الوحدة الأولى
مدخل إلى مفهوم الأخلاق :
(الخُلُق) و (الأخلاق) كلمة يتداولها الناس على ألسنتهم فيقولون : (فلان على خُلُق ) أو (فلان ذو خُلُق ) ، وهم يقصدون بذلك – غالبا- ما يتصف به الإنسان من صفات نبيلة تجعله محل تقدير واحترام ، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقد يطلقون لفظ الخُلُق يريدون به الصفات المذمومة ، فيقال (فلان سيئ الخُلُق ) ، ويقال (هذه أخلاق سيئة ) ، وهكذا .
وقبل تعريف الأخلاق وبيان معنى كلمة الخلق يجدر التفريق بين الخُلُق كصفة مستقرة في النفس لها آثارها المحمودة أو المذمومة ، وبين الغرائز التي يندفع إليها الإنسان بطبعه وحاجته .
فالأخلاق منها ما هو محمود وما هو مذموم ، وآثارها تظهر على سلوك الإنسان وتصرفه ، فإذا كان الخلق المستقر في النفس حميدا أثمر سلوكا حميدا ، وإذا كان الخلق على خلاف ذلك جاءت نتائجه تبعا له ، كالكرم والبخل ، والصفح والانتقام .
وهنا يجب أن نعلم أن بعض الصفات المستقرة في النفس لا تعد من الأخلاق ، بل هي غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق ، وإنما تتميز الأخلاق عنها بأن آثار ها تحمد أو تذم ، وبالمثال يتضح المقال :
فالأكل عند الجوع غريزة ليس مما يحمد أو يذم ، لكنه إذا أصبح شرهاً زائدا عن حاجة الإنسان صار أمرا مذموما لأنه يخرج عن حد الطبع السوي إلى الطمع المفرط .
والحذرُ من وقوع مكروه ليس خلقا بل هو غريزة لا يحمد عليها ولا يذم ، لكن الحذر الزائد الخارج عن المألوف يصبح خوفا وجبنا يذم الإنسان على الاتصاف به ، ومثله البخل والإسراف والتهور وغيرها من آثار الغرائز التي تخرج عن حدها المألوف .
تعريف الخُلُق :
المعنى اللغوي :
الخُلق بسكون اللام وضمها : السجية ، قاله الجوهري في مختار الصحاح
وعند الفيروزآبادي : الخُلق بالضم وبضمتين : السجية والطبع والمرؤة والدين .
وحقيقته أنه وصف لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها ، بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة .
وهذا المعنى الأخير ذكره ابن منظور في لسان العرب .
ويمكننا من خلال هذه التعاريف إدراك أمور هامة ثلاثة ،، ما هي ؟ .
الأول : الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خِلقة الإنسان الفطرية ( الصفات الكامنة في النفس البشرية ) .
الثاني : تدل الأخلاق أيضاً على الصفات التي اكتسبت وأصبحت كأنها خلقت مع طبيعته.
الثالث : أن للأخلاق جانبين : جانباً نفسيا باطنيا ، وجانباً سلوكياً ظاهرياً .
المعنى الاصطلاحي :
هناك عدة أقوال في معنى الأخلاق عند الفلاسفة والمفكرين قديما وحديثاً ، فمنها :
أن الخُلُق : حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية ، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين : منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج ...... ، ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدرب .
وعند أبي حامد الغزالي أن الخُلُقَ عبارة عن هيئة راسخة في النفس راسخة ، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ، من غير حاجة إلى فكر وروية .
ثم بين أن الخُلُق منه ما هو حسن وما هو قبيح ، فإن كان الصادر عن النفس فعلا جميلاً محمودا عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة وذاك الفعل خُلُقا حسناً ، وإن كان الصادر عنها فعلاً قبيحاً سُمي خلقاً سيئا.
وإذا ظهر لك هذا الفرق الدقيق ، فما معنى الخلق أو الأخلاق ؟
تمرين ( تحليل واستنباط ):
ورد في التعريفين السابقين بعض الكلمات والعبارات التي تساعد على فهم بعض الأمور المعينة على تحديد معنى الخُلُق ، فنفهم من عبارة :
• ( الخُلُق حالة أو هيئة للنفس ) أنه صفة للجانب النفسي من الإنسان كما أن الخَلْق – بفتح الخاء – صفة للجانب ................
• ( راسخة ) أي ثابتة في النفس غير عارضة ، أي أنها تُمثل عادة لصاحبها تتكرر كلما حانت الفرصة ، فالبخيل الذي يتصدق مرة في حياته لا يعتبر ..........
• (تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة ) أي من غير تكلف ، فإذا تكلف الإنسان خلقا مغايرا لطبيعته لا يكون صفة لها كالكاذب المشهور بكذبه حين يتصنع الصدق لا يكون صادقا .
