«الحرب الثالثة» ليست حلا للأزمة الاقتصادية العالمية
محمد عبد الحكم دياب
Jan 07, 2017
دخلنا إلى عام جديد، ونحن متطلعون إلى الحرية والعدل والسلام والاستقرار، ومع ذلك فما نراه ونسمعه يشير إلى عكس ذلك؛ فالنيران ما زالت مشتعلة حولنا، ونهر الدماء ما زال جاريا بيننا؛ حال لا يطمئن. وإذا ما دققنا في عنوان هذا الموضوع فقد نجده خادعا.. ولنبدأ بالأزمة الاقتصادية، فنجد أن مسؤولية حدوثها تتحمله نظم وسياسات غبية لدول غنية ومهيمنة ومتوحشة.. وتعمل على حلها بما يخدم نفس النظم والسياسات والدول الصانعة لها، وتتعيش عليها. وتمرست على إعادة أنتاجها بشكل دوري ومنتظم، ولذلك نظريات وقواعد تسير عليها عملية إعادة الانتاج والإحياء. ومتوسطو الحال والفقراء يعيشون هذه الأزمات ويعانون ويلاتها، ويدفعون ثمنها من مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وصحتهم وحياتهم، ومستقبل أبنائهم!.
ما علينا؛ كثيرا ما يلجأ معشر الكتاب والمحللين إلى التاريخ لعقد مقارنة بين الأزمة الراهنة وبين الكساد العظيم؛ سنة 1929، وإن كان لا يقارن بما يحدث اليوم، والسبب هو وجود عامل أثر في كل شيء تقريبا؛ هو «العامل الأمريكي»، وبرز مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العظمى (الأولى)، وخروجها من عزلتها. وتقديم شروطها إلى مؤتمر الصلح وتسوية آثار الحرب، الذي عقد في باريس بعدها، وكانت أربعة عشر شرطا عُرفت بمبادئ (الرئيس الأمريكي) ويلسون؛ لإحلال السلام وإعمار أوروبا. وفاز الحصان الأمريكي بأقل تكلفة في أقصر سباق.
وفي الحرب العالمية (الثانية)، صارت أمريكا أكثر استشعارا بالقوة، ودخلت الحرب دفاعا عن مصالح شركاتها الكبرى؛ المنتجة للسلاح والصلب والطاقة، وكانت قد واجهت منافسة أوروبية وآسيوية، وتحديدا من ألمانيا واليابان، الذي تورط في ضرب «بيرل هاربر»؛ معطيا المبرر لاشتراك الولايات المتحدة في الحرب.
وأضف إلى ذلك فإن آليات وأدوات النظرية الرأسمالية الكلاسيكية؛ تعتمد في تعاملها مع الأزمات على إشعال الحروب، واعتبارها خيارا أولَ، وغالبا ما يكون خيارا وحيدا لإنتشال الاقتصاد المأزوم، فالحروب تزيد من معدل الإنفاق العام، وتتيح فرصا واسعة لتطبيق نظرية كنز التي وضعها جون مينارد كينز؛ اقتصادي انكليزي شهير في القرن العشرين، واكتسب مكانته من جهوده وعمله على إنقاذ الرأسمالية من نفسها؛ عن طريق تدخل الدولة، التي عليها اتخاذ إجراءات مالية ونقدية تحد من ضغط الركود وتخفف من وطأة الكساد. وتعتمد نظرية كينز على دور الدولة من خلال الضرائب، وتعوّل عليها في تطبيق سياسات مالية ونقدية تضبط ما يعرف في علم الاقتصاد بالدورات الاقتصادية. مع العلم أن أمريكا نجحت في جعل العمل العسكري استثمارا حقق لها مكاسب مالية طائلة منذ القرن التاسع عشر.
وتقاوم أمريكا شيخوخة اقتصادها والاقتصاد الرأسمالي عموما، وهي التي استمتعت بالانفراد بالقوة المطلقة لعشرين عاما؛ ابتداء من مقدمات حرب الخليج الثانية؛ المعروفة أمريكيا بـ»عاصفة الصحراء»؛ فيما بين آب/أغسطس 1990؛ تاريخ غزو الكويت، وإخراج القوات العراقية منها في كانون الثني/يناير 1991، وانتهاء بثورات العرب سنة 2011.
لم يعد استثمار العمل العسكري الأمريكي في جني الأرباح الضخمة ممكنا، فقد وصل معدل الإنفاق العسكري في العراق وأفغانستان حوالي مليار دولار يوميا، وذلك أثقل كاهل الخزانة الأمريكية، ورفع من حجم المديونية الخارجية بشكل غير مسبوق، وأسهم في استفحال الأزمة المالية العالمية الحالية، ويُقدر الإنفاق العسكري الأمريكي بـ40 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
وفي نفس الوقت زاد الاتحاد الروسي من إنفاقه العسكري، وزاد من الصرف على تطوير صناعة السلاح بعد خفض إنفاقه الحكومي. وتحتل روسيا المرتبة الثانية بعد أمريكا في القوة العسكرية.
وتأتي مشكلة استعادة الاتحاد الروسي لدوره ولاعب رئيسي على الساحات الدولية والإقليمية والعربية؛ منذ بداية الألفية الثالثة، وسد فراغا كان له أثر سلبي على «القارة العربية» ومنطقة الشرق الأوسط، التي استعادت أهميتها في الاستراتيجية الروسية، وبعد وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين زار «القارة العربية» للمرة الأولى عام 2004، ثم زار القاهرة ورام الله وتل أبيب (إبريل 2005)، وعززت السياسة الخارجية الروسية وضعها، وأحدثت توازنا أنهى استفراد واشنطن بالمنطقة والعالم.
وهذا بجانب أثر توافق المصالح الروسية والصينية والإيرانية والسورية، والتركية مؤخرا. ولنتصور نجاح الهدنة الحالية في إعادة العلاقات التركية السعودية إلى ما كانت عليه، ولو استقامت معها العلاقة مع سوريا، وتعاونوا معا في مداواة جراح العراق وسوريا واليمن وليبيا. وأغلقوا صفحات الدم، الذي لطخ التاريخ العربي والإسلامي الراهن، في معارك خاسرة لكل الأطراف؛ لن ينتصر فيها أحد غير الدولة الصهيونية!.
«العامل الأمريكي» كان حاسما حتى الماضي القريب، وتراجع إلى حد كبير؛ بسبب متغيرات وتحولات؛ قد تجعل من الاحتفاظ بقوة الجيش المصري، ومن تماسك الجيش السوري؛ عوامل سلبية تخصم من قدرة الحسم الأمريكية، وهي عوامل تضاف إلى القصور المترتب على «الشيخوخة العسكرية» والسكانية وهذا يُبقي «العامل الأمريكي» مراهنا على:
1- استنزاف «القارة العربية»؛ بالحصار، والمقاطعة، والعزل، وحرب العملات، والحملات النفسية، واستمرار عسكرة المعارضة الطائفية والمذهبية؛ والتمادي في مخطط الفوضى والتقسيم، وإحلال قادة العشائر وأمراء الطوائف وشيوخ المذاهب وزعماء المناطق وميليشياتهم محل سلطات الدولة وأجهزتها وجيشها.
والحرب العالمية (الثالثة)، التي قال عنها كيسنجر في 2011، وربط خبير استراتيجي روسي بدايتها بدخول قوات حلف شمال الأطلسي (النيتو) إلى ليبيا، وإذا ما تطورت واتسع نطاقها، فلن تسعفها أسلحة أو معارك عسكرية تقليدية، وستحتاج أسلحة نوعية للدمار الشامل. بجانب ما توفره «الشيخوخة» الاقتصادية والعسكرية من عجز عن الصمود أمام القوى الجديدة والصاعدة؛ مثل الصين وروسيا والهند وإيران، ومن الممكن أن تكون هذه القوى أكثر تأثيرا وقدرة إذا ما توقفت الحروب الأهلية والصراعات البينية العربية، وإذا ما قامت تركيا ومعها العالم الإسلامي بانتشال الجميع من مستنقع العنف والدم، الذي غرقوا فيه، وهو مستنقع بلا قرار!!.
والخلاصة فإن الاعتماد على حل الأزمة الاقتصادية العالمية بعمل عسكري ضرب من الجنون، وفقدان الرشد وانعدام الأهلية، وغير مأمون العواقب. فقانون الحروب منذ بدء الخليقة هو أن الإنسان قادر على إعلان الحرب وإشعالها، ولم يحدث أن استطاع أحد أن ينهيها ويحدد موعدا لإيقافها في الوقت الذي يريده، فما بالنا بحرب تعتمد على الأسلحة النوعية؛ المعروفة وغير المعروفة.. وقد تكون الحرب الأقصر على مدى التاريخ!!.
وعلى العالم أن يبحث عن طريق آخر غير الانتحار، الذي يفوز فيه حفارو القبور ومتعهدو الجنازات.. وفي ذلك خسارة العالم.. كل العالم.. ويصبح أثرا بعد عين!!
محمد عبد الحكم دياب
Jan 07, 2017
دخلنا إلى عام جديد، ونحن متطلعون إلى الحرية والعدل والسلام والاستقرار، ومع ذلك فما نراه ونسمعه يشير إلى عكس ذلك؛ فالنيران ما زالت مشتعلة حولنا، ونهر الدماء ما زال جاريا بيننا؛ حال لا يطمئن. وإذا ما دققنا في عنوان هذا الموضوع فقد نجده خادعا.. ولنبدأ بالأزمة الاقتصادية، فنجد أن مسؤولية حدوثها تتحمله نظم وسياسات غبية لدول غنية ومهيمنة ومتوحشة.. وتعمل على حلها بما يخدم نفس النظم والسياسات والدول الصانعة لها، وتتعيش عليها. وتمرست على إعادة أنتاجها بشكل دوري ومنتظم، ولذلك نظريات وقواعد تسير عليها عملية إعادة الانتاج والإحياء. ومتوسطو الحال والفقراء يعيشون هذه الأزمات ويعانون ويلاتها، ويدفعون ثمنها من مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وصحتهم وحياتهم، ومستقبل أبنائهم!.
ما علينا؛ كثيرا ما يلجأ معشر الكتاب والمحللين إلى التاريخ لعقد مقارنة بين الأزمة الراهنة وبين الكساد العظيم؛ سنة 1929، وإن كان لا يقارن بما يحدث اليوم، والسبب هو وجود عامل أثر في كل شيء تقريبا؛ هو «العامل الأمريكي»، وبرز مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العظمى (الأولى)، وخروجها من عزلتها. وتقديم شروطها إلى مؤتمر الصلح وتسوية آثار الحرب، الذي عقد في باريس بعدها، وكانت أربعة عشر شرطا عُرفت بمبادئ (الرئيس الأمريكي) ويلسون؛ لإحلال السلام وإعمار أوروبا. وفاز الحصان الأمريكي بأقل تكلفة في أقصر سباق.
وفي الحرب العالمية (الثانية)، صارت أمريكا أكثر استشعارا بالقوة، ودخلت الحرب دفاعا عن مصالح شركاتها الكبرى؛ المنتجة للسلاح والصلب والطاقة، وكانت قد واجهت منافسة أوروبية وآسيوية، وتحديدا من ألمانيا واليابان، الذي تورط في ضرب «بيرل هاربر»؛ معطيا المبرر لاشتراك الولايات المتحدة في الحرب.
وأضف إلى ذلك فإن آليات وأدوات النظرية الرأسمالية الكلاسيكية؛ تعتمد في تعاملها مع الأزمات على إشعال الحروب، واعتبارها خيارا أولَ، وغالبا ما يكون خيارا وحيدا لإنتشال الاقتصاد المأزوم، فالحروب تزيد من معدل الإنفاق العام، وتتيح فرصا واسعة لتطبيق نظرية كنز التي وضعها جون مينارد كينز؛ اقتصادي انكليزي شهير في القرن العشرين، واكتسب مكانته من جهوده وعمله على إنقاذ الرأسمالية من نفسها؛ عن طريق تدخل الدولة، التي عليها اتخاذ إجراءات مالية ونقدية تحد من ضغط الركود وتخفف من وطأة الكساد. وتعتمد نظرية كينز على دور الدولة من خلال الضرائب، وتعوّل عليها في تطبيق سياسات مالية ونقدية تضبط ما يعرف في علم الاقتصاد بالدورات الاقتصادية. مع العلم أن أمريكا نجحت في جعل العمل العسكري استثمارا حقق لها مكاسب مالية طائلة منذ القرن التاسع عشر.
وتقاوم أمريكا شيخوخة اقتصادها والاقتصاد الرأسمالي عموما، وهي التي استمتعت بالانفراد بالقوة المطلقة لعشرين عاما؛ ابتداء من مقدمات حرب الخليج الثانية؛ المعروفة أمريكيا بـ»عاصفة الصحراء»؛ فيما بين آب/أغسطس 1990؛ تاريخ غزو الكويت، وإخراج القوات العراقية منها في كانون الثني/يناير 1991، وانتهاء بثورات العرب سنة 2011.
لم يعد استثمار العمل العسكري الأمريكي في جني الأرباح الضخمة ممكنا، فقد وصل معدل الإنفاق العسكري في العراق وأفغانستان حوالي مليار دولار يوميا، وذلك أثقل كاهل الخزانة الأمريكية، ورفع من حجم المديونية الخارجية بشكل غير مسبوق، وأسهم في استفحال الأزمة المالية العالمية الحالية، ويُقدر الإنفاق العسكري الأمريكي بـ40 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
وفي نفس الوقت زاد الاتحاد الروسي من إنفاقه العسكري، وزاد من الصرف على تطوير صناعة السلاح بعد خفض إنفاقه الحكومي. وتحتل روسيا المرتبة الثانية بعد أمريكا في القوة العسكرية.
وتأتي مشكلة استعادة الاتحاد الروسي لدوره ولاعب رئيسي على الساحات الدولية والإقليمية والعربية؛ منذ بداية الألفية الثالثة، وسد فراغا كان له أثر سلبي على «القارة العربية» ومنطقة الشرق الأوسط، التي استعادت أهميتها في الاستراتيجية الروسية، وبعد وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين زار «القارة العربية» للمرة الأولى عام 2004، ثم زار القاهرة ورام الله وتل أبيب (إبريل 2005)، وعززت السياسة الخارجية الروسية وضعها، وأحدثت توازنا أنهى استفراد واشنطن بالمنطقة والعالم.
وهذا بجانب أثر توافق المصالح الروسية والصينية والإيرانية والسورية، والتركية مؤخرا. ولنتصور نجاح الهدنة الحالية في إعادة العلاقات التركية السعودية إلى ما كانت عليه، ولو استقامت معها العلاقة مع سوريا، وتعاونوا معا في مداواة جراح العراق وسوريا واليمن وليبيا. وأغلقوا صفحات الدم، الذي لطخ التاريخ العربي والإسلامي الراهن، في معارك خاسرة لكل الأطراف؛ لن ينتصر فيها أحد غير الدولة الصهيونية!.
«العامل الأمريكي» كان حاسما حتى الماضي القريب، وتراجع إلى حد كبير؛ بسبب متغيرات وتحولات؛ قد تجعل من الاحتفاظ بقوة الجيش المصري، ومن تماسك الجيش السوري؛ عوامل سلبية تخصم من قدرة الحسم الأمريكية، وهي عوامل تضاف إلى القصور المترتب على «الشيخوخة العسكرية» والسكانية وهذا يُبقي «العامل الأمريكي» مراهنا على:
1- استنزاف «القارة العربية»؛ بالحصار، والمقاطعة، والعزل، وحرب العملات، والحملات النفسية، واستمرار عسكرة المعارضة الطائفية والمذهبية؛ والتمادي في مخطط الفوضى والتقسيم، وإحلال قادة العشائر وأمراء الطوائف وشيوخ المذاهب وزعماء المناطق وميليشياتهم محل سلطات الدولة وأجهزتها وجيشها.
والحرب العالمية (الثالثة)، التي قال عنها كيسنجر في 2011، وربط خبير استراتيجي روسي بدايتها بدخول قوات حلف شمال الأطلسي (النيتو) إلى ليبيا، وإذا ما تطورت واتسع نطاقها، فلن تسعفها أسلحة أو معارك عسكرية تقليدية، وستحتاج أسلحة نوعية للدمار الشامل. بجانب ما توفره «الشيخوخة» الاقتصادية والعسكرية من عجز عن الصمود أمام القوى الجديدة والصاعدة؛ مثل الصين وروسيا والهند وإيران، ومن الممكن أن تكون هذه القوى أكثر تأثيرا وقدرة إذا ما توقفت الحروب الأهلية والصراعات البينية العربية، وإذا ما قامت تركيا ومعها العالم الإسلامي بانتشال الجميع من مستنقع العنف والدم، الذي غرقوا فيه، وهو مستنقع بلا قرار!!.
والخلاصة فإن الاعتماد على حل الأزمة الاقتصادية العالمية بعمل عسكري ضرب من الجنون، وفقدان الرشد وانعدام الأهلية، وغير مأمون العواقب. فقانون الحروب منذ بدء الخليقة هو أن الإنسان قادر على إعلان الحرب وإشعالها، ولم يحدث أن استطاع أحد أن ينهيها ويحدد موعدا لإيقافها في الوقت الذي يريده، فما بالنا بحرب تعتمد على الأسلحة النوعية؛ المعروفة وغير المعروفة.. وقد تكون الحرب الأقصر على مدى التاريخ!!.
وعلى العالم أن يبحث عن طريق آخر غير الانتحار، الذي يفوز فيه حفارو القبور ومتعهدو الجنازات.. وفي ذلك خسارة العالم.. كل العالم.. ويصبح أثرا بعد عين!!