{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} مريم
اترك الآية الآن من غير طرح الاسئلة راجيا ان يشاركنى الأخوة والاخوات فى التفكير والتدبر فى محتوى الآية, آخذين فى الأعتبار المتغيرات التى تنتج من نسبية الزمان والمكان كما قدمت سابقا , وبالتالى طرح الاسئلة قبل محاولة استنباط مدلولاتها...
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ
آخذين فى الإعتبار مفهوم النسبية فى الزمان والمكان التى تضيع معها الكثير من حقائق التاريخ البعيد, فان الآية اعلاه تصف فى الفاظ بسيطة فئات من النبيين امتدت من آدم الى ذرية اسرائيل عليهما السلام.
هذه اكثر فترات تاريخ البشر غموضا إذ اننا لا معالم لدينا تحدد تلك الفترة , وكل ما بين ايدينا افتراضات قامت على تعداد انساب الآباء بين عيسى و آدم فى الانجيل والتى اقتبست فى نسب النبى فى سيرة ابن هشام. وكما قدمت فى الحلقة السابقة: لا عدد الجداد مؤكد ولا اعمارهم معروفة وبالتالى فان حساب الفترة بين اسرائيل و آدم لن تكون الا ضربا من الخيال.....
بيد ان الله قد ترك لنا علامة فى منصف الطريق وهى ان نوحا لبث فى قومه الف سنة الا خمسين عاما:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)} العنكبوت
مهما اختلف الناس فى مدلول هذه الالفاظ فان ما لاشك فيه ان نوحا قد عمر فى الارض اكثر من 950 سنة.
وحتى لا نسى مفهوم النسبية, لا بد ان ننتبه الى حقيقتين:
الاولى:
ان نوح ما كان له ان يلبث فى قومه الف سنة الا خمسين عاما الا إذا كان هذا هو متوسط عمر الانسان فى زمانه. من غير المنطقى ان يكون نوح نبى معمر عاصر عشرة اجيال عاشت ثم ماتت وهو ما زال حى – هؤلاء اقوام ولسوا قوما’ علما بان الطوفان قد اخذ الظالمين من قومه وليس الجيل العاشر منهم. كل نبى يبعث فى قومه ويشترك معهم فى كل صفات الحياة من لسان ومأكل ومشرب ومهنة وعمر لكنه يأتيهم برسالة جديدة فقط.
من هنا يمكننا الإفتراض ان الإنسان فى عصر نوح كان يعيش ما عاشه نوح...لكن كم عاش نوح اصلا؟ هذه هى النقطة الثانية:
ثانيا:
الآية لا تصف عمر نوح من ميلاده الى موته ولكنها تصف ما لبثه فيهم كرسول...................يعنى ان هذه الألف سنة الا خمسين عاما ليست الا عمر رسالته .. ليس عمره من ميلاده الى موته.....!!!!
فاذا اخذنا سيرة النبى الكريم معيارا للمقارنة نجد ان الرسول قد لبث فى قومه 23 سنة ( كنبى) لكن الأربعين سنة التى سبقت نبوءته فقد كان محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب...
ولما كنا لا نكلك دليلا ان نوحا ولد رسولا وكلم قومه فى المهد كعيسى بن مريم, فان المطق يقول ان نوحا لبث فى قومه عمرا قبل ان يوحى اليه ويبعث اليهم. والمنطق ايضا يقول انه ان كان متوسط عمر الانسان حينها يفوق الألف عام فان نوح ربما لبث فى قومه قبل الرسالة 500 سنة مثلا وبعدها ينطبق مفهوم الآية التى تصف عمر رسالته: (....فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا...).
فإذا قبلنا ان متوسط عمر الانسان حينها ربما كان اكثر من الف او يصل الى 1500 عام, فاننا هنا نتوقف امام مجهول كبير وهو: كم كان متوسط اعمار البشر قبل نوح – اى بين آدم ونوح؟
فان كان عمر الانسان قد تقلص الى اقل من 100 سنة فى الألف سنة الماضية, فان هذا التقلص لا بد وقد تم تدريجيا عبر آلاف السنين. ومن هنا نجد ان حسابنا لعصر نوح فيه خطأ كبير وحسابنا لعصر آدم فيه اخطاء اكبر إذ ربما كان اكثر من خمسين الف سنة وليس 7-8 الف سنة كما كنا نظن.................
هذا مجرد مدخل لاعانتنا على تدبر مفهوم النسبية فى الزمان اكثر.........اعود للآية التى بدأت بها الموضوع فى الحلقة السابقة:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} مريم
المتدبر لهذه الآية ربما يلاحظ الآتى:
اولا:
الآية تصنف النبيين الذين انعم الله عليهم.... اى ان كل من سيأتى هم انبياء فى فترات مختلفة من التاريخ اجملتهم الآية تحت مسميات مختلفة.
ثانيا:
لو افترضنا ان البداية : (من ذرية آدم) تعنى كل ذرية آدم الى اليوم , فاننا لا نجد معنى من تكرار بقية الحقب التاريخية لانهم جميعا من ذرية آدم. اما لو افترضنا ان (من ذرية آدم) هنا تشمل فقط الذين انحدروا من آدم الى الحقبة التالية المسماة فى الآية, فاننا نصطدم بحقيقتين ما كنا على علم بهما , وهما:
ثالثا:
ان (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) تشير الى فئة من النبيين تختلف عن الفئة التى اشير اليها سابقا بـ ( من ذرية آدم) – وهذا يعنى انه كان هناك انبياء معاصرين لنوح حملوا معه فى الفلك – لم يخبرنا الله بهم – وايضا يعنى انه كان هناك انبياء بين آدم ونوح ايضا لم يخبرنا الله بهم وهم المشار اليهم بـ (من ذرية آدم)..
رابعا:
الافتراض اعلاه يؤكده المزيد من التخصيص فى فئات الانبياء المذكورين فى الآية. فذرية إبراهيم عليه السلام تشمل ذرية اسرائيل بالضرورة, لكن الفصل بينهما يوحى بان المقصود من ذرية إبراهيم هم ذريته المباشرة (اسماعيل واسحق) لذلك اجملت الآية بقية الأنبياء من بنى اسرائيل الذين يمثلون عنصرا واحدا (انبياء اليهود) تحت مسمى منفصل: (من ذرية إسرائيل) لتكون الاشارة بـ (من ذرية ابراهيم) مختصة فقط بذريته المباشرة التى كانت بطبيعة الحال قبل اسرائيل. وهذا يوحى بأن المقوصدين بـ (من ذرية آدم) يختلفون من ( ممن حملنا مع نوح)...كما افترضنا اعلاه....
خامسا: لست ادرى من هم المشار اليهم بـ ( وممن هدينا واجتبينا) هل هم من النبيين الذين انعم الله عليهم ام انهم فقط انعم الله عليهم لكنهم ليسوا انبياء؟
فهل كان هناك انبياء بين آدم ونوح؟ وهل كان هناك انبياء معاصرين لنوح حملوا معه فى الفلك؟