• (من غير حاجة إلى فكر وروية ) أي من غير تردد ، ومن غير تأخير عن الوقت المناسب ، لماذا ؟ لأن الخلق صار عادة له يفعله تلقائيا بدون جهد ذهني .
• الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .
• لفظ الخلق يطلق على ( المحمود ) من الصفات وكذلك على (المذموم ) منها .
عوداً على بدء :
وإذا تأملت هذين التعريفين وجدتهما عامين لا يختصان بالأخلاق الإسلامية بل يدخل
تحتهما كل خلق مهما كان فكر صاحبه أو عقيدته أو مبادئه وقيمه .
لذا فنحن بحاجة إلى بيان معنى الأخلاق الإسلامية ،،،،
فماذا نقصد بالأخلاق الإسلامية ؟
الأخلاق الإسلامية : هي الصفات والسلوكيات التي أقرها الإسلام ودعا إلى التحلي بها وحذر من نقيضها .
ناقش أجزاء هذا التعريف من خلال النصوص التالية ملاحظا عبارة :
( أقرها الإسلام )
( دعا إلى التحلي بها )
( حذر من نقيضها )
قوله تعالى { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
قوله عليه الصلاة والسلام : (إن من أحبكم إلي ّوأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ، وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )
أضف أدلة أخرى توضح هذا التعريف بجميع أجزائه .
مصدر الأخلاق :
تقدم الحديث عن معنى الأخلاق في اللغة والاصطلاح ، وظهر لنا أن الأخلاق الإسلامية لها نوع خصوصية ليس لغيرها ، وقبل الحديث عن خصائص الأخلاق في الإسلام لابد من بيان مصدر الأخلاق الذي اختلف تبعا لاختلاف نظرة الناس إلى الخير والشر مما يعد سلوكا يتعامل به الناس فيما بينهم .
فهل مصدر الأخلاق :
- المجتمع بعاداته وأعرفه ؟
- أم العقل البشري بقدراته وطاقاته ؟
- أم الضمير الإنساني بعواطفه وانفعالاته ؟
- أم أنها قيم اللذة والسعادة والمنفعة ؟
- أم أن هناك مصدرا أعلى وأسمى من هذه المصادر البشرية .
هذه أهم الاتجاهات الفلسفية الأخلاقية في تاريخ البشرية التي لم تتفق على مصدر واحد لتقويم سلوك الإنسان ، ولم تحدد له مرجعا سلوكيا أخلاقيا يحتكم إليه ، وسيظهر لك من خلال هذا العرض أسباب هذا التعدد والاختلاف .
المذهب الأول( 1 )
يرى أصحاب هذا المذهب أن المجتمع بأعرافه وعاداته هو مصدر الأخلاق ومقياسها.
والعرف مجموعة من العادات التي درج الناس عليها جيلا بعد جيل في مجتمع ما ، ورأوا ضرورة احترامها وأن تقوم الحياة على أساسها ، ومن خالفها يعاقب .
ولكن : هل يصلح أن يكون ( العرف ) مصدراً للأخلاق ،ومقياسا تقاس به الأعمال ، وميزانا للسلوك البشري ؟
(1) يلاحظ هنا أن المناقشة هنا مع أولئك الذين جعلوا أحد هذه المعايير أساسا للأخلاق مطلقا ، وليس لمن يرى صلاحية بعض هذه المعايير ضمن إطار الشريعة والآداب العامة .
إن نظرة بسيطة تبين لنا أن العرف متغير وغير ثابت ، إذ يختلف باختلاف الزمان فما كان مألوفا متعارفا عليه في القديم قد يتغير ويصبح منكرا ومستهجنا عند الناس .
كان شرب الخمر ووأد البنات عرفا في الجاهلية ، فجاء الإسلام فحرمه وقضى عليه ، وكذا السرقة والنهب كانت سائغة في بعض الأعراف فلما دخلتها المدنية حرمتها .
فالعرف قد يخالف الدين ، وقد يخالف تطور المجتمعات ورقيها ، لذا يتبدل ويتغير .
ويختلف العرف باختلاف المكان فعرف الرجل الشرقي وعاداته يختلف عن عرف الغربي ، وكذا عرف أهل البادية يباين عرف أهل الحضر ويخالفه ولو في بعض جوانبه .
( إن العرف مثله كمثل الريح ، يمر على مزرعة (ورد) فيحمل رائحة الورد ، ويمر على مزرعة ( فُل ) فيحمل رائحة الفل ، ويمر على مزبلة فيحمل رائحة المزبلة ، فهو متغير ، تراه في مصر غيره في إنجلترا ، وتراه في جنوب إفريقيا غيره في بلاد القطب الشمالي ، وبين رجال الدين غيره بين رجال المال والأعمال وهكذا ، وليس في استطاعة ( أخلاقي ) أن يقيس أعمال الناس بمقياس شأنه ذلك ) . (تأملات في فلسفة الأخلاق ) علي رجب .
