحفاظ على هذه المهنة؟".
ويضيف: "لقد علمتني الحياة ليس فقط الصبر، بل برودة الأعصاب، فهي تنسيني كل المطبات، فحين أبدأ بالعمل أصب كل تفكيري على تلك الأصداف التي تبدو صامتة لغيري، ولكنني أحاكيها بلغتها الخاصة التي تعلمتها أثناء الغطس".
ويمضي نصر الله ساعات طوال بين أصداف يجمعها من على شاطىء بحر صور وصيدا، يحاكيها بأسلوب مغاير عن أسلوب الحياة، يقول: "12 سنة هو عمر الحرفة، كانت حلم الطفولة، فأنا أهوى البحر، وتحديداً الغطس، وهذا ما شجعني لنقل حياة البحر الى عملي، لقد عمدت إلى صناعة هالة بحرية في صدفيات تنطق بلسان بحري".
جمال البحر
في متحف نصر الله "الصدفي"، يحضر بيض سمك متحجر، غليون صخري قديم، أسماك متحجرة، محار، بقايا صخور قديمة، مرجان، وفي زاوية أخرى تشاهد أصدافاً صغيرة الحجم التحمت على بعض، فخرجت على شاكلة "سمكة بحرية"، كذلك لوحة مُرجانية تروي جمال البحر، جمعها نصر الله بطريقة فنية بالغة الروعة، وفي زاوية أخرى تقبع "خارطة فلسطين"، هذه المرة وُلدت من الصدف، أحصنة البحر، ورود، عَلاقات، كلها حضرت بقالب "صدفي"، تَشعُر كأنك في البحر.
ويقول: "مجسماتي بوابة عبور بين الماضي والحاضر لأنها تُراث.. أفكاري مختلفة عن غيري، أملك خيالاً إبداعياً، مكنني من أن أتألق في عمل أشعر داخله بتجانس فكري، تراثي، فني، وهذا وضعني أمام تحدي الواقع المغزول بكثير من هواجس الخوف أن يأتي يوماً ولا نجد حرفاً".
صبر وعزيمة
ولم يقتصر عمل نصر الله على تحويل الصدف إلى تحف، بل تخطى الأمر إلى الحَفر على الصدف، يقول: "الحفر على الصدف ليس بالأمر اليسير، هو صعب ويتطلب مجهوداً مضاعفاً، ولكن العزيمة تكسر الصعوبات، فهو يحتاج إلى دقة متناهية، والى صبر وعزيمة".
يرمي بكلماته على صدفة بين يديه يعمل بالحفر عليها، أسماء، آيات قرآنية، صوراَ، أشكال بحرية مختلفة، فهو يرقى بنفسه إلى عالم فني آخر.
داخل المحترف الصغير في الحجم، الغني بكثير من المنحوتات التي صنعها، يسرد سيرة حرفة في صورة، يؤكد "تعطيني نفحة أمامية للتقدم والحفاظ على حرفة، يخجل جيل اليوم منها".. ولا يفتأ أن يُشير "لا يكفينا إهمال الدولة لهذه الحرف، إلا ويطالعنا إحجام نظرة الشباب لها، على الرغم أن الأجنبي يعشق عملنا ويرغب به، ولكن لمَ اللبناني لا؟".
وهنا يطرح معادلة بسيطة "أن تدرّس هذه الحرف في المدارس، لكي ينشأ رابط بين الطلاب وحرفهم، أقله حصة لزرع أفكار للأجيال الطالعة لكي يتعرفوا على إرث الأجداد".
لبنان وشموخه
يبذل نصر الله جهداً كبيراً في آلية تطوير نحت الصدف، فيشير "أعمل على نحت الأرزة اللبنانية على أصداف ثمينة، تكون حيناً من الأرجوان أو المحار، وحينا آخر من البوق، كي يخلد لبنان بشموخه وشعاره، إضافة إلى التعبير عن موقف سياسي - فني من خلال صناعة نموذج مصغر عن قلعة صيدا أو بعلبك أو القدس والأقصى".
لكن التساؤل الأهم: هل يلاقي نصر الله والحرفيون دعماً وتشجيعاً للمحافظة على هذه المهن الأثرية؟