من سمات الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين
الطاهر المعز
تُسَيْطِر خمس شركات كُبْرى على قطاع التقنيات الدقيقة أو التكنولوجيا الرّقْمِيّة، وذات القيمة الزائدة (والأرباح) المُرتَفِعَة (آبل ومايكروسوفت وألفابيت وأمازون وفيسبوك)، وأصبحت هذه الشركات، وكُلُّها أمريكية، تُوَجِّهُ الرأسمالية وتَطْبَعُها بصبغتها الخاصة، ومن العسير منافسة هذه الشركات، خصوصًا من قِبَل الدول الفقيرة، إذ يتطلّبُ تطوير قطاع التكنولوجيا أرْضِيّة مواتية، تتضَمّنُ موارد هامة لتطوير البحث العلمي والتّقني والعلوم التّطْبِيقية، ووجود حجم ضخم من العُلماء والمُطَوِّرِين، مما يفترض ارتفاع مُسْتَوى التّعليم لدى المواطنين (الشباب كما الكبار)، وارتفع حجم ذوي المَهارات والخبرات في عديد المجالات المُرْتَبِطَة بالتكنولوجيا الدقيقة، من بينها العُلوم المسمّاة "صحيحة" والعلوم التّطبيقية، لتطبيق قواعد الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها، لتلبية احتياجات المواطنين في مجالات الحياة اليومية والطب والزراعة والصناعة وغيرها...
اقتَرَن تطوُّر الرأسمالية بتعميق الفَجْوَة بين الطبقات، وبتَشْرِيع عدم المساواة بين المواطنين، واقترنت المرحلة الإمبريالية (من تطور الرأسمالية) بتعميم هذه الفجوة على مستوى العالم، وتشريع عدم المساواة بين الدول والشعوب، وتعمقت الفجوة بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد موجة الإستقلال الشكْلي (للبلدان المُسْتَعْمَرَة) تعمّقت الفجوة، وأصبح السير على طريق التطور الرأسمالي بهدف "اللحاق" بأوروبا وأمريكا الشّمالية مُسْتَحِيلا، مما يستوجب السّيْر في طريق أخرى (الإشتراكية على سبيل المثال؟) لتحقيق أهداف بسيطة تتمثل في تطبيق الإقتصاد المُخَطّط وتوجيه الإنتاج نحو تلبِيَة احتياجات المواطنين الأساسية، وهذا لن يتحقق بدون مشاركة المواطنين في مراحل التخطيط والإنجاز وتوزيع ثمرة العمل، لكي يستفيد المجتمع من قُدُرات المواطنين، كل في ميدانه، ولكي يستفيد المواطنون من الجُهْد الجَماعي لتلبية حاجاتهم المادية والثقافية والذهنية وغيرها...
تتميز رأسمالية القرن الواحد والعشرين بمحاولة القضاء على أي شكل من أشكال المنافسة، دون خوض حُرُوب مُسَلّحَة بالضّرورة، فالحرب التجارية التي أعلنتها الولايات المتحدة، تستخدم التّهديد بالقوة العسكرية، لكنها تستخدم بالدّرجة الأولى الدّولار كعملة التبادل التجاري العالمي وعملة التحويلات المصرفية العالمية واحتياطي المصارف المركزية، وتستخدم الولايات المتحدة هيمنتها على النظام المالي والمصرفي العالمي، واتساع سوقها الداخلي ليستوعب صادرات العالم، وفي مقدّمتها صادرات الصّين، وينطبق هذا الشكل من الإحتكار على الشركات الكبرى ومعظمها أمريكية المَنْشَأ، من مختبرات وشركات العقاقير إلى صنماعة الطائرات، ومن الزراعة (الحبوب) إلى المَعْلُوماتِيّة والتقنيات العالية، فالحرب دائرة بين "بوينغ" و"آير باص"، للهيمنة على سوق الطيران (المدني والحربي) العالمي، وتُهيمن "آبل" على سوق الحواسيب