مخاطر الدّيون الخارجية، نموذج الأرجنتين:
هل تتمثل مهمة صندوق النقد الدولي في "إنقاذ" اقتصاد الدول المُقتَرِضَة؟
الطاهر المعز
توسّعت رقعة معارضة المواطنين لسياسة الرئيس اليميني والملياردير "ماوريسيو ماكري" وحكومته المدعومة من الولايات المتحدة ومن صندوق النقد الدولي، خلال أربع سنوات، وانضمّت فئات جديدة لمعارضة سياساته الإقتصادية والإجتماعية، من بينها الفرق الموسيقية وبعض فئات الشباب، وانتشرت مؤخرًا تجمّعات عفوية لآلاف الأشخاص، في العاصمة "بيونس آيرس"، للرقص على أنغام أغنية تنتقد كلماتها الرئيس "ماوريسيو ماكري"، في شكل جديد من أشكال الإحتجاج، قبل الانتخابات الرئاسية (التي كانت مقرّرة في 27 تشرين الأول/اكتوبر 2019 )، وتُنَظّم هذه التجمعات عبر مواقع التواصل المُسمّى "اجتماعي"، ولا تستمرّ هذه التجمّعات سوى بضع دقائق، وتنشر تسجيلات لتعليم خطوات الرقص على أنغام أغنية "سي فوس كيريس" (إذا كنت تريد)، إلى جانب أشكال التجمعات "التّقليدية"، التي ارتفعت وتيرتها منذ الإنتخابات التمهيدية التي أظهرت تدنِّي شعبية الرئيس (11 آب/أغسطس 2019)، وخصوصًا منذ بداية شهر أيلول، حيث يتجمّع الآلاف في عدّة أحياء من العاصمة "بوينوس أيرس"، بدون إذن مسبق، للإعراب عن استيائهم من حكومة الرئيس اليميني والثّرِي "ماوريسيو ماكري" المرشّح لولاية ثانية، وانطلقت التجمعات "الراقصة"، أواخر شهر آب/أغسطس 2019، في شارع "كوريينتس" الواسع في وسط العاصمة، وبقيت سرية في البداية قبل انتشارها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أما فرقة "سودو ماريكا" فانطلقت من "توجيه نقد" إلى ماكري بعد فوزه بانتخابات 2015، حتى أصبحت تدعو إلى تغيير نظام الحُكْم، وهي تعرّف عن أسلوبها على أنه "موسيقى الكومبيا للمنشقين"، التي تُذَكِّرُ بالمصاعب التي خلقتها الأزمة الاقتصادية، والركود والتضخّم والفقر، الذي ارتفعت نسبته إلى أكثر من 32%، ووَرَدَ في إحدى الأغاني: "يتعذر عليّ دفع الإيجار ولا أدري ما العمل.. ولم يعد يكفي العمل طوال اليوم.. وقد ارتفع سعر تذكرة الحافلة وَوَضْعِي يزدادُ سوءًا"...
من الشائع في الأرجنتين أنْ ينفّذَ السياسيون (نساءً ورجالاً)، خطوات راقصة خلال تجمّعات سياسية وانتخابية، ويجتذب أسلوب "الكومبيا" الموسيقي (كولومبي المنشَأ) العتيق، كلّ الفئات الاجتماعية في أمريكا الجنوبية، مما يُفسِّرُ شعبية هذه التجمّعات القصيرة، التي تتفرّق بسرعة، قبل تدخّل الشّرطة...
رغم توسّع رقعة الإحتجاجات، تبقى حظوظ اليمين أقوى بكثير من حظوظ ما يُسمّى "وسط اليسار" في انتخابات 27 تشرين الأول/اكتوبر 2019...
عرفت الأرجنتين (استقلّت عن إسبانيا سنة 1816)، ثاني أقوى اقتصاد في أمريكا الجنوبية، بعد البرازيل، عددًا كبيرًا من الأزمات، خلال قَرْن واحد وأهمُّها، أزمة سنة 1825، حيث انكشف اقتصاد البلاد على الخارج، وعلى التجارة الخارجية، واضطرت الحكومة لبيع سندات في لندن للمساعدة في تمويل ميزانية البلاد، مما رفع ديون البلاد، خصوصًا بعدما قرّر بنك إنغلترا (سنة 1825) زيادة معدل الفائدة، مما أدّى، سنة 1827، إلى تعثُّر الدولة عن تسديد الدّيون، ولم تتمكن من سداد ديونها، سوى بعد ثلاثة عُقُود، وتكرر العجز سنة 1890، بسبب تراكم القُروض وفوائدها التي استخدمتها الحكومة لتحويل العاصمة إلى مدينة عصرية، وبناء السكك الحديدية والقطارات، ومشاريع أخرى، كزيادة مساحة أراضي الزراعة وتربية المواشي، ولكن تراكم الديون الحكومية أدى إلى عجز الدولة عن تسديد الديون، وأفلس أكبر مصرف في البلاد (مصرف بارينغز)، وأطاحت الأزمة بالرئيس "ميغيل خواريز سليمان"، الذي قدّم استقالته، وبقيت الأرجنتين في حالة عجز عن سداد الديون لفترة أربع سنوات، لكنها عمّقت تبعيّتها المالية تجاه إنغلترا (التي بدأت مباشرة بعد الإستقلال)، ورغم الإزدهار النسبي، بسبب هجرة كفاءات أوروبية (إيطالية خاصة)، تضررت البلاد من تأثيرات الحرب العالمية الأولى، وعرفت الكساد وارتفاع معدل البطالة وتفاقم الاضطراب الاجتماعي، واستغل الجيش الفرصة لتنفيذ انقلاب عسكري، سنة 1930، واستمرت حالة عدم الاستقرار السياسي والتعثر عن سداد الديون، إلى أن أصبح "خوان بيرون" رئيسًا، سنة 1946، وقام بإعادة سيطرة الحكومة على أهم دواليب الإقتصاد، وتأميم الشركات وإعادة توزيع الثروة، بشكل يسمح بالإستقرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وتحفيز النّمو الإقتصادي وتوسيع الفئات الوسطى التي يحتاجها في الإنتخابات، لكن انقلابًا عسكريّا أطاح به سنة 1955، وعادت البلاد إلى حالة عدم الإستقرار، والعجز عن تسديد الدّيون، وأبرم المجلس العسكري، سنة 1956، صفقة مع نادي باريس للدول الدائنة، من أجل تجنب تخلف أكبر عن السداد، وعمومًا بقيت الدولة تُهيمن على الإقتصاد، إلى حين انقلاب الجيش سنة 1976 على زوجة بيرون الثانية، التي أصبحت رئيسة، وخلال الحُكم الدّموي للجيش، كانت الدولة على حافة الإفلاس، واستخدم الجيش الشعور الوطني لإعلان حرب من أجل استعادة جزر المافين (فولكلاند) من بريطانيا التي تستعمرها، منذ أواخر القرن الثامن عشر، بالتوازي مع ارتفاع القروض من المصارف الأمريكية والبريطانية، وانتهت الحرب (سنة 1982) بهزيمة الجيش الأرجنتيني، والإطاحة بحكم العسكر، سنة 1983، لكن الديون الخارجية ارتفعت من ثمانية مليارات إلى 46 مليار دولارا، خلال أقل من ست سنوات، بالتزامن مع انهيار أسعار السلع الأولية، في مناطق عديدة من العالم، ومع انطلاق أزمة ديون في أمريكا الجنوبية، وفي مجمل البلدان الواقعة تحت الهيمنة، وانطلقت انتفاضات عديدة خلال عقد ثمانينات القرن العشرين في الوطن العربي أيضًا (المغرب وتونس والأردن...)، وعجزت 16 دولة في أمريكا الجنوبية، ومن بينها الأرجنتين، و27 دولة في العالم عن تسديد الدّيون، ما اضطر الدّائنين إلى إعادة جدولة الدّيون بشروط مجحفة، بداية من 1983، ولكن الأزمة لم تنتهي بل ارتفعت نسبة التضخم إلى أكثر من ثلاثة آلاف بالمائة، وتخلفت الأرجنتين مجدّدًا عن سداد الدّيون سنة 1989، ودشنت مرحلة جديدة من الركود الإقتصادي، ومن ارتفاع معدل البطالة والفقر، بعد خصخصة شركات القطاع العام، بذريعة اجتذاب رؤوس أموال أجنبية، لكن تجاوَزَت قيمة الدين الخارجي مائة مليار دولارا، وخلال أربع سنوات، بنهاية العقد الأخير من القرن العشرين، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 65%، وانطلقت احتجاجات عارمة سنة 2000 و 2001 بالتزامن مع تعثر الدولة عن سداد الديون، مجدّدًا، واعتبر خُبراء الإقتصاد السياسي أن ذلك كان أكبر عجز في التاريخ، وهي الفترة التي أفضت إلى تولّي "نستور كيرشنير" الرئاسة (بعد استقالة أو إقالة خمس رؤساء، خلال سنتَيْن)، من سنة 2003 إلى سنة 2007، وتوفي سنة 2010، عن ستين سنة، لتتولى زوجته "كريستينