تحت سماء المقبرة
ستكون هذه الليلة طويلة جدا علي يا أمي، أعددت نفسي لهذه اللحظة منذ شهور ولكن الآن أجدني في صراع الريح مع الريح،
لم أتوقف عن التدخين يوما، لقد كذبت بخبر توقفي عن إشعال لفائف التبغ كل لحظة من أيامي ، لم استطع رؤية امرأة حفر الزمن أخاديده على وجنتيها، تصيح بغضب على ولدها الوحيد والدموع تتطاير من عينيها الصغيرتين .
_ستقتلني يا( طفل) مثلما فعل والدك، لم يتقن سوى الفرار ونفث الدخان، وضرب امرأة بسبب عجزه وفقره ومصاحبته لرفقاء السوء،
المرض وحده أعاده مقعدا ذليلاً يستجدي الشفقة والرحمة ، لعقت بيوت الناس صباحا وغيرت حفاظات العجائز لأطعم أفواهكم الجائعة، ولم أمد يدي في الطرقات ولم أفكر في الفرار ولم يغرني البحر وزرقته بالقفز إلى أعماقه، لقد قاومت لأجلكم،
في عز قوته كان يقول لي على مسمع كل أذن في هذا الحي القصديري البائس
_ابتعدي أيتها الحثالة العرجاء، سأذبحك يا حقيرة ...سأشرب من دمك، اعيش كما يحلو لي، واصادق من أشاء .
أنت لا تذكر أيها(الطفل)لا تذكر أي شيء عن المأساة التي عشتها واخواتك الثلاث، لقد كنت صغيرا حينما كان يضربنا ويبصق في وجوهنا، لقد كان مستعدا أن يقايض بناته بسيجارة واحدة أو بقارورة خمر رخيصة وقد يفعل بي نفس الشيء،
كان خبر تخليه عنا بمثابة انتصار الثورة داخلي، لقد هزمته حينما غادر هذا الكوخ، تمنيت أن يبتعد عني وعنكم، وعن الحياة، تجرعت الذل والهوان في اطعامكم وتعليمكم، زوجت شقيقاتك رغم صغر سنهن لأتفرغ لك أيها (الطفل) ، ولكن هيهات أن يهنأ من ولد من رحم المعاناة، انت تذكر جيدا عندما دق الباب بعد منتصف الليل، شعرت بالخوف، تحركت في كل اتجاه ولكنني امرأة تفتح الباب وتنظر في وجه الطارق بعيون متسعة تستمد شجاعتها من البحر الذي اتسع لـكل أحزانها ودموعها ومعاناتها ، البحر الذي لفض شقيقها الوحيد وهو في طريقه إلى الجنة الموعودة ، لم أعادي البحر حينما اعادته أمواجه جثة بنصف وجه وبيد واحدة، لكني حرمت ُ على نفسي أكل السمك وكرهت الرجال الذين يجيدون الهرب إلى الموت،
لقد قتلت الخوف من والدك في ذات الليلة حينما سمحت له بالعودة إلي وهو على كرسي متحرك ، صعب جدا أن أنصت لهسيس الأمواج الهادئة التي كانت لا تكف عن الثرثرة بمدى سعادتك مع والدك العائد من ضياع الغربة، اعترفت للبحر ذات مساء واعترف لك الآن أيها (الطّفل) لقد أحببته مقعدا، واحترمته كرجل ولم أسأم من تنظيفه وتغيير حفاظاته ، حينما أشعل سيجارته ، يطلق تنهيدة تمسح كل دموعي وآهاتي الدفينة و يقول
: الله يجازيك دنيا وآخرة...
فأخرج لعملي مسرورة وكأنني متجهة لمصنعي الذي ينتج أنواع أقمشة الحرير ولي صفقة تجارية تنتظر توقيعي،
في ليلة موته قال جملة واحدة سأخبرك بها الآن
لا شيء أندم عليه سوى الهروب من مسؤولياتي .
ثم انهمرت دموعه على خديه الشاحبين، بعد موته بقيت أحدثه وانقل له اخباركم كل يوم جمعة، تلك القبور المتراصة ليست سوى ثقوب في أرواحنا يتسرب منها الفقد كلما طرق الحنين قلوبنا، مدينة الموتى ليست كما تبدو في حزنها و فراغها وصمتها، بل من يجيد الإنصات يعرف الحقيقة يا بني.
أم أنا يا أمي فلست نادما على شرائي لأول علبة سجائر، كانت بعد دفنه بساعة واحدة، هربت من مصافحة الناس من عيونهم من ألسنتهم من هياكلهم الواقفة عند الباب كأشجار عارية مخيفة ، لقد كذب المعزيين يا أمي، يومها كنت أراه في دخان السجائر، أشعلتها بنار فقدي لكي أعيده إلى كرسيه المتحرك الذي قدته في كل مكان على الشاطئ أين كان يسرد علي مغامرات السندباد وشيخ البحر ، عذبتني الأمكنة بعده كثيرا يا أمي؛ فكنت أجلس كل مساء أدخن السجائر من أجل ذكراه ، لا أحد صدقني أنه من علمني السباحة في أحلامي ولا حتى أنتِ يا أمي .
كان علي المغادرة ثم تقبل مصيري بعدها ، يبدو أن القدر جعلنا عائلة تجيد الرحيل في صمت فور أن تغلق عيونها ،
لم أتوقف عن إيقاظك صبيحة يوم الجمعة ، وكنت متأكد انك نائمة بعد متاعب التحاليل الطبية والتنقل من مصلحة لأخرى، كنا نطارد مجانية العلاج، و مجانية التعليم، كنا نطارد جملة (بالمجان ) فذهبت حياتنا بالمجان،
عملي في توزيع مواد البناء لشركات، أجرته لا تكفي بسبب السجائر كما كنت تقولين، ليتني كنت أصدقك القول يا أمي ، لكن هذا اليوم سأعترف بكل شيء لأني أعلم أنك لن تغضبي ولن تصرخي على هذا الطيف الجاثي على ركبتيه إلى جوار قبرك ، كنت أنوى ركوب أمواج البحر يا أمي لأفر إلى الضفة الأخرى ، جلدني الفقر والبطالة هنا، جلدتني شهادتي الجامعية التي تفاخرين بها نسوة الحي القصديري، جلدتني أمالي وطموحاتي وأرهبتني نظرة ضبابية إلى مستقبلي وأخرى واضحة إلى ماضي أبي البائس ، لم أشأ أن أكون ولد يحفظ سر أبيه، أردتني مختلف، منتصر، أردت ترك أثر في الحياة، لهذا ادخرت المال لأعبر، وفرت المال لأشتري مكانا في زورق من المطاط أو من الخشب أو من الورق لم اهتم لهذا كثيرا ولم أرهق نفسي بالتفكير في الوصول من عدمه ، كنت أوزع تناهيدي لفراقك ليلا عن يميني وشمالي ، خشيت أن تسمعنني وتكتشفي سري الكبير،
(_ما عنده قلب لي خلا يماه تبكي، ما عندهش النيف لخلا خوتاته موراه على جال خدمة او مال أو واحدة رومية.)
كلما سمعتِ بعودة الجثث إلى شاطئ الانطلاق، ترددين هذا الكلام وانت تطبخين وتضعين قطع البصل على جبهتك ، كان صداعك وفيا لا يكاد يختفي ، كنت تنقلين لي رسالتك المشفرة بطريقة أم تخاف الفجيعة الكبرى،
لم أعد أهتم بالحياة يا أمي، لم أعد أكترث لشيء يا أبي، حين فرقتكم الظروف والمحن و العوز والفقر والبيوت القصدرية تلك التي ما وقتنا لا بردا ولا حرا ولا فئران آخر الليل...حينها كنا أموات بطريقة ما!
لم استطيع تدخين السجائر تحت الماء يا أبي،
ولا أعرف كيف سأخبرها أنني عدت دون جثتي التي سحبها التيار إلى أعماق البحر؟.
-----
عزة بوقاعدة
ستكون هذه الليلة طويلة جدا علي يا أمي، أعددت نفسي لهذه اللحظة منذ شهور ولكن الآن أجدني في صراع الريح مع الريح،
لم أتوقف عن التدخين يوما، لقد كذبت بخبر توقفي عن إشعال لفائف التبغ كل لحظة من أيامي ، لم استطع رؤية امرأة حفر الزمن أخاديده على وجنتيها، تصيح بغضب على ولدها الوحيد والدموع تتطاير من عينيها الصغيرتين .
_ستقتلني يا( طفل) مثلما فعل والدك، لم يتقن سوى الفرار ونفث الدخان، وضرب امرأة بسبب عجزه وفقره ومصاحبته لرفقاء السوء،
المرض وحده أعاده مقعدا ذليلاً يستجدي الشفقة والرحمة ، لعقت بيوت الناس صباحا وغيرت حفاظات العجائز لأطعم أفواهكم الجائعة، ولم أمد يدي في الطرقات ولم أفكر في الفرار ولم يغرني البحر وزرقته بالقفز إلى أعماقه، لقد قاومت لأجلكم،
في عز قوته كان يقول لي على مسمع كل أذن في هذا الحي القصديري البائس
_ابتعدي أيتها الحثالة العرجاء، سأذبحك يا حقيرة ...سأشرب من دمك، اعيش كما يحلو لي، واصادق من أشاء .
أنت لا تذكر أيها(الطفل)لا تذكر أي شيء عن المأساة التي عشتها واخواتك الثلاث، لقد كنت صغيرا حينما كان يضربنا ويبصق في وجوهنا، لقد كان مستعدا أن يقايض بناته بسيجارة واحدة أو بقارورة خمر رخيصة وقد يفعل بي نفس الشيء،
كان خبر تخليه عنا بمثابة انتصار الثورة داخلي، لقد هزمته حينما غادر هذا الكوخ، تمنيت أن يبتعد عني وعنكم، وعن الحياة، تجرعت الذل والهوان في اطعامكم وتعليمكم، زوجت شقيقاتك رغم صغر سنهن لأتفرغ لك أيها (الطفل) ، ولكن هيهات أن يهنأ من ولد من رحم المعاناة، انت تذكر جيدا عندما دق الباب بعد منتصف الليل، شعرت بالخوف، تحركت في كل اتجاه ولكنني امرأة تفتح الباب وتنظر في وجه الطارق بعيون متسعة تستمد شجاعتها من البحر الذي اتسع لـكل أحزانها ودموعها ومعاناتها ، البحر الذي لفض شقيقها الوحيد وهو في طريقه إلى الجنة الموعودة ، لم أعادي البحر حينما اعادته أمواجه جثة بنصف وجه وبيد واحدة، لكني حرمت ُ على نفسي أكل السمك وكرهت الرجال الذين يجيدون الهرب إلى الموت،
لقد قتلت الخوف من والدك في ذات الليلة حينما سمحت له بالعودة إلي وهو على كرسي متحرك ، صعب جدا أن أنصت لهسيس الأمواج الهادئة التي كانت لا تكف عن الثرثرة بمدى سعادتك مع والدك العائد من ضياع الغربة، اعترفت للبحر ذات مساء واعترف لك الآن أيها (الطّفل) لقد أحببته مقعدا، واحترمته كرجل ولم أسأم من تنظيفه وتغيير حفاظاته ، حينما أشعل سيجارته ، يطلق تنهيدة تمسح كل دموعي وآهاتي الدفينة و يقول
: الله يجازيك دنيا وآخرة...
فأخرج لعملي مسرورة وكأنني متجهة لمصنعي الذي ينتج أنواع أقمشة الحرير ولي صفقة تجارية تنتظر توقيعي،
في ليلة موته قال جملة واحدة سأخبرك بها الآن
لا شيء أندم عليه سوى الهروب من مسؤولياتي .
ثم انهمرت دموعه على خديه الشاحبين، بعد موته بقيت أحدثه وانقل له اخباركم كل يوم جمعة، تلك القبور المتراصة ليست سوى ثقوب في أرواحنا يتسرب منها الفقد كلما طرق الحنين قلوبنا، مدينة الموتى ليست كما تبدو في حزنها و فراغها وصمتها، بل من يجيد الإنصات يعرف الحقيقة يا بني.
أم أنا يا أمي فلست نادما على شرائي لأول علبة سجائر، كانت بعد دفنه بساعة واحدة، هربت من مصافحة الناس من عيونهم من ألسنتهم من هياكلهم الواقفة عند الباب كأشجار عارية مخيفة ، لقد كذب المعزيين يا أمي، يومها كنت أراه في دخان السجائر، أشعلتها بنار فقدي لكي أعيده إلى كرسيه المتحرك الذي قدته في كل مكان على الشاطئ أين كان يسرد علي مغامرات السندباد وشيخ البحر ، عذبتني الأمكنة بعده كثيرا يا أمي؛ فكنت أجلس كل مساء أدخن السجائر من أجل ذكراه ، لا أحد صدقني أنه من علمني السباحة في أحلامي ولا حتى أنتِ يا أمي .
كان علي المغادرة ثم تقبل مصيري بعدها ، يبدو أن القدر جعلنا عائلة تجيد الرحيل في صمت فور أن تغلق عيونها ،
لم أتوقف عن إيقاظك صبيحة يوم الجمعة ، وكنت متأكد انك نائمة بعد متاعب التحاليل الطبية والتنقل من مصلحة لأخرى، كنا نطارد مجانية العلاج، و مجانية التعليم، كنا نطارد جملة (بالمجان ) فذهبت حياتنا بالمجان،
عملي في توزيع مواد البناء لشركات، أجرته لا تكفي بسبب السجائر كما كنت تقولين، ليتني كنت أصدقك القول يا أمي ، لكن هذا اليوم سأعترف بكل شيء لأني أعلم أنك لن تغضبي ولن تصرخي على هذا الطيف الجاثي على ركبتيه إلى جوار قبرك ، كنت أنوى ركوب أمواج البحر يا أمي لأفر إلى الضفة الأخرى ، جلدني الفقر والبطالة هنا، جلدتني شهادتي الجامعية التي تفاخرين بها نسوة الحي القصديري، جلدتني أمالي وطموحاتي وأرهبتني نظرة ضبابية إلى مستقبلي وأخرى واضحة إلى ماضي أبي البائس ، لم أشأ أن أكون ولد يحفظ سر أبيه، أردتني مختلف، منتصر، أردت ترك أثر في الحياة، لهذا ادخرت المال لأعبر، وفرت المال لأشتري مكانا في زورق من المطاط أو من الخشب أو من الورق لم اهتم لهذا كثيرا ولم أرهق نفسي بالتفكير في الوصول من عدمه ، كنت أوزع تناهيدي لفراقك ليلا عن يميني وشمالي ، خشيت أن تسمعنني وتكتشفي سري الكبير،
(_ما عنده قلب لي خلا يماه تبكي، ما عندهش النيف لخلا خوتاته موراه على جال خدمة او مال أو واحدة رومية.)
كلما سمعتِ بعودة الجثث إلى شاطئ الانطلاق، ترددين هذا الكلام وانت تطبخين وتضعين قطع البصل على جبهتك ، كان صداعك وفيا لا يكاد يختفي ، كنت تنقلين لي رسالتك المشفرة بطريقة أم تخاف الفجيعة الكبرى،
لم أعد أهتم بالحياة يا أمي، لم أعد أكترث لشيء يا أبي، حين فرقتكم الظروف والمحن و العوز والفقر والبيوت القصدرية تلك التي ما وقتنا لا بردا ولا حرا ولا فئران آخر الليل...حينها كنا أموات بطريقة ما!
لم استطيع تدخين السجائر تحت الماء يا أبي،
ولا أعرف كيف سأخبرها أنني عدت دون جثتي التي سحبها التيار إلى أعماق البحر؟.
-----
عزة بوقاعدة