والهواتف المحمولة، وتمكنت "غوغل" من القضاء على شركة "ياهو" عندما أصبحت تُهَدِّدُ بتقاسم السوق معها، ويتميز قطاع المعلوماتية والتقنيات العالية بارتفاع أرباحه وانخفاض عدد العاملين به، أي إنه قطاع لا يخلق وظائف كثيرة، ويدر أرباحًا وافرة على مالكي الأسهم، وهو أحد أوجه اتساع الفجوة بين الفقراء والأثرياء في العالم، فالعمل لا يُمَكِّنُ من تلبية الحاجات الأساسية للبشر ( تشتر الحكومة الأمريكية فائض الزراعة من كبار الفلاحين، وتوزع قسائم الغذاء على العُمال الفُقَراء، لكي لا يُطالبوا بزيادة الرواتب ولكي لا يثُورُوا)، وارتفع نصيب رأس المال من الإنتاج فيما انخفض نصيب العمل، مما جعل 1% من سكان العالم يحتكرون أكثر من 80% من الثروة التي لم يُساهموا في إنتاجها، كما أن مُحْتَكِرِي الثروة لا يستثمرونها في قطاعات مُنْتِجَة تُشَغِّل العُمال، بل أصبحت الدول الرأسمالية الكُبرى وشركاتها تستغل عُمال بنغلادش وفيتنام والمكسيك والمغرب وغيرها في قطاعات الصناعات المُلَوِّثَة والمُضِرة بالصحة والتي تتطلب عددا كبيرًا من العمالة غير الماهرة، برواتب مُنْخَفِضَة...
من جهة أخرى، تميزت المرحلة الإمبريالية بشكل عام، بالإعتماد على التوسّع الرأسمالي الإحتكاري، وعلى قوة السلاح في نفس الوقت، ليتمكن رأس المال من غَزْو الأسواق، ومن نهب الثّروات ومن تعميق الفَجْوة بين الدول المُهَيْمِنَة (الإمبريالية) والبلدان والشعوب الواقعة تحت الهيْمَنَة، وأصبحت الإمبريالية الأَعْظَم (الولايات المتحدة) حاليا تستخدم التكنولوجيا الحديثة لتطوير الأسلحة ووسائل التّجَسُّس، وتُشكل الأسلحة وسيلة للترهيب وللعدوان على الشعوب ولاحتلال الدول وتفْتِيتِها، كما تُشكل مبيعات السّلاح موردًا للربح، وتحاول الدول الإمبريالية احتكار صناعة السلاح، وحظر صناعتها وتطويرها على الدول المُسَمّاة "ناشئة" (يقارب عمر الحضارة الفارسية ألْفان وخمسمائة سنة، بينما نشأت الولايات المتحدة على جماجم شعوب أمريكا قبل أقل من 250 سنة)، سواء كانت أسلحة تقليدية أو غير تقليدية (كالأسلحة النّووية)، وفي حالة إيران وكوريا الشمالية، تحاول أمريكا مَنْعَهُما من امتلاك وتطْوير التقنية التي تُمكّن من إنتاج الطاقة النّوَوِية، سواء كانت لأغراض سِلْمِيّة (مَدنية) أو حربية (عسكرية)، وتُراقب الولايات المتحدة بدقة التقنيات المُسْتَخْدَمَة في إنتاج الأسلحة التي يستخدمها خُصُومُها أو أعداؤها، ولا تتردّد الحكومة الأمريكية في تهديد حُلَفَائِها و"أصدقائها" الذين يعتزمون شراء منظومة الصواريخ الدّفاعية الرّوسية "إس- 400" (كما كان الحال مع سلسلة صواريخ "سام" السوفييتية)، التي تُشَكّل عودة روسيا (وريثة الإتحاد السوفييتي) إلى منافسة الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا العسكرية (وبالتالي في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا بما يَشْمل التعليم والصناعات)، ومنافستها في سوق بيع السلاح، وتهديد "التوازن" الحالي (أو ميزان القوى العالمي) الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة...