نشاط :
وردت أدلة في القرآن الكريم والسنة تنعي على من يتخذون العرف مصدراً لسلوكهم ومقياسا لأعمالهم ، ومنها :
قوله تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولوا كان أبآؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } .(البقرة)
وقوله سبحانه {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ... }(المائدة )
وقوله عز وجل {بل قالوا إنا وجدنا أبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام {لا يكن أحدكم أمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت }
والخلاصة أن العرف لا يصلح أن يكون مصدرا للأخلاق ولا منبعا لها ، ولا ضابطا يضبط أصولها ، ولا أساسا ينبني عليه سلوك الإنسان .
المذهب الثاني :
وإذا كان العرف لا يصلح ، فهل العقل البشري يصلح مصدراً للأخلاق ومقياسا وضابطا ، فما يراه العقل خَيْرا يكون خَيْرا ، وما يراه شرا يكون شرا ، وما يراه فضيلة يكون فضيلة ، وما يراه رذيلة يكون رذيلة ؟
إن هؤلاء يرون أن العقل قادر على وضع القانون الأخلاقي الذي يضبط حياة الناس وينظم تعاملهم أفرادا وجماعات .
ولكن : إذا أردنا أن نحتكم إلى العقل في قياس الأخلاق ، فأي عقل نحتكم إليه ؟
هل نحتكم إلى عقول الفلاسفة قديما وحديثا ؟ أم نحتكم إلى عقول أهل السياسة ؟ أم إلى عقول أهل الأموال والتجارة ؟
إلى أي عقل نحتكم ؟
إذا قلنا فيما مضى أن الأعراف تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة والثقافة ، فكذلك العقول تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر ، ومن ثقافة وبيئة إلى غيرها .
إننا بهذا التقرير لا نريد أن نحط من قدر العقل ولا أن نقلل من منزلته ، فهو من أعظم نعم الله على الإنسان ، لكن له حدوده وقدراته ، مع ما فُطِر الناس عليه من اختلاف تلك القدرات والحدود ، وقد تبين قصور العقل عن إدراك بعض ما يحيط به ويدور في فلكه، فكيف يصح بعد هذا أن يكون العقل هو مقياس الأخلاق ؟
فالخلاصة أن العقل كما هو الحال في العرف لا يصلح وحده ليكون مصدرا للأخلاق ولا مقياسا لها ، ولا حكما عليها .
يترك للطلاب والطالبات بيان بعض أوجه الاختلاف والتفاوت بين العقول قديما وحديثا ، ومن بيئة لأخرى لتؤكد ما سبق تقريره .
المذهب الثالث :
يرى أصحاب هذا المذهب أن الضمير البشري هو مصدر الأخلاق ، والمقصود بالضمير : القوة الخفية النابعة من نفس الإنسان ، فتوضح له طريق الخير وتدفعه إلى سلوكه ، وتبين له سبيل الشر وتحذره منه ، ويشعر الإنسان براحة في طاعة هذه القوة الخفية ، وبتأنيب عند عصيانها .
ولكن هل يصلح الضمير مصدرا للأخلاق ومقياسا لها ؟
إن المتأمل في أحكام الضمائر يجدها غير ثابتة ، بل هي متغيرة مختلفة ، بحسب الزمان والمكان ، فأحكام الضمير لإنسان القرن العشرين تختلف كثيراً عن أحكام ضمير إنسان عاش في العصور القديمة أو الوسطى .
وتختلف كذلك بحسب المكان والبيئة والثقافة ، فالضمير في أوروبا غيره في أواسط إفريقيا ، غيره في البلدان الإسلامية .
زد على ذلك أن أحكام الضمير مبهمة لا وضوح فيها ، فكيف نعتمد عليها في أمر عظيم الشأن ، وهذا حالها ؟
وكثيرا ما تتغلب العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامها .
ويلاحظ أن كلمة الضمير بهذا المفهوم الأخلاقي لم ترد في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية ، ولا وجود لها في معاجم لغة العرب ، بل هو مصطلح حادث منقول عن كتب الفلسفة الغربية .
ولقد كان من دواعي استعمال هذا اللفظ في الحضارة الغربية إحلال مفهوم أخلاقي منفصل عن مفهوم الأديان المنزلة ليكون عوضا عن تعاليمها .
وبعد هذا العرض والتحليل : هل ترى أن الضمير يصلح أساسا للأخلاق ومصدرا لها ؟ ولماذا؟
المذهب الرابع
وذهبت طائفة أخرى إلى أن مقياس الأخلاق وميزانها يرجع إلى اللذة والمنفعة ، فما يحقق اللذة والمنفعة المادية يكون خيرا ، وما يحقق ألماً وضرراً مادياً يكون شراً يجب تجنبه والبعد عنه ، فالفضيلة تدور مع اللذة والمنفعة وجودا وعدماً .
ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطع أن يجزم بشيء سوى ما يصيب بدنه من اللذة والألم ، فاللذة هي الخير ، والألم هو الشر ، فالحكمة كل الحكمة - في نظر هؤلاء – أن يغتنم الإنسان الفرصة قبل فواتها وينتهب المسرات قبل انقطاعها ، ولا مرشد إليها سوى ما ركب فيه من الطبائع والغرائز ، فيسعى لإشباعها وإرضائها ، وهكذا تكون الأخلاق تبعا للذة والسعادة والمنفعة .
ومن تأمل هذا المذهب بواقعية ونظر ثاقب رأى أنه أشبع جانب الحس والمادة ، وأغفل الجانب الروحي والمعنوي في الإنسان ، وهو جانب له أثره ، وله أهميته في حياة الفرد وفي كيان الأسرة ونظام المجتمع .
ألا ترى أيها القارئ الكريم أن هذا الرأي يفسح المجال أمام نزعة الأثرة والأنانية والظلم والتسلط ، ويقضي في المقابل على قيم هامة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها ، كالإيثار والكرم والتعاطف وروح التسامح والبر والإحسان إلى الغير، فأي منفعة في هذه الأخلاق.
نشاط
يترك للطلاب ذكر بعض القيم السلبية التي تنشأ تبعا لهذا المذهب
" ومما يضعف القول بهذا المذهب أننا ما زلنا نقرأ في صحف الأبطال وقادة الأمم كيف سمت بهم هممهم العظيمة إلى اطِّراح لذاتهم وما هم فيه من رفاهية العيش وهناءة البال ، لا سعيا وراء اللذة والمسرة ، بل لينقذوا غيرهم من بني جلدتهم غير مكترثين بما يصيبهم في
ذات أنفسهم من أذى وإهانة ، كأنهم يفرحون بما يدهمهم في سبيل ذلك من نوازل الأحداث وخطوب الزمن ، لا تهدهم العظائم ولا تفزعهم الشدائد " ( الخلق الكامل/ 201).
لكن هل يصلح مقياس اللذة والمنفعة مصدرا للأخلاق ؟
يجد بعض الناس لذته في ركوب الصعاب ومقارعة الخطوب ومنازلة النوازل ، خلافا لما اعتاده الناس وألفوه من وجود اللذة في الراحة والدعة ، ويجد بعض الناس متعته في مساعدة الغير وقضاء حوائجهم .
ماذا يعني هذا ؟
معناه أن معيار اللذة والمنفعة يختلف من إنسان لآخر ومن فكر لآخر ومن ثقافة لأخرى .
يقول أحمد أمين " ليس مقياس السعادة العامة مقياسا ثابتا محددا ، وهذا يجعل الحكم بأن العمل خير أو شر مجالا للخلاف الكثير ، ذلك بأن مدار الحكم هو اللذة والألم ، وتقدير ما في العمل من اللذة والألم يختلف باختلاف الأشخاص ، فقد يرى أحد في عملٍ لذةً كبيرة ، ويرى آخر فيه لذة أكبر أو أقل ، فيترتب على ذلك اختلافهم في الحكم على الشيء بالخيرية أو الشرية " ( الأخلاق / 116) .
" أضف إلى ذلك أن اتخاذ المنفعة في ذاتها معيارا للأفعال الخلقية مفض – لا محالة – إلى اللبس بين الحق والباطل ، فطالما جر الباطل إلى لذة وحبور ، وجاء في سبيل الحق ما لا يوصف من الهموم والشرور ، ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع ، وما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة " (الخلق الكامل / 208)
وهنا يظهر لك جليا أن هذا المقياس مضطرب ، فلا يصلح أن يكون أساسا مطلقا للأخلاق كما ذهب إليه أصحاب هذا القول .
وبنظرة فاحصة إلى ما تقدم من المذاهب يتبين لنا أن المجتمع بعاداته وأعرافه وقيمه ، وكذا الضمير الإنساني ، والعقل البشري ، والمنفعة المادية كلها تؤثر في معيار الأخلاق سلبا أو
إيجابا ، لكنَّ واحدا منها لا يصلح ليكون وحده مصدراً للأخلاق ومقياسا لها ،وحكما عليها.
وبعد هذا يمكننا القول : إن المنهج الرباني الأخلاقي الذي جاء به الإسلام هو الأصلح مطلقا ليكون أساسا للأخلاق ومعيارا تقاس به السلوكيات وتحتكم إليه ، وذلك لما له من الخصائص العظيمة التي يأتي ذكرها ، مع مراعاته للعقل والعادات والأعراف التي لا تخالف الشرع .
مدخل إلى مفهوم الأخلاق :
(الخُلُق) و (الأخلاق) كلمة يتداولها الناس على ألسنتهم فيقولون : (فلان على خُلُق ) أو (فلان ذو خُلُق ) ، وهم يقصدون بذلك – غالبا- ما يتصف به الإنسان من صفات نبيلة تجعله محل تقدير واحترام ، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقد يطلقون لفظ الخُلُق يريدون به الصفات المذمومة ، فيقال (فلان سيئ الخُلُق ) ، ويقال (هذه أخلاق سيئة ) ، وهكذا .
وقبل تعريف الأخلاق وبيان معنى كلمة الخلق يجدر التفريق بين الخُلُق كصفة مستقرة في النفس لها آثارها المحمودة أو المذمومة ، وبين الغرائز التي يندفع إليها الإنسان بطبعه وحاجته .
فالأخلاق منها ما هو محمود وما هو مذموم ، وآثارها تظهر على سلوك الإنسان وتصرفه ، فإذا كان الخلق المستقر في النفس حميدا أثمر سلوكا حميدا ، وإذا كان الخلق على خلاف ذلك جاءت نتائجه تبعا له ، كالكرم والبخل ، والصفح والانتقام .
وهنا يجب أن نعلم أن بعض الصفات المستقرة في النفس لا تعد من الأخلاق ، بل هي غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق ، وإنما تتميز الأخلاق عنها بأن آثار ها تحمد أو تذم ، وبالمثال يتضح المقال :
فالأكل عند الجوع غريزة ليس مما يحمد أو يذم ، لكنه إذا أصبح شرهاً زائدا عن حاجة الإنسان صار أمرا مذموما لأنه يخرج عن حد الطبع السوي إلى الطمع المفرط .
والحذرُ من وقوع مكروه ليس خلقا بل هو غريزة لا يحمد عليها ولا يذم ، لكن الحذر الزائد الخارج عن المألوف يصبح خوفا وجبنا يذم الإنسان على الاتصاف به ، ومثله البخل والإسراف والتهور وغيرها من آثار الغرائز التي تخرج عن حدها المألوف .
تعريف الخُلُق :
المعنى اللغوي :
الخُلق بسكون اللام وضمها : السجية ، قاله الجوهري في مختار الصحاح
وعند الفيروزآبادي : الخُلق بالضم وبضمتين : السجية والطبع والمرؤة والدين .
وحقيقته أنه وصف لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها ، بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة .
وهذا المعنى الأخير ذكره ابن منظور في لسان العرب .
ويمكننا من خلال هذه التعاريف إدراك أمور هامة ثلاثة ،، ما هي ؟ .
الأول : الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خِلقة الإنسان الفطرية ( الصفات الكامنة في النفس البشرية ) .
الثاني : تدل الأخلاق أيضاً على الصفات التي اكتسبت وأصبحت كأنها خلقت مع طبيعته.
الثالث : أن للأخلاق جانبين : جانباً نفسيا باطنيا ، وجانباً سلوكياً ظاهرياً .
المعنى الاصطلاحي :
هناك عدة أقوال في معنى الأخلاق عند الفلاسفة والمفكرين قديما وحديثاً ، فمنها :
أن الخُلُق : حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية ، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين : منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج ...... ، ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدرب .
وعند أبي حامد الغزالي أن الخُلُقَ عبارة عن هيئة راسخة في النفس راسخة ، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ، من غير حاجة إلى فكر وروية .
ثم بين أن الخُلُق منه ما هو حسن وما هو قبيح ، فإن كان الصادر عن النفس فعلا جميلاً محمودا عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة وذاك الفعل خُلُقا حسناً ، وإن كان الصادر عنها فعلاً قبيحاً سُمي خلقاً سيئا.
وإذا ظهر لك هذا الفرق الدقيق ، فما معنى الخلق أو الأخلاق ؟
تمرين ( تحليل واستنباط ):
ورد في التعريفين السابقين بعض الكلمات والعبارات التي تساعد على فهم بعض الأمور المعينة على تحديد معنى الخُلُق ، فنفهم من عبارة :
• ( الخُلُق حالة أو هيئة للنفس ) أنه صفة للجانب النفسي من الإنسان كما أن الخَلْق – بفتح الخاء – صفة للجانب ................
• ( راسخة ) أي ثابتة في النفس غير عارضة ، أي أنها تُمثل عادة لصاحبها تتكرر كلما حانت الفرصة ، فالبخيل الذي يتصدق مرة في حياته لا يعتبر ..........
• (تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة ) أي من غير تكلف ، فإذا تكلف الإنسان خلقا مغايرا لطبيعته لا يكون صفة لها كالكاذب المشهور بكذبه حين يتصنع الصدق لا يكون صادقا .
• (من غير حاجة إلى فكر وروية ) أي من غير تردد ، ومن غير تأخير عن الوقت المناسب ، لماذا ؟ لأن الخلق صار عادة له يفعله تلقائيا بدون جهد ذهني .
• الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .
• لفظ الخلق يطلق على ( المحمود ) من الصفات وكذلك على (المذموم ) منها .
عوداً على بدء :
وإذا تأملت هذين التعريفين وجدتهما عامين لا يختصان بالأخلاق الإسلامية بل يدخل
تحتهما كل خلق مهما كان فكر صاحبه أو عقيدته أو مبادئه وقيمه .
لذا فنحن بحاجة إلى بيان معنى الأخلاق الإسلامية ،،،،
فماذا نقصد بالأخلاق الإسلامية ؟
الأخلاق الإسلامية : هي الصفات والسلوكيات التي أقرها الإسلام ودعا إلى التحلي بها وحذر من نقيضها .
ناقش أجزاء هذا التعريف من خلال النصوص التالية ملاحظا عبارة :
( أقرها الإسلام )
( دعا إلى التحلي بها )
( حذر من نقيضها )
قوله تعالى { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
قوله عليه الصلاة والسلام : (إن من أحبكم إلي ّوأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ، وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )
أضف أدلة أخرى توضح هذا التعريف بجميع أجزائه .
مصدر الأخلاق :
تقدم الحديث عن معنى الأخلاق في اللغة والاصطلاح ، وظهر لنا أن الأخلاق الإسلامية لها نوع خصوصية ليس لغيرها ، وقبل الحديث عن خصائص الأخلاق في الإسلام لابد من بيان مصدر الأخلاق الذي اختلف تبعا لاختلاف نظرة الناس إلى الخير والشر مما يعد سلوكا يتعامل به الناس فيما بينهم .
فهل مصدر الأخلاق :
- المجتمع بعاداته وأعرفه ؟
- أم العقل البشري بقدراته وطاقاته ؟
- أم الضمير الإنساني بعواطفه وانفعالاته ؟
- أم أنها قيم اللذة والسعادة والمنفعة ؟
- أم أن هناك مصدرا أعلى وأسمى من هذه المصادر البشرية .
هذه أهم الاتجاهات الفلسفية الأخلاقية في تاريخ البشرية التي لم تتفق على مصدر واحد لتقويم سلوك الإنسان ، ولم تحدد له مرجعا سلوكيا أخلاقيا يحتكم إليه ، وسيظهر لك من خلال هذا العرض أسباب هذا التعدد والاختلاف .
المذهب الأول( 1 )
يرى أصحاب هذا المذهب أن المجتمع بأعرافه وعاداته هو مصدر الأخلاق ومقياسها.
والعرف مجموعة من العادات التي درج الناس عليها جيلا بعد جيل في مجتمع ما ، ورأوا ضرورة احترامها وأن تقوم الحياة على أساسها ، ومن خالفها يعاقب .
ولكن : هل يصلح أن يكون ( العرف ) مصدراً للأخلاق ،ومقياسا تقاس به الأعمال ، وميزانا للسلوك البشري ؟
(1) يلاحظ هنا أن المناقشة هنا مع أولئك الذين جعلوا أحد هذه المعايير أساسا للأخلاق مطلقا ، وليس لمن يرى صلاحية بعض هذه المعايير ضمن إطار الشريعة والآداب العامة .
إن نظرة بسيطة تبين لنا أن العرف متغير وغير ثابت ، إذ يختلف باختلاف الزمان فما كان مألوفا متعارفا عليه في القديم قد يتغير ويصبح منكرا ومستهجنا عند الناس .
كان شرب الخمر ووأد البنات عرفا في الجاهلية ، فجاء الإسلام فحرمه وقضى عليه ، وكذا السرقة والنهب كانت سائغة في بعض الأعراف فلما دخلتها المدنية حرمتها .
فالعرف قد يخالف الدين ، وقد يخالف تطور المجتمعات ورقيها ، لذا يتبدل ويتغير .
ويختلف العرف باختلاف المكان فعرف الرجل الشرقي وعاداته يختلف عن عرف الغربي ، وكذا عرف أهل البادية يباين عرف أهل الحضر ويخالفه ولو في بعض جوانبه .
( إن العرف مثله كمثل الريح ، يمر على مزرعة (ورد) فيحمل رائحة الورد ، ويمر على مزرعة ( فُل ) فيحمل رائحة الفل ، ويمر على مزبلة فيحمل رائحة المزبلة ، فهو متغير ، تراه في مصر غيره في إنجلترا ، وتراه في جنوب إفريقيا غيره في بلاد القطب الشمالي ، وبين رجال الدين غيره بين رجال المال والأعمال وهكذا ، وليس في استطاعة ( أخلاقي ) أن يقيس أعمال الناس بمقياس شأنه ذلك ) . (تأملات في فلسفة الأخلاق ) علي رجب .
نشاط :
وردت أدلة في القرآن الكريم والسنة تنعي على من يتخذون العرف مصدراً لسلوكهم ومقياسا لأعمالهم ، ومنها :
قوله تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولوا كان أبآؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } .(البقرة)
وقوله سبحانه {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ... }(المائدة )
وقوله عز وجل {بل قالوا إنا وجدنا أبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام {لا يكن أحدكم أمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت }
والخلاصة أن العرف لا يصلح أن يكون مصدرا للأخلاق ولا منبعا لها ، ولا ضابطا يضبط أصولها ، ولا أساسا ينبني عليه سلوك الإنسان .
المذهب الثاني :
وإذا كان العرف لا يصلح ، فهل العقل البشري يصلح مصدراً للأخلاق ومقياسا وضابطا ، فما يراه العقل خَيْرا يكون خَيْرا ، وما يراه شرا يكون شرا ، وما يراه فضيلة يكون فضيلة ، وما يراه رذيلة يكون رذيلة ؟
إن هؤلاء يرون أن العقل قادر على وضع القانون الأخلاقي الذي يضبط حياة الناس وينظم تعاملهم أفرادا وجماعات .
ولكن : إذا أردنا أن نحتكم إلى العقل في قياس الأخلاق ، فأي عقل نحتكم إليه ؟
هل نحتكم إلى عقول الفلاسفة قديما وحديثا ؟ أم نحتكم إلى عقول أهل السياسة ؟ أم إلى عقول أهل الأموال والتجارة ؟
إلى أي عقل نحتكم ؟
إذا قلنا فيما مضى أن الأعراف تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة والثقافة ، فكذلك العقول تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر ، ومن ثقافة وبيئة إلى غيرها .
إننا بهذا التقرير لا نريد أن نحط من قدر العقل ولا أن نقلل من منزلته ، فهو من أعظم نعم الله على الإنسان ، لكن له حدوده وقدراته ، مع ما فُطِر الناس عليه من اختلاف تلك القدرات والحدود ، وقد تبين قصور العقل عن إدراك بعض ما يحيط به ويدور في فلكه، فكيف يصح بعد هذا أن يكون العقل هو مقياس الأخلاق ؟
فالخلاصة أن العقل كما هو الحال في العرف لا يصلح وحده ليكون مصدرا للأخلاق ولا مقياسا لها ، ولا حكما عليها .
يترك للطلاب والطالبات بيان بعض أوجه الاختلاف والتفاوت بين العقول قديما وحديثا ، ومن بيئة لأخرى لتؤكد ما سبق تقريره .
المذهب الثالث :
يرى أصحاب هذا المذهب أن الضمير البشري هو مصدر الأخلاق ، والمقصود بالضمير : القوة الخفية النابعة من نفس الإنسان ، فتوضح له طريق الخير وتدفعه إلى سلوكه ، وتبين له سبيل الشر وتحذره منه ، ويشعر الإنسان براحة في طاعة هذه القوة الخفية ، وبتأنيب عند عصيانها .
ولكن هل يصلح الضمير مصدرا للأخلاق ومقياسا لها ؟
إن المتأمل في أحكام الضمائر يجدها غير ثابتة ، بل هي متغيرة مختلفة ، بحسب الزمان والمكان ، فأحكام الضمير لإنسان القرن العشرين تختلف كثيراً عن أحكام ضمير إنسان عاش في العصور القديمة أو الوسطى .
وتختلف كذلك بحسب المكان والبيئة والثقافة ، فالضمير في أوروبا غيره في أواسط إفريقيا ، غيره في البلدان الإسلامية .
زد على ذلك أن أحكام الضمير مبهمة لا وضوح فيها ، فكيف نعتمد عليها في أمر عظيم الشأن ، وهذا حالها ؟
وكثيرا ما تتغلب العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامها .
ويلاحظ أن كلمة الضمير بهذا المفهوم الأخلاقي لم ترد في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية ، ولا وجود لها في معاجم لغة العرب ، بل هو مصطلح حادث منقول عن كتب الفلسفة الغربية .
ولقد كان من دواعي استعمال هذا اللفظ في الحضارة الغربية إحلال مفهوم أخلاقي منفصل عن مفهوم الأديان المنزلة ليكون عوضا عن تعاليمها .
وبعد هذا العرض والتحليل : هل ترى أن الضمير يصلح أساسا للأخلاق ومصدرا لها ؟ ولماذا؟
المذهب الرابع
وذهبت طائفة أخرى إلى أن مقياس الأخلاق وميزانها يرجع إلى اللذة والمنفعة ، فما يحقق اللذة والمنفعة المادية يكون خيرا ، وما يحقق ألماً وضرراً مادياً يكون شراً يجب تجنبه والبعد عنه ، فالفضيلة تدور مع اللذة والمنفعة وجودا وعدماً .
ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطع أن يجزم بشيء سوى ما يصيب بدنه من اللذة والألم ، فاللذة هي الخير ، والألم هو الشر ، فالحكمة كل الحكمة - في نظر هؤلاء – أن يغتنم الإنسان الفرصة قبل فواتها وينتهب المسرات قبل انقطاعها ، ولا مرشد إليها سوى ما ركب فيه من الطبائع والغرائز ، فيسعى لإشباعها وإرضائها ، وهكذا تكون الأخلاق تبعا للذة والسعادة والمنفعة .
ومن تأمل هذا المذهب بواقعية ونظر ثاقب رأى أنه أشبع جانب الحس والمادة ، وأغفل الجانب الروحي والمعنوي في الإنسان ، وهو جانب له أثره ، وله أهميته في حياة الفرد وفي كيان الأسرة ونظام المجتمع .
ألا ترى أيها القارئ الكريم أن هذا الرأي يفسح المجال أمام نزعة الأثرة والأنانية والظلم والتسلط ، ويقضي في المقابل على قيم هامة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها ، كالإيثار والكرم والتعاطف وروح التسامح والبر والإحسان إلى الغير، فأي منفعة في هذه الأخلاق.
نشاط
يترك للطلاب ذكر بعض القيم السلبية التي تنشأ تبعا لهذا المذهب
" ومما يضعف القول بهذا المذهب أننا ما زلنا نقرأ في صحف الأبطال وقادة الأمم كيف سمت بهم هممهم العظيمة إلى اطِّراح لذاتهم وما هم فيه من رفاهية العيش وهناءة البال ، لا سعيا وراء اللذة والمسرة ، بل لينقذوا غيرهم من بني جلدتهم غير مكترثين بما يصيبهم في
ذات أنفسهم من أذى وإهانة ، كأنهم يفرحون بما يدهمهم في سبيل ذلك من نوازل الأحداث وخطوب الزمن ، لا تهدهم العظائم ولا تفزعهم الشدائد " ( الخلق الكامل/ 201).
لكن هل يصلح مقياس اللذة والمنفعة مصدرا للأخلاق ؟
يجد بعض الناس لذته في ركوب الصعاب ومقارعة الخطوب ومنازلة النوازل ، خلافا لما اعتاده الناس وألفوه من وجود اللذة في الراحة والدعة ، ويجد بعض الناس متعته في مساعدة الغير وقضاء حوائجهم .
ماذا يعني هذا ؟
معناه أن معيار اللذة والمنفعة يختلف من إنسان لآخر ومن فكر لآخر ومن ثقافة لأخرى .
يقول أحمد أمين " ليس مقياس السعادة العامة مقياسا ثابتا محددا ، وهذا يجعل الحكم بأن العمل خير أو شر مجالا للخلاف الكثير ، ذلك بأن مدار الحكم هو اللذة والألم ، وتقدير ما في العمل من اللذة والألم يختلف باختلاف الأشخاص ، فقد يرى أحد في عملٍ لذةً كبيرة ، ويرى آخر فيه لذة أكبر أو أقل ، فيترتب على ذلك اختلافهم في الحكم على الشيء بالخيرية أو الشرية " ( الأخلاق / 116) .
" أضف إلى ذلك أن اتخاذ المنفعة في ذاتها معيارا للأفعال الخلقية مفض – لا محالة – إلى اللبس بين الحق والباطل ، فطالما جر الباطل إلى لذة وحبور ، وجاء في سبيل الحق ما لا يوصف من الهموم والشرور ، ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع ، وما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة " (الخلق الكامل / 208)
وهنا يظهر لك جليا أن هذا المقياس مضطرب ، فلا يصلح أن يكون أساسا مطلقا للأخلاق كما ذهب إليه أصحاب هذا القول .
وبنظرة فاحصة إلى ما تقدم من المذاهب يتبين لنا أن المجتمع بعاداته وأعرافه وقيمه ، وكذا الضمير الإنساني ، والعقل البشري ، والمنفعة المادية كلها تؤثر في معيار الأخلاق سلبا أو
إيجابا ، لكنَّ واحدا منها لا يصلح ليكون وحده مصدراً للأخلاق ومقياسا لها ،وحكما عليها.
وبعد هذا يمكننا القول : إن المنهج الرباني الأخلاقي الذي جاء به الإسلام هو الأصلح مطلقا ليكون أساسا للأخلاق ومعيارا تقاس به السلوكيات وتحتكم إليه ، وذلك لما له من الخصائص العظيمة التي يأتي ذكرها ، مع مراعاته للعقل والعادات والأعراف التي لا تخالف الشرع .