غنى الصباح مورقا ..وشردت أسرابُ الطيور نحو أفقٍ باسم ٍكم أثقلت غمائمُه شتلات أسرارها لتُبعثرها بوحا شفيفا على وجنات الورود ..ذاك الذي ما تكاد جفون الليل الهارب من الضياء ترصف بعضه لؤلؤا ، وجمانا على مساحات المروج الخضراء حتى ترتشفه الأرض الظمأى بنهم كما اعتادت ليلى أن ترشف مزنات عبراتها الحَرّى ..وهي تقف صامتة في انتظار الحافلة لتقلّها إلى مدينة سكيكدة..
فكم لعبت بها الأيام ..وطوحتها نزواتها لتقطع حبال الود حبلا فآخر دون أن تدري ..حتى تهاوى المركب بين الصخور زبدا ترميه أمواج الغصات أنّى تشاء،ويتقاذفه هدير الجراح دون هوادة..
فها هي ذي تهيم شوقا لماض تولى وانبرى ولم يترك لها سوى ومضاته كشريط عابر يناوش فحيحُه وهادَ الذاكرةِ في كل حين .. لينفخ بين ذرات رمادها ويحيي جذوةً ما ظنتها ستنطفىء يوما رغم تعاقب أمطار الأحزان التي جرفت من حقول أيامها كل ما استقام أمامها عرشا يطاول ذؤابات المغيب
كم كانت تغبط نفسها عندما كانت وحيدة والديها اللذين لم ينجبا غيرها ليجعلا منها محراب عبادة
لقد كان والدها إطارا مهما بالدولة ،وكانت والدتها إنسانة لم تر من الحياة سوى جانبها الوردي
.. بعدما ترعرعت في بيت عز لتنتقل منه إلى عز آخر أنقى وأبقى ..إذْ لم يكن هناك ما يعكر صفوها ..أو يشغل سكون بالها سوى وحيدتها..التي أنجبتها بعد عملية قيصرية ، وبعد صراع طويل مع العقم ..لتصبح كأرض يباب أزهرت بعد قحط طويل كي تسعد أبا لا همّ له سوى تلك الزهرة التي جاد به ربيع القدر.. لتلون تفاصيل حياته الباهتة..وتجعله يفرط في دلالها..مقتنيا لها كل ماهو مميز حتّى لا يشبهها أحد. . وبالفعل كانت لا تشبه أحدا ..وقد وهبها الله جمالا متفردا لتشب وتكبر آية في الحسن والنبوغ
واكتمل بدر الأيام وليلى تنعم بحياة هادئة لا يعكر أنهارصفوها سوى ذلك الحلم العابر الذي يراود كل فتاة في مثل سنها حول فارس الأحلام .. إلى أن تحصلت على شهادة الثانوية العامة وبتفوق معهود ليأبى والدها إلا أن يدخلها جامعة خاصة بباريس بلد الجن والملائكة.
سافرت ليلى وارتحلت معها أحلام والديها مؤنسا ،لتستقر هناك وتتخصص في دراسة العلوم السياسية ، منكبةً على جني ثمرات العلم والمعرفة بكل ما أوتيت من قوة وعنفوان ..علها تختصر السنوات ، وتمحو المسافات لتعود إلى جنتها الصغيرة حاملةً حقائبها بيد ،وثمرة نجاحها بأخرى
.. غيرأنّها ما لبثت أن تعثرت بفتى أحلامها قبل سنة من التخرج ..لتبعثر عقد أسرارها أمام والديها وهي تنمق ثقةً وانبهارا ملامح ذلك الملاك الذي جمعتها به أرصفة الأقدار دون سابق إنذار
.. وهكذا اصطدمت الأماني ..وتخاصمت النوايا .. لتنقلب حياة ليلى رأسا على عقب بين ليلة وضحاها..فالوالد المتفهم لم يوافق على زواج ابنته الوحيدة بهذه السرعة ، طالبا منها التريث قليلا عله يتعرف أكثرعلى ذلك الشبح الذي طفا فجأة على نهر حياتها الهادىء، ليغير مساره ، ويحوله إلى هدير صاخب جرف كل محاولاته في إقناعها ..ليأتي القرار الفيصل حيث خيرها بين أمرين لا ثالث لهما..فإما أن تختار والديها أو تمضي صامتة بطريق رسمته بيدها مع ذلك الغريب الذي لا تعرف عن حاضره ما يفتح أمام ناظريها أبواب ماضيه الموصدة بإحكام
وتدفق سيل الأيام ..باردا ..متعرجا ليقطف أمل الوالدين في تراجع وحيدتهما عن اختيارها.. إذْ فوجئ الوالد ذات صباح بابنته وهي تبثه قرارها برنة هاتف .. ..وما أوجعه من قرار وهو يرى الدنيا تسْوَدّ صوب مدمعيه مبعثرةً كل عناقيد الصفاء التي اسّاقطت من داليات العمر
غير أنه قرر استكمال رسالته معها حتى آخر المطاف ، وهْو يبلغها بأنه سوف يحقق لها رغبتها شرط أن يمحوها من حياته وإلى الأبد..ثم أقام لها عرسا لم تر عين بشر مثله وأهداها ما لم يهدِ والد لابنته.. لكنه طلب منها أن تغادر المدينة بهدوء، لتقيم بمدينة عنابة رفقة زوجها. .
