مع مصطفى في سيرة المصطفى 5
الحلقة الأخيرة
معمر حبار
econo.pers@gmail.com
السياسة التي أفسدت الدين: يتحدث الأستاذ مصطفى العمري كثيرا عن أن الأسباب السياسية كانت وراء تأخير تدوين السنة قرنين من الزمن، وإلا لماذا تأخرت كل هذه المدة الطويلة جدا في نظره؟.
وبما أنه قد تمّت الإجابة على شطر من السؤال في الحلقات الأربع الماضية. وقد تكون إجابة شافية أو غير كافية، فإن صاحب الأسطر، يرى أن الصراعات السياسية، والجري وراء الكرسي، والسعي لإرضاء السلطان بأيّ ثمن، كانت ومازالت من الأسباب الرئيسية للخلاف والاختلاف في فهم النصوص، وعدم قبول نص دون الآخر، أو رفض نص دون الآخر، ماأتبعه رفض الآخر مطلقا، بغض النظر عن مايقول ويملك من النصوص وسبل فهمها.
الاختلاف حول الخلافة: حين يعود المرء للطفولة، حين كان في المرحلة التعليمية من المتوسط، يتذكر جيدا أنه قرأ بفطرته وبياضه للشيخ محمد الغزالي، رحمة الله عليه في بعض كتبه، أن الصراع القائم بين المذاهب الإسلامية هو صراع سياسي لاعلاقة له بالدين. ومن يومها بقيت الفكرة راسخة، ولم يتدخل في الصراع القائم، لأنه علم أنه صراع سياسي لاعلاقة له بالاختلاف في النص وشرحه ..
هذا يعود للخمسة عشر قرنا إلى الوراء، ليثبت بالأحاديث والآيات أنه أحق بالخلافة، وآخر يعترضه بنفس الأحاديث والآيات أحيانا، ليثبت أنه أحق بالخلافة. ومازال الصراع والقتال يحصد الأرواح البريئة، ويزيل العمران، باسم من هو أحق بالخلافة، حتّى أن أحد الأمريكيين اندهش وضحك للأذقان، حين علم أن الأشخاص المذكورون يعودون لخمسة عشر قرنا، وهو الذي كان يعتقد أن هذا جمهوري والآخر ديمقراطي، فلم يصدق كيف يمكن لصراع على السلطة أن يمتد كل هذه القرون، ومازال يشتد ضراوة مع امتلاك الأسلحة والتحالفات.
وآخر من أجل أن يبرر للسلطان أن يفعل مايشاء، يقول إنه لايوجد أحاديث نبوية تؤكد على الانتخابات، ليبرر لسلطانه عدم أحقية الانتخابات.
وآخر ينفي وجود أحاديث تدل على الشورى، لأنه في نظره الملك والحكم له وحده دون غيره، ودون أن يشاور أحدا.
فالأول بالنسبة له التوريث في الحكم من القرآن، والثاني التوريث في الحكم من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، التي ورثها من بعده فلان وفلان، لكن اغتصبه في نظره فلان وفلان.
ولأجل البقاء في السلطة والحكم بأيّ ثمن، وإزالة الآخر من الحكم بأيّ ثمن، طبعت كتب تحتوي على أحاديث نبوية تؤيد فريق دون الآخر بأحقيته في الملك والتسيير على حساب الآخر.
إن إستغلال الأحاديث النبوية لأغراض سياسية، جعل أصحابها يحتكرون الفهم والشرح، ويحصرونه في فئة قليلة من الأشخاص والكتب، ولا يعترفون بما دونهم. بل إن هذا الاستغلال السياسي للدين، أقام لنفسه دولة تنادي بأنها أحق بالملك والخلافة، وبالتالي أحق بفهم الأحاديث النبوية وتفسيرها، والويل بعدها لمن خالف شيخ السلطان.
إحتكار فهم الأحاديث: هناك فريق لم يتطرق إليه الأستاذ مصطفى إطلاقا، ونعاني من ويلاته، وكتبنا في شأنه الكثير والكثير من المقالات، أرجو من الأستاذ مصطفى أن يوافقني فيه، ويمد لي يد المساعدة في شأنها، والنصح لأجلها ..
هذه الفرقة بالنسبة لها، الحديث الصحيح ماصححه فلان بعينه، والحديث الضعيف ماضعفه نفس الشخص بعينه، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال، مخالفته أو نقده أو تصحيح ضعيفه، أو تضعيف صحيحه. فهو بالنسبة لهم أفضل من البخاري ومسلم ورواة الحديث. وأثناء زيارتي هذا العام، للمعرض الدولي للكتاب، وجدت كتابا بعنوان: "صحيح صحيح البخاري". مايراه هذا الشخص هو الصحيح، سواء من ناحية الصحة أو الكذب. ونفس الأمر ينطبق على كتب التراث العريقة في الحديث.
منذ يومين، قال صاحب المكتبة، حين اقتنيت كتاب "الروض الفائق في المواعظ والرقائق"، أن الزائرين الجدد للمكتبة ، يختلفون عنكم كثيرا. فهو يسألك قائلا، هل الكتاب محقق!!. و"تحقيق!" الكتاب في نظره، أن الأحاديث المروية في الكتاب، لابد أن تكون حسب مايراه "الشيخ المحدث" من صحة وضعف.
فهؤلاء لايرفضون الأحاديث ولا يقبلونها ، إنما يرفضون مارفضه شيخهم، ويقبلون مايقبله شيخه. فأنا وأنت بالنسبة لهم ضالين منحرفين. وهذه الظاهرة تفشت وتغلغلت بين أفراد المجتمع، وألغت كل مايخالفها ، ولو كان حسنا نافعا.
الإمام مالك والأحاديث: إن التعصب لمذهب أو شخص ممقوت مذموم، وإليك سيّدنا الإمام مالك، كيف أنه لم يتعصب لرأي ولم يبع دينه لدنيا السلطان، حين طلب منه أن يفرض الموطأ على الناس. فيقول في شأنه العالم الفقيه المغربي سعيد الكملي في شرحه للموطأ، فيما ينقله عن سيدّنا الإمام مالك في طريقته الصارمة والدقيقة في البحث عن الأحاديث، وطريقة التعامل معها، قوله ..
رأيت في هذا البلد أهل فضل وصلاح، ولم آخذ منه شيئا ، لأنهم لايعرفون مايحدثون. وأدركت 70 رجلا، يُحدّثُ عن رسول الله، وليس بينهم وبين رسول الله إلا رجل واحد، لم آخذ منهم، لأنهم لم يكونوا من هذا الشأن. وحين جاء الزهري، كنا نزدحم عنده، لأنه من أصحاب الشأن. وكان الرجل يجلس يحدّث اليوم كلّه ولا نأخذ عنه شيئا، لأنه لم يكن من هذا الشأن.
خلاصة: إن أيّ إختلاف في الأرض وعلى مدى الدهر، يمكن حلّه وإيجاد مخرج مشرف لأصحابه، لكن حين يلبس الخلاف عباءة الدين وبرنوس السياسة، فإن دمارا سيحل وخرابا سيقع وأنفسا طاهرة ستزهق.
والمتأمل في حياة الأمة على مدار القرون، يجد أن الخلاف صنيعة سلطان ، ومن رضي لنفسه أن يكون في فلكه وخادما له، لينال دنيا باسم الدين، ويحارب دينا باسم السياسة.
وأصبح واضحا عبر الحلقات الخمس من سلسلة " مع مصطفى في تعريف المصطفى"، أن خلاف قرون لايعالج بأسطر، لكن إتفاق يوم واحد تفسده الأطماع السياسية، ناهيك عن خلاف الأزمنة.
هذه محاولة من صاحب الأسطر، سعى ليقرّب الفهم قدر استطاعته، ويفهم الآخر بالقدر الذي تسمح به قراءاته وثقافته ونشأته.
وإن التطرق لمواضيع مثيرة، يحتاج لجرأة معقولة ، وسعة صدر، وصفاء قلب، وإطّلاع لمصادر الذات ومرجع الآخر، ونية صادقة في الاستماع والتواصل. فتحية لك أيها الأستاذ مصطفى العمري، ووفقك الله لخدمة لما يقرّب ويزيد المبهم وضوحا.