تتخوف الولايات المتحدة من أن تتحول روسيا من حالة التّراجع التي بدأت منذ ما قبل انهيار الإتحاد السوفييتي (فترة حكم غورباتشوف، ثم يلتسين) إلى مرحلة النُّهُوض والعوْدَة إلى السّاحة الدّولية وإلى الأسواق الدولية، ليس عبر بيع النفط الخام والغاز الطبيعي فقط، وإنما أيضًا عبر تطوير صناعات الطائرات المدنية والعسكرية وعبر تطوير الأسلحة الإستراتيجية، التي تتطلب التّحكّم في التقنيات الدّقِيقَة، ولئن بقي الإقتصاد الروسي يُعاني من ضُعْف الإنتاج الصناعي، فقد تمكنت روسيا من تطوير منظومات الأسلحة الحديثة، وطورت أساليب الحرب الإلكترونية، كما أصبحت روسيا تحتل المرتبة الثانية عالمِيًّا (بنحو 22% من إجمالي المبيعات العالمية بين 2013 و 2017)، في مجال تصدير السلاح، رغم الفارق الكبير في حجم المبيعات مع الولايات المتحدة، صاحبة المرتبة الأولي (34% من المبيعات العالمية خلال نفس الفترة)، ولا تزال جُيُوش الصين والهند وفيتنام وفنزويلا والجزائر تعتمد على السلاح الرّوسي، بشكل أساسي، مما يُعَزِّزُ موقع روسيا في العالم، خصوصًا بعد قرار التّدَخّل الروسي في سوريا، واحتواء التوسّع الأمريكي في العالم...
دفعت الغطرسة الأمريكية حُكُومَتَيْ روسيا والصين إلى تكثيف التعاون بينهما، وقدّمت روسيا تنازلات للصين (كانت ترفضها منذ حوالي عشر سنوات)، بهدف زيادة التنسيق والتبادل والتعاون في مجالات النقل والطاقة والصناعات العسكرية، وتجلّى ذلك في المناورات العسكرية المُشتركة بين الجيْشَيْن "فوستوك 2018" (سبقت الإشارة إليها في حينها)، في محاولة من الدّولتين (الصين وروسيا) للبحث عن قواسم مُشْتَرَكة تُشكل لَبِنات للتحالف ضد الغطرسة الأمريكية، داخل المنظومة الرأسمالية نفسها هذه المرة، وليس تحت ذريعة "الرأسمالية ضد الإشتراكية"، وهذه إحدى أهم مميزات الوضع في بداية القرن الواحد والعشرين، حيث يُدافع المتنافسون والخصوم على أُسُس النظام الرأسمالي العالمي (حرية التجارة وفتح الحُدود أمام رأس المال والسلع...)، وغابت عن الساحة ما كان يُسَمّى "المنظومة الإشتراكية"، والقوى المنظَّمَة التي كانت تُعارض الرأسمالية (قولاً أو فِعْلاً) وتنشر خِطابًا، على مستوى عالمي، يُعارض الهيمنة الإمبريالية على الأوطان وعلى ثَرَوات الشُّعُوب...
تزامن تطور وانتشار تيارات "مناهضة العولمة" أو "الرأسمالية المُتَوَحِّشَة" (مما يُشير إلى وجود وَهْمِي لرأسمالية "غير مُتَوَحِّشَة")، وتيارات الدفاع عن البيئة (أو أَحْزاب "الخُضْر")، وانتشار المنظمات "غير الحكومية" (خاصة في البلدان الواقعة تحت الإحتلال أو الهيمنة )، مع انهيار الإتحاد السوفييتي وانهيار الأحزاب "الشيوعية" المُوالية لها وانحسار دور نقابات الأُجَراء، وجميعها مُؤشِّرات على تقهْقُر وضع الطبقة العاملة والشعوب المُقاومة للإحتلال وللإمبريالية، وتراجع الثقافة التقدمية، وتزامنت هذه المرحلة في الوطن العربي مع العدوان على العراق (بمشاركة جيوش عربية وبمباركة الإتحاد السوفييتي المُحْتَضِر)، ومع الحرب الأهلية في الجزائر لفترة عقد كامل، ومع توقيع اتفاقيات أوسلو، وغيرها من الأحداث التي لا نزال نُعاني من تأثيراتها، ويُتوقّع أن يتواصل تأثيرها السلبي على وضعنا لعدّة سنوات أخرى، اعتمادًا على ميزان القوى الحالي...
لا تنهار الإمبريالية لوحدها، ولا تنهار بفعل خلافاتها الدّاخلية، ولا تنتهي هيمنة رأس المال على القوى العاملة، بصورة تلقائية، وإنما تتطلب عملية التّحرير (تحرير الأرض والإنسان)، أدوات نضال وبرامج وأهداف ووسائل عمل (تكتيكات) وقيادات حازمة تكتسب ثقة الشعوب (في فلسطين وليبيا والعراق واليمن وغيرها) وثقة الطبقة العاملة والفئات الكادحة، من أجل أهداف واضحة، تتمثل في تحرير الأراضي المحتلة من سبتة ومليلة إلى لواء إسكندرونة، مرورا بفلسطين والأهواز وسيناء والجولان وغيرها، ولكن عملية التحرر لن تكون مكتملة، إذا لم تتحرّر قوى الإنتاج لتأسيس نظام يجعل الحُكْم بِيَد المُنْتَجِين، ويَضْمن التوزيع العادل لثمرة الإنتاج، ويُساوي بين المُواطنين، مساواة مُطْلَقَة...
لا أَدّعِي إنني أملك حَلاًّ سِحريًّا ولا أدّعِي إن ما أقوله وأكتُبُه أعلى قيمة مما يقوله ويكتبه غيري، بل هي مُجَرّدُ ملاحظات (مُعايَنَة) ومُقترحات قد تُثْرِي نقاشًا تفرضه الضّرورة، من أجل غَدٍ أَفْضَل من يَوْمِنا.
الطاهر المعز
تُسَيْطِر خمس شركات كُبْرى على قطاع التقنيات الدقيقة أو التكنولوجيا الرّقْمِيّة، وذات القيمة الزائدة (والأرباح) المُرتَفِعَة (آبل ومايكروسوفت وألفابيت وأمازون وفيسبوك)، وأصبحت هذه الشركات، وكُلُّها أمريكية، تُوَجِّهُ الرأسمالية وتَطْبَعُها بصبغتها الخاصة، ومن العسير منافسة هذه الشركات، خصوصًا من قِبَل الدول الفقيرة، إذ يتطلّبُ تطوير قطاع التكنولوجيا أرْضِيّة مواتية، تتضَمّنُ موارد هامة لتطوير البحث العلمي والتّقني والعلوم التّطْبِيقية، ووجود حجم ضخم من العُلماء والمُطَوِّرِين، مما يفترض ارتفاع مُسْتَوى التّعليم لدى المواطنين (الشباب كما الكبار)، وارتفع حجم ذوي المَهارات والخبرات في عديد المجالات المُرْتَبِطَة بالتكنولوجيا الدقيقة، من بينها العُلوم المسمّاة "صحيحة" والعلوم التّطبيقية، لتطبيق قواعد الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها، لتلبية احتياجات المواطنين في مجالات الحياة اليومية والطب والزراعة والصناعة وغيرها...
اقتَرَن تطوُّر الرأسمالية بتعميق الفَجْوَة بين الطبقات، وبتَشْرِيع عدم المساواة بين المواطنين، واقترنت المرحلة الإمبريالية (من تطور الرأسمالية) بتعميم هذه الفجوة على مستوى العالم، وتشريع عدم المساواة بين الدول والشعوب، وتعمقت الفجوة بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد موجة الإستقلال الشكْلي (للبلدان المُسْتَعْمَرَة) تعمّقت الفجوة، وأصبح السير على طريق التطور الرأسمالي بهدف "اللحاق" بأوروبا وأمريكا الشّمالية مُسْتَحِيلا، مما يستوجب السّيْر في طريق أخرى (الإشتراكية على سبيل المثال؟) لتحقيق أهداف بسيطة تتمثل في تطبيق الإقتصاد المُخَطّط وتوجيه الإنتاج نحو تلبِيَة احتياجات المواطنين الأساسية، وهذا لن يتحقق بدون مشاركة المواطنين في مراحل التخطيط والإنجاز وتوزيع ثمرة العمل، لكي يستفيد المجتمع من قُدُرات المواطنين، كل في ميدانه، ولكي يستفيد المواطنون من الجُهْد الجَماعي لتلبية حاجاتهم المادية والثقافية والذهنية وغيرها...
تتميز رأسمالية القرن الواحد والعشرين بمحاولة القضاء على أي شكل من أشكال المنافسة، دون خوض حُرُوب مُسَلّحَة بالضّرورة، فالحرب التجارية التي أعلنتها الولايات المتحدة، تستخدم التّهديد بالقوة العسكرية، لكنها تستخدم بالدّرجة الأولى الدّولار كعملة التبادل التجاري العالمي وعملة التحويلات المصرفية العالمية واحتياطي المصارف المركزية، وتستخدم الولايات المتحدة هيمنتها على النظام المالي والمصرفي العالمي، واتساع سوقها الداخلي ليستوعب صادرات العالم، وفي مقدّمتها صادرات الصّين، وينطبق هذا الشكل من الإحتكار على الشركات الكبرى ومعظمها أمريكية المَنْشَأ، من مختبرات وشركات العقاقير إلى صنماعة الطائرات، ومن الزراعة (الحبوب) إلى المَعْلُوماتِيّة والتقنيات العالية، فالحرب دائرة بين "بوينغ" و"آير باص"، للهيمنة على سوق الطيران (المدني والحربي) العالمي، وتُهيمن "آبل" على سوق الحواسيب والهواتف المحمولة، وتمكنت "غوغل" من القضاء على شركة "ياهو" عندما أصبحت تُهَدِّدُ بتقاسم السوق معها، ويتميز قطاع المعلوماتية والتقنيات العالية بارتفاع أرباحه وانخفاض عدد العاملين به، أي إنه قطاع لا يخلق وظائف كثيرة، ويدر أرباحًا وافرة على مالكي الأسهم، وهو أحد أوجه اتساع الفجوة بين الفقراء والأثرياء في العالم، فالعمل لا يُمَكِّنُ من تلبية الحاجات الأساسية للبشر ( تشتر الحكومة الأمريكية فائض الزراعة من كبار الفلاحين، وتوزع قسائم الغذاء على العُمال الفُقَراء، لكي لا يُطالبوا بزيادة الرواتب ولكي لا يثُورُوا)، وارتفع نصيب رأس المال من الإنتاج فيما انخفض نصيب العمل، مما جعل 1% من سكان العالم يحتكرون أكثر من 80% من الثروة التي لم يُساهموا في إنتاجها، كما أن مُحْتَكِرِي الثروة لا يستثمرونها في قطاعات مُنْتِجَة تُشَغِّل العُمال، بل أصبحت الدول الرأسمالية الكُبرى وشركاتها تستغل عُمال بنغلادش وفيتنام والمكسيك والمغرب وغيرها في قطاعات الصناعات المُلَوِّثَة والمُضِرة بالصحة والتي تتطلب عددا كبيرًا من العمالة غير الماهرة، برواتب مُنْخَفِضَة...
من جهة أخرى، تميزت المرحلة الإمبريالية بشكل عام، بالإعتماد على التوسّع الرأسمالي الإحتكاري، وعلى قوة السلاح في نفس الوقت، ليتمكن رأس المال من غَزْو الأسواق، ومن نهب الثّروات ومن تعميق الفَجْوة بين الدول المُهَيْمِنَة (الإمبريالية) والبلدان والشعوب الواقعة تحت الهيْمَنَة، وأصبحت الإمبريالية الأَعْظَم (الولايات المتحدة) حاليا تستخدم التكنولوجيا الحديثة لتطوير الأسلحة ووسائل التّجَسُّس، وتُشكل الأسلحة وسيلة للترهيب وللعدوان على الشعوب ولاحتلال الدول وتفْتِيتِها، كما تُشكل مبيعات السّلاح موردًا للربح، وتحاول الدول الإمبريالية احتكار صناعة السلاح، وحظر صناعتها وتطويرها على الدول المُسَمّاة "ناشئة" (يقارب عمر الحضارة الفارسية ألْفان وخمسمائة سنة، بينما نشأت الولايات المتحدة على جماجم شعوب أمريكا قبل أقل من 250 سنة)، سواء كانت أسلحة تقليدية أو غير تقليدية (كالأسلحة النّووية)، وفي حالة إيران وكوريا الشمالية، تحاول أمريكا مَنْعَهُما من امتلاك وتطْوير التقنية التي تُمكّن من إنتاج الطاقة النّوَوِية، سواء كانت لأغراض سِلْمِيّة (مَدنية) أو حربية (عسكرية)، وتُراقب الولايات المتحدة بدقة التقنيات المُسْتَخْدَمَة في إنتاج الأسلحة التي يستخدمها خُصُومُها أو أعداؤها، ولا تتردّد الحكومة الأمريكية في تهديد حُلَفَائِها و"أصدقائها" الذين يعتزمون شراء منظومة الصواريخ الدّفاعية الرّوسية "إس- 400" (كما كان الحال مع سلسلة صواريخ "سام" السوفييتية)، التي تُشَكّل عودة روسيا (وريثة الإتحاد السوفييتي) إلى منافسة الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا العسكرية (وبالتالي في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا بما يَشْمل التعليم والصناعات)، ومنافستها في سوق بيع السلاح، وتهديد "التوازن" الحالي (أو ميزان القوى العالمي) الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة...
تتخوف الولايات المتحدة من أن تتحول روسيا من حالة التّراجع التي بدأت منذ ما قبل انهيار الإتحاد السوفييتي (فترة حكم غورباتشوف، ثم يلتسين) إلى مرحلة النُّهُوض والعوْدَة إلى السّاحة الدّولية وإلى الأسواق الدولية، ليس عبر بيع النفط الخام والغاز الطبيعي فقط، وإنما أيضًا عبر تطوير صناعات الطائرات المدنية والعسكرية وعبر تطوير الأسلحة الإستراتيجية، التي تتطلب التّحكّم في التقنيات الدّقِيقَة، ولئن بقي الإقتصاد الروسي يُعاني من ضُعْف الإنتاج الصناعي، فقد تمكنت روسيا من تطوير منظومات الأسلحة الحديثة، وطورت أساليب الحرب الإلكترونية، كما أصبحت روسيا تحتل المرتبة الثانية عالمِيًّا (بنحو 22% من إجمالي المبيعات العالمية بين 2013 و 2017)، في مجال تصدير السلاح، رغم الفارق الكبير في حجم المبيعات مع الولايات المتحدة، صاحبة المرتبة الأولي (34% من المبيعات العالمية خلال نفس الفترة)، ولا تزال جُيُوش الصين والهند وفيتنام وفنزويلا والجزائر تعتمد على السلاح الرّوسي، بشكل أساسي، مما يُعَزِّزُ موقع روسيا في العالم، خصوصًا بعد قرار التّدَخّل الروسي في سوريا، واحتواء التوسّع الأمريكي في العالم...
دفعت الغطرسة الأمريكية حُكُومَتَيْ روسيا والصين إلى تكثيف التعاون بينهما، وقدّمت روسيا تنازلات للصين (كانت ترفضها منذ حوالي عشر سنوات)، بهدف زيادة التنسيق والتبادل والتعاون في مجالات النقل والطاقة والصناعات العسكرية، وتجلّى ذلك في المناورات العسكرية المُشتركة بين الجيْشَيْن "فوستوك 2018" (سبقت الإشارة إليها في حينها)، في محاولة من الدّولتين (الصين وروسيا) للبحث عن قواسم مُشْتَرَكة تُشكل لَبِنات للتحالف ضد الغطرسة الأمريكية، داخل المنظومة الرأسمالية نفسها هذه المرة، وليس تحت ذريعة "الرأسمالية ضد الإشتراكية"، وهذه إحدى أهم مميزات الوضع في بداية القرن الواحد والعشرين، حيث يُدافع المتنافسون والخصوم على أُسُس النظام الرأسمالي العالمي (حرية التجارة وفتح الحُدود أمام رأس المال والسلع...)، وغابت عن الساحة ما كان يُسَمّى "المنظومة الإشتراكية"، والقوى المنظَّمَة التي كانت تُعارض الرأسمالية (قولاً أو فِعْلاً) وتنشر خِطابًا، على مستوى عالمي، يُعارض الهيمنة الإمبريالية على الأوطان وعلى ثَرَوات الشُّعُوب...
تزامن تطور وانتشار تيارات "مناهضة العولمة" أو "الرأسمالية المُتَوَحِّشَة" (مما يُشير إلى وجود وَهْمِي لرأسمالية "غير مُتَوَحِّشَة")، وتيارات الدفاع عن البيئة (أو أَحْزاب "الخُضْر")، وانتشار المنظمات "غير الحكومية" (خاصة في البلدان الواقعة تحت الإحتلال أو الهيمنة )، مع انهيار الإتحاد السوفييتي وانهيار الأحزاب "الشيوعية" المُوالية لها وانحسار دور نقابات الأُجَراء، وجميعها مُؤشِّرات على تقهْقُر وضع الطبقة العاملة والشعوب المُقاومة للإحتلال وللإمبريالية، وتراجع الثقافة التقدمية، وتزامنت هذه المرحلة في الوطن العربي مع العدوان على العراق (بمشاركة جيوش عربية وبمباركة الإتحاد السوفييتي المُحْتَضِر)، ومع الحرب الأهلية في الجزائر لفترة عقد كامل، ومع توقيع اتفاقيات أوسلو، وغيرها من الأحداث التي لا نزال نُعاني من تأثيراتها، ويُتوقّع أن يتواصل تأثيرها السلبي على وضعنا لعدّة سنوات أخرى، اعتمادًا على ميزان القوى الحالي...
لا تنهار الإمبريالية لوحدها، ولا تنهار بفعل خلافاتها الدّاخلية، ولا تنتهي هيمنة رأس المال على القوى العاملة، بصورة تلقائية، وإنما تتطلب عملية التّحرير (تحرير الأرض والإنسان)، أدوات نضال وبرامج وأهداف ووسائل عمل (تكتيكات) وقيادات حازمة تكتسب ثقة الشعوب (في فلسطين وليبيا والعراق واليمن وغيرها) وثقة الطبقة العاملة والفئات الكادحة، من أجل أهداف واضحة، تتمثل في تحرير الأراضي المحتلة من سبتة ومليلة إلى لواء إسكندرونة، مرورا بفلسطين والأهواز وسيناء والجولان وغيرها، ولكن عملية التحرر لن تكون مكتملة، إذا لم تتحرّر قوى الإنتاج لتأسيس نظام يجعل الحُكْم بِيَد المُنْتَجِين، ويَضْمن التوزيع العادل لثمرة الإنتاج، ويُساوي بين المُواطنين، مساواة مُطْلَقَة...
لا أَدّعِي إنني أملك حَلاًّ سِحريًّا ولا أدّعِي إن ما أقوله وأكتُبُه أعلى قيمة مما يقوله ويكتبه غيري، بل هي مُجَرّدُ ملاحظات (مُعايَنَة) ومُقترحات قد تُثْرِي نقاشًا تفرضه الضّرورة، من أجل غَدٍ أَفْضَل من يَوْمِنا.