وجاء فجر الرحيل باهتا ..كنغمة شاردة من وتر شجي ..لتحضر العروس نفسها للسفر دون مبالاة بحزن والديها اللذين رفضا حتّى سماع وداعها .. وقد انزويا بركن من أركان بيتهما الباكي الحزين
وقبل أن تخرج قدمت لها والدتها علبة صغيرة وهي تخبرها بأنها آخر هدية لها من أبيها الذي يرجوها ألا تفتحها إلا عندما تصير أُما ..علها تدرك ما لم تستطع إدراكه بشرخ الصبا..
رحلت ليلى ورحلت معها بلابل البسمة والصفاء.. التي طالما غردت على أفنان حياة والديها .. حيث كانت كوردة قُطفت من منبتها ، ليتبخر معها فيض الندى الذي طالما روّى ظمأ ذلك البيت ،لتتدهور صحة الوالد بعدما أعطى فأسرف .. وعاقب فأنصف ..لأنه لم يعاقب ابنته فحسب.. بل عاقب نفسه أيضا
.. وراح يرتشف غصات الندم كأسا فأخرى .. وهو يسترجع شريط حياته الماضية مع ابنته ويكتوي بجمارها مدركا بأن إ فراطه في دلالها قد أنساها كيف يمكن أن تكون بارة به ، وتحترم رغبته ..
وهاهو ذا يذبل يوما بعد يوم .. ضائعا بين كبريائه ،وشوقه لوحيدته التي أشاحت بوجهها عنه في أول منعطف ليبقى الطريق طويلا..باردا ،يحجب منتهاه هول الضباب ..ويبقى هو واجما في مكانه ..لا حول ولا قوة له أمام قدر لا مفر من الاستعار بلظاه
وذات ليلة من ليالي سكيكدة الباردة.. تلبدت الغيوم لتزيد قلبه النازف وجعا .. فلا جرعة الضغط أسكنته ..ولا حقنة الأ نسولين هدّأت من روعه ..لتأخذه زوجته على جناح السرعة إلى أقرب
مشفى .. وكم هالتها الصدمة عندما أُدخل جناح العناية المركزة ..
بقيت ليلتها تعد نجوما لا ترى ..وتمسح دموعا لا ترفأ..وهي تتعثر بين أقبية الحيرة والضياع ..
ولاح وجه الصباح موحشا.. شاحبا .. لتنطفىء معه شمعة الأب المنكسر - إلى الأبد - وهو يهتف باسم ابنته التي مزقت الوعد ..ونكثت العهد.. وطارت كحمامة بيضاء ..ترفل بثياب أفراحها بعدما هجرت حدائقه ..غير مبالية بطوفان أحزانه الذي جرف من بين يديه كل بذور أحلامه ،ليهجر بدوره حياتها ..ويتركها تتجرع صاب الحسرة والندم.
