قال ابنُ عباس رضي الله عنه: (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض) رواه الترمذي.
وعن جابر رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم "دخَل مكَّةَ ولِواؤهُ أَبيضُ) رواه أَبو داود.
يقول السرخسي رحمه الله في شرح السير الكبير: (وإنّما اُستُحِبَّ في الراياتِ السوادُ لِأنَّهُ عَلَمٌ لأَصحابِ القتال، وكلُّ قومٍ يُقَاتلون عندَ رايتهمْ، وإذا تفرَّقوا في حالِ القتال يتمكَّنُون مِنْ الرُّجوع إلى رايَتهمْ، والسَّوادُ في ضوْء النَّهار أَبْيَنُ وأَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ خُصُوصًا في الْغُبَارِ. فلهذا اُسْتُحِبَّ ذلك. فأَمَّا مِنْ حَيثُ الشَّرعُ فلا بأْس بِأَنْ تُجْعَلَ الراياتُ بِيضًا أَو صفرًا أَو حُمْرًا، وإِنَّما يُخْتَارُ الْأبيَضُ في اللِّوَاءِ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحبَّ الثِّيابِ عِنْدَ اللَّه تعالى الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْياؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فيها موْتاكُمْ". واللِّواءُ لا يكونُ إلَّا واحدًا في كُلِّ جيْشٍ، ورُجوعُهُمْ إليهِ عنْدَ حاجَتهمْ إلى رَفْعِ أُمورهِمْ إلى السُّلْطَانِ. فَيُخْتَارُ الأَبيَضُ لذلكَ ليَكُونَ مُمَيَّزًا مِنْ الرَّاياتِ السُّودِ الَّتي هيَ للْقُوَّادِ).
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (وكانت له راية سوداء يقال لها: العُقاب، وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال: رأيتُ راية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفراء، وكانت له ألوية بيضاء، وربما جعل فجها الأسود).
الأحاديث الواردة فيها:
يقول ابن القيم رحمه الله: (وكان يرتِّبُ الجيش والمقاتلة، ويجعلُ في كل جنبةٍ كُفْئاً لها، وكان يُبارَزُ بين يديه بأمرِهِ، وكانَ يَلُبَسُ لِلحرب عُدَّتَه، ورُبَّمَا ظاهر بين دِرْعَيْنِ، وكان له الألويةُ والرايات.. وكان يرتب الصفوف ويُعَبِّئُهُم عند القتال بيده، ويقول: "تقدَّم يا فلان، تأخَّر يا فلان" وكان يستحب للرجُلِ منهم أن يُقاتل تحت راية قومِه).
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أن قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنه وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل.
وتحت باب " أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح " قال: (عن هشام عن أبيه قال: لما سار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً؛ خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه، لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل، حتى ينظر إلى المسلمين". فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: مالي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان.. اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الدمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال؟"، قال: كذا وكذا، فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، يوم تكسى فيه الكعبة". قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟).
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب - وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان - ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)، وفي لفظ: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (فدنا العدوُّ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبَّأ المسلمون ثم اقتتلوا والرايةُ في يد زيدِ بن حارثة، فلم يزل يُقاتل بها حتى شَاطَ في رماح القوم وخرَّ صرِيعاً، وأخذها جعفرٌ، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتالُ اقتحم عن فرسه فعقرَها ثم قاتَل حتَّى قُتِلَ، فكان جعفر أوَّل مَن عَقَرَ فرسَه في الإسلامِ عند القتال، فقُطِعَتْ يمينُه فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه فاحتضن الراية حتى قُتِلَ وله ثلاث وثلاثون سنة، ثم أخذها عبدُ الله بن رَوَاحةَ وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزِلُ نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل، فأتاه ابنُ عم له بعَرق من لحم فقال: شُدّ بها صُلْبَك، فإنك قد لقيتَ في أيَّامِكَ هذِهِ ما لقيت، فأخذها مِن يده، فانتهس منها نهسة، ثم سمع الحَطْمَةَ في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه مِن يده، ثم أخذ سيفه وتقدَّم، فقاتل حتَّى قُتِلَ، ثم أخذ الراية ثابتُ بن أقْرَم أخو بني عَجلان، فقال: يا معشر المسلمين؛ اصطلحُوا على رجل منكم، قالوا: أنتَ، قال: ما أنا بفاعلٍ، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد، فلما أخذ الرايةَ دافع القومَ وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين وانصرف بالناس"، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي ابن أبي طالب". فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه". فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحد خير لك من أن يكون لك حمر النعم").
وفي زاد المعاد أن النبي صلى الله عليه وسلم "حين انصرف من خيبر إلى وادي القُرَى وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمي، وهم على غير تعبئةٍ فعبَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لِلقتال وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعدِ بْنِ عُبادة ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سَهل بن حُنيف، ورايةً إلى عبَّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام فقتله، ثم برز آخرُ فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه عليُّ بن أبى طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ دعا مَن بقي إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّي بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنّمه اللهُ أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً".
وفيه أيضاً أنه حين "قَدِمَ عليه صلى الله عليه وسلم وفد صُداء لما انصرف من الجِعْرَانَةِ؛ بعث بعوثاً وهيأ بعثاً استعمل عليه قيسَ بنَ سعدِ بن عبادة، وعقد له لواءً أبيض ودفع إليه رايةً سوداء، وعسكر بناحية قناة في أربعمائةٍ مِن المسلمين".
الفوائد والأحكام المستفادة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: (وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب)، وقد تقدم حديث أنس: (أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب.. الحديث).
وقال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين شعاراً وللأوس شعاراً وللخزرج شعاراً وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية عام الفتح فعقد للقبائل قبيلةً قبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كلُّ لواء لأهله وكلُّ هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها وتخفُّ المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك؛ لأن في تفريقهم إذا أريد والأمرُ مؤنةٌ عليهم وعلى واليهم وهكذا أحبُّ للوالي أن يضع ديوانه على القبائل ويستظهر على من غاب عنه ومن جهل ممن يحضره من أهل الفضل من قبائلهم).
وقال الشوكاني رحمه الله عن القتال تحت راية قومه في كتاب نيل الأوطار: (إنما كان ذلك مشروعًا لما يتكلفه الإنسان من إظهاره القوة والجلادة إذا كان بمرأى من قومه ومسمع بخلاف ما إذا كان في غير قومه فإنه لا يفعل كفعله بين قومه لما جبلت عليه النفوس من محبة ظهور المحاسن بين العشيرة وكراهة ظهور المساوئ بينهم ولهذا أفرد صلى اللّه عليه وآله وسلم كل قبيلة من القبائل التي غزت معه غزوة الفتح بأميرها ورايتها كما يحكي ذلك كتب الحديث والسير).
ويقول ابن القيم رحمه الله عن فقه قصة وفد صُداء: (فيها استحبابُ عقد الألوية والرايات للجيش، واستحبابُ كـونِ اللِّواء أبيض، وجواز كونِ الراية سوداء مِن غير كراهة).
مما تقدم يتبين لنا أهمية الرايات وحرص النبي صلى الله عليه وسلم عليها بل وتضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه من أجل ألا تسقط راية الإسلام كما مر أنه قاتل بها حتى قُطِعَتْ يمينُه، فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه، فاحتضن الراية حتى قُتِلَ ولذا سُمّي جعفر الطيار وأيضاً تنافس الصحابة أيهم يعطى الراية - يومَ خيبر - دليلٌ على أهميتها وشرفها ومنزلتها في النفوس وإعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لأحد أصحابه دليلٌ على محبة الله ورسوله له ومحبته لله ورسوله.
والراية لها جانبان: الجانب الحسي وهو ماسبق في التعريف، والجانب المعنوي وهو المنهج الذي تحمله والهدف والغاية الذي تريد الوصول إليه من نشرٍ للإسلام ورفعٍ للظلم ومدافعةٍ للكافرين الأصليين منهم والمرتدين، وهي عنوان وشارة لأي دعوة فبها تتبين الدعوات وتتمايز الصفوف وقد حرص الإسلام على وضوح المنهج وصفاء الراية من أيِّ شائبة أو اعوجاج.
فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيسيرون إليكم على ثمانين غاية. قلت: وما الغاية؟ قال: الراية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا، وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها دمشق) رواه أحمد.
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: (غاية أي راية، وسميت بذلك لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف).
فالراية غاية للمتبعين يقفون حيث وقفت فالقتال مربوطٌ بالراية التي يُقاتلُ تحتها فهي تحدد المقصد لأن السائر تحتها سيتحرك حيث تحركت ويقف حيث وقفت ويمتثل أوامرها بالصدور والورود لا يتعداها ولا يخالفها في صغير ولا كبير فنحن نستطيع الحكم على الراية بمعرفة الغاية ونعرف الغاية بمعرفة الراية لأن الراية الظاهرة هي مظهر المقصد الخفي، والغاية المعلنة باللفظ والتصريح هي التي تحدد لنا الراية التي يقاتل المرء تحتها فلابد أن تكون الراية خالية من الجاهلية والعصبية وأن تكون واضحة غير عمّية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، أو يدعوا إلى عصبية أو ينصر عصبية، فقتل، فَقِتْلَةٌ جاهلية) رواه مسلم.
والمقصود بالعمية كما قال النووي رحمه الله: (قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه، كتقاتل القوم للعصبية) أ.هـ
وعن جابر رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم "دخَل مكَّةَ ولِواؤهُ أَبيضُ) رواه أَبو داود.
يقول السرخسي رحمه الله في شرح السير الكبير: (وإنّما اُستُحِبَّ في الراياتِ السوادُ لِأنَّهُ عَلَمٌ لأَصحابِ القتال، وكلُّ قومٍ يُقَاتلون عندَ رايتهمْ، وإذا تفرَّقوا في حالِ القتال يتمكَّنُون مِنْ الرُّجوع إلى رايَتهمْ، والسَّوادُ في ضوْء النَّهار أَبْيَنُ وأَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ خُصُوصًا في الْغُبَارِ. فلهذا اُسْتُحِبَّ ذلك. فأَمَّا مِنْ حَيثُ الشَّرعُ فلا بأْس بِأَنْ تُجْعَلَ الراياتُ بِيضًا أَو صفرًا أَو حُمْرًا، وإِنَّما يُخْتَارُ الْأبيَضُ في اللِّوَاءِ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحبَّ الثِّيابِ عِنْدَ اللَّه تعالى الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْياؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فيها موْتاكُمْ". واللِّواءُ لا يكونُ إلَّا واحدًا في كُلِّ جيْشٍ، ورُجوعُهُمْ إليهِ عنْدَ حاجَتهمْ إلى رَفْعِ أُمورهِمْ إلى السُّلْطَانِ. فَيُخْتَارُ الأَبيَضُ لذلكَ ليَكُونَ مُمَيَّزًا مِنْ الرَّاياتِ السُّودِ الَّتي هيَ للْقُوَّادِ).
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (وكانت له راية سوداء يقال لها: العُقاب، وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال: رأيتُ راية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفراء، وكانت له ألوية بيضاء، وربما جعل فجها الأسود).
الأحاديث الواردة فيها:
يقول ابن القيم رحمه الله: (وكان يرتِّبُ الجيش والمقاتلة، ويجعلُ في كل جنبةٍ كُفْئاً لها، وكان يُبارَزُ بين يديه بأمرِهِ، وكانَ يَلُبَسُ لِلحرب عُدَّتَه، ورُبَّمَا ظاهر بين دِرْعَيْنِ، وكان له الألويةُ والرايات.. وكان يرتب الصفوف ويُعَبِّئُهُم عند القتال بيده، ويقول: "تقدَّم يا فلان، تأخَّر يا فلان" وكان يستحب للرجُلِ منهم أن يُقاتل تحت راية قومِه).
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أن قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنه وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل.
وتحت باب " أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح " قال: (عن هشام عن أبيه قال: لما سار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً؛ خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه، لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل، حتى ينظر إلى المسلمين". فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: مالي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان.. اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الدمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال؟"، قال: كذا وكذا، فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، يوم تكسى فيه الكعبة". قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟).
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب - وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان - ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)، وفي لفظ: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (فدنا العدوُّ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبَّأ المسلمون ثم اقتتلوا والرايةُ في يد زيدِ بن حارثة، فلم يزل يُقاتل بها حتى شَاطَ في رماح القوم وخرَّ صرِيعاً، وأخذها جعفرٌ، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتالُ اقتحم عن فرسه فعقرَها ثم قاتَل حتَّى قُتِلَ، فكان جعفر أوَّل مَن عَقَرَ فرسَه في الإسلامِ عند القتال، فقُطِعَتْ يمينُه فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه فاحتضن الراية حتى قُتِلَ وله ثلاث وثلاثون سنة، ثم أخذها عبدُ الله بن رَوَاحةَ وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزِلُ نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل، فأتاه ابنُ عم له بعَرق من لحم فقال: شُدّ بها صُلْبَك، فإنك قد لقيتَ في أيَّامِكَ هذِهِ ما لقيت، فأخذها مِن يده، فانتهس منها نهسة، ثم سمع الحَطْمَةَ في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه مِن يده، ثم أخذ سيفه وتقدَّم، فقاتل حتَّى قُتِلَ، ثم أخذ الراية ثابتُ بن أقْرَم أخو بني عَجلان، فقال: يا معشر المسلمين؛ اصطلحُوا على رجل منكم، قالوا: أنتَ، قال: ما أنا بفاعلٍ، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد، فلما أخذ الرايةَ دافع القومَ وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين وانصرف بالناس"، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي ابن أبي طالب". فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه". فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحد خير لك من أن يكون لك حمر النعم").
وفي زاد المعاد أن النبي صلى الله عليه وسلم "حين انصرف من خيبر إلى وادي القُرَى وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمي، وهم على غير تعبئةٍ فعبَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لِلقتال وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعدِ بْنِ عُبادة ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سَهل بن حُنيف، ورايةً إلى عبَّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام فقتله، ثم برز آخرُ فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه عليُّ بن أبى طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ دعا مَن بقي إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّي بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنّمه اللهُ أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً".
وفيه أيضاً أنه حين "قَدِمَ عليه صلى الله عليه وسلم وفد صُداء لما انصرف من الجِعْرَانَةِ؛ بعث بعوثاً وهيأ بعثاً استعمل عليه قيسَ بنَ سعدِ بن عبادة، وعقد له لواءً أبيض ودفع إليه رايةً سوداء، وعسكر بناحية قناة في أربعمائةٍ مِن المسلمين".
الفوائد والأحكام المستفادة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: (وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب)، وقد تقدم حديث أنس: (أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب.. الحديث).
وقال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين شعاراً وللأوس شعاراً وللخزرج شعاراً وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية عام الفتح فعقد للقبائل قبيلةً قبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كلُّ لواء لأهله وكلُّ هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها وتخفُّ المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك؛ لأن في تفريقهم إذا أريد والأمرُ مؤنةٌ عليهم وعلى واليهم وهكذا أحبُّ للوالي أن يضع ديوانه على القبائل ويستظهر على من غاب عنه ومن جهل ممن يحضره من أهل الفضل من قبائلهم).
وقال الشوكاني رحمه الله عن القتال تحت راية قومه في كتاب نيل الأوطار: (إنما كان ذلك مشروعًا لما يتكلفه الإنسان من إظهاره القوة والجلادة إذا كان بمرأى من قومه ومسمع بخلاف ما إذا كان في غير قومه فإنه لا يفعل كفعله بين قومه لما جبلت عليه النفوس من محبة ظهور المحاسن بين العشيرة وكراهة ظهور المساوئ بينهم ولهذا أفرد صلى اللّه عليه وآله وسلم كل قبيلة من القبائل التي غزت معه غزوة الفتح بأميرها ورايتها كما يحكي ذلك كتب الحديث والسير).
ويقول ابن القيم رحمه الله عن فقه قصة وفد صُداء: (فيها استحبابُ عقد الألوية والرايات للجيش، واستحبابُ كـونِ اللِّواء أبيض، وجواز كونِ الراية سوداء مِن غير كراهة).
مما تقدم يتبين لنا أهمية الرايات وحرص النبي صلى الله عليه وسلم عليها بل وتضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه من أجل ألا تسقط راية الإسلام كما مر أنه قاتل بها حتى قُطِعَتْ يمينُه، فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه، فاحتضن الراية حتى قُتِلَ ولذا سُمّي جعفر الطيار وأيضاً تنافس الصحابة أيهم يعطى الراية - يومَ خيبر - دليلٌ على أهميتها وشرفها ومنزلتها في النفوس وإعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لأحد أصحابه دليلٌ على محبة الله ورسوله له ومحبته لله ورسوله.
والراية لها جانبان: الجانب الحسي وهو ماسبق في التعريف، والجانب المعنوي وهو المنهج الذي تحمله والهدف والغاية الذي تريد الوصول إليه من نشرٍ للإسلام ورفعٍ للظلم ومدافعةٍ للكافرين الأصليين منهم والمرتدين، وهي عنوان وشارة لأي دعوة فبها تتبين الدعوات وتتمايز الصفوف وقد حرص الإسلام على وضوح المنهج وصفاء الراية من أيِّ شائبة أو اعوجاج.
فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيسيرون إليكم على ثمانين غاية. قلت: وما الغاية؟ قال: الراية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا، وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها دمشق) رواه أحمد.
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: (غاية أي راية، وسميت بذلك لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف).
فالراية غاية للمتبعين يقفون حيث وقفت فالقتال مربوطٌ بالراية التي يُقاتلُ تحتها فهي تحدد المقصد لأن السائر تحتها سيتحرك حيث تحركت ويقف حيث وقفت ويمتثل أوامرها بالصدور والورود لا يتعداها ولا يخالفها في صغير ولا كبير فنحن نستطيع الحكم على الراية بمعرفة الغاية ونعرف الغاية بمعرفة الراية لأن الراية الظاهرة هي مظهر المقصد الخفي، والغاية المعلنة باللفظ والتصريح هي التي تحدد لنا الراية التي يقاتل المرء تحتها فلابد أن تكون الراية خالية من الجاهلية والعصبية وأن تكون واضحة غير عمّية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، أو يدعوا إلى عصبية أو ينصر عصبية، فقتل، فَقِتْلَةٌ جاهلية) رواه مسلم.
والمقصود بالعمية كما قال النووي رحمه الله: (قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه، كتقاتل القوم للعصبية) أ.هـ