نزل الخبر كالصاعقة على قلب ليلى التي كانت تنعم بحياة لم ترَ عروسٌ مثلها ..وهي تجوب أجمل المدن والأمكنة مع زوجها الذي أهداها أغلى العقارات،و ألبسها الخز،والتبر.. وجعلها تعيش بعالم كم ظنته منتهى الأمن والأمان.
لكنها انتفضت كالطير الذبيح وهي ترى بأن ذلك العز ما عاد يساوي شيئا و قد جرف الحضن الدافىء الذي ما ألفت سواه موطنا للسكينة والهدوء مذ أدركت ..وما ودعته إلا وهي تضمر رغبتها بالعودة إليه يوما إذا ما هدأت رياح الغضب بينهما ..وعادت له بعد سنين الغياب تقطف ورد الوصال نديا عصيا على أهوال فراق آخر..لكن مفاجآت الأقدار أحدّ نصلا من أن ترحم القلوب الموجعة لتستقيم أمامها بين الجرح والآخر موقّعة بطعنات أعمق من أن تشفى
لقد جاءت ليلى على جناح السرعة يخالجها أمل ضئيل في أن يكون الخبر كاذبا ..بعدما تركت والدها يتمتع بالصحة والشباب..كيف يمكن أن يهوي كنجم منير والليل بعدُ بأوله ..؟
وهي التي كانت تأمل أن تعود المياه لمجاريها قبل بزوغ فجرجديد.. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..
وصلت ليلى بيت والدها لتجد ما تواترته الألسن ليس بإشاعة ..وإنما هي حقيقة متفتقةٌ كفجوة غائرة بين شقوق أيامها .. وما أمرها من حقيقة نسجت هي بعض خيوطها دون اكتراث..وما أعمقه من جرح عندما صُدت كل الأبواب دونها..ليمنعها أحد أقاربها من دخول روض الطفولة والصبا.. تنفيذا لرغبة والدتها التي لا تريد بدورها رؤيتها أو سماع أخبارها مهما كانت.. فانكبّت على عتبة البيت وهي تصرخ مبللةً الأرض بدموع حارة كالندم ، غائرة كالذنب ،موجعة كالفراق .. وراحت ترجوهم أن يسمحوا لها برؤية والدها لآخر مرة ..حتى تودعه وتستسمحه.. لكنها طُردت كالغرباء لتعود من حيث أتت، ململةً آهاتها ..مضمدة جراحاتها التي لا ولن تندمل مهما تنقل بها قطار العمر بين برد المحطات..
وانفرط عقد الأيام بلمح البصر..و لم يكن أمام الفتاه سوى أن تنزوي ببيتها تائهة ..حائرة بعدما راح زوجها يخفف عنها وطء أحزانها بشتى السبل ، لكن ما بقلبها أعمق من أن تصله يد بشر ..
فيالوجع روحها وهي تتفيؤ ظلالا مضت ولم يبق منها سوى بعض الشميم يؤرقها
بين الفينة والأخرى لتمضي بوجلها ترسف في أغلال جرح لا يمكن أن يغفو بين جنباتها ..وقد هوى
نجم ماضيها الذي كم أنار الآفاق وما ضن يوما بفيض ضيائه لخطاها التي ستبقى تهتدي بصفاء نميره ..و لولاه لما استأنست هجير حاضرها الشقي وهْو يمضي بها نحو دروب لا تعرف لها منتهىً
وقد أعياها ترشف كؤوس الخيبات المنسكبة تباعا بين يديها الواهنتين..
وتدفق سيل الشجون على غير هدى وليلى تكابر في صمتها .. وتتلظى بجذوة حزنها الصامت لتفاجأ ذات صباح بما هو أدهى و أ مر..لقد تم القبض على زوجها سيد الأعمال وهو يعقد إحدى صفقاته لترويج السموم البيضاء .. وكم كان وقع الفاجعة مضنيا على قلبها .. وهي تكتشف حقيقة مَن باعت لأجله أعز الناس.. !!
فكم نقايض الأحبة بقُلامات الضرار - دون أن ننتبه- لتظل على ظهورنا قرابا مثقوبة يغسلنا صقيعها المتقطر بعز الشتاء كما هي حال ليلى التي باعت عمرا برمته لترضي نزوة عابرة .. وها هي ذي تجني الدمعة تلو الدمعة ..والآ هة تلو الآ هة لتجلد في اليوم ألف مرة بسوط الندم ..لكن أنّى للندم أن يجدي وقد فات أوان الاعتذار، والاعتراف بالخطأ.. و لم تعد تقوى على حمل مواجعها المبعثرة شروقا كغروبٍ لتنهار مع آخر صدمة تصفعها مع اكتمال الشهر السابع من حملها البائس .ثم ما لبثت أن انزوت بعيدا عن عيون الناس وراحت تبيع ما أمكنها أن تبيع من ممتلكاتها التي أهداها إياها زوجها لتوكل له أكبر المحامين في البلد بعدما صودرت كل أملاكه
وبعد فترة وجيزة صدر الحكم كسهم قاتل صوبته يد الأقدار نحو قلبها الأبكم لتستعجله يد العدالة ..إذْ حُكم عليه بالسجن لمدة عشرين سنة نافذة غير قابلة للطعن ..
وشاء الله تعالى ولا مرد لمشيئته أن تضع ليلى حملها في الشهر السابع من - فرط المآ سي - لتنجب طفلة بهية الطلعة سمتها رحيمة إحياء لذكرى والدها عبد الرحيم ..
وبعد فترة وجيزة قُبلت كعاملة بسيطة بأحد مصانع مدينة عنابة وقد أعياها العوز واستنفدت كل ما بحوزتها مما لم يصادر من أموال زوجها.
وذات يوم بينما كانت ترتب بعض صورها ،و تتجرع معها مرالذكريات..وحر الحنين ، وقعت بيدها تلك العلبة التي كانت آخر هدية من والدها عندما طلب منها ألا تفتحها إلا عندما تصبح أما ..
ضغطت عليها بلهفة واشتياق ،وراحت تضمها إلى صدرها وهي تشعر وكأن روح والدها لا تزال بداخلها ترقبها بعين العفو والغفران . فتحت العلبة بيد وجلة ..لتجد قصاصة من الورق كتب عليها :
) بنيتي الحبيبة إن صرتِ أما في يوم من الأيام أرجو ألا تربي
أبناءك كما ربيتك .. لأنني ما أعطيتك سوى الفقاع ،وفاقد الشيء لا يعطيه(
وما كادت تكمل تلك العبارة ..حتّى انفجرت باكية كما لم تبكِ من قبل ..فكم كان والدها عظيما ، وكم كانت هي متنكرة لتلك العظمة التي استأنست برد اللحود ..وتركتها تلبس ثوب الأحزان حتى آخر العمر..
ولم تكد بعض الأيام تتدحرج من طوق أشجانها - كجمرات ملتهبة محيلةً جسدها الواهن إلى ذبالة تعبث بها أنفاس الوجوم - حتّى فوجئت بوالدتها تطرق باب غرفتها المستأجرة لتطالبها بحضانة البنت بمرضاتها .. أوبالقوة وهي تقول لها :
) يجب أن أ أعيد تربيتك في تربية هذه البريئة حتّى تكون رحيمة بك ..إذا ما احتجتها يوما ،ولا تمحوك بجرة تنكرٍ كما محوتنا أنت من حياتك ذات جحود)
بعثرت هذه العبارة مضمخة بدموع غزيرة..ثم مضت حاملةً حفيدتها دون مبالاة بليلى التي رسمت مصيرها بيدها .. لتبقى وحيدة بين جدران باردة .. تحكي قصتها لكل من يصادفها ..
وهي تعمل ليل نهار لتوفر قوت يومها ،وثمن تذكرة سفر إلى مدينة سكيكدة كل أسبوع إن أمكن كي تقف أمام قبر والدها لساعات طويلة تحدثه حديث الروح للروح التي ستظل بين صلف الهموم تطل كغيمة بيضاء تظلل قيظ أيامها ..وما تلبث أن تعود غريبة وحيدة تدثر جسدها النحيف من أعاصير الندم ببعض الذكريات سورا تحتمي بدفء جنباته علها تسلو حينا أو بعض حين
(صورة حية من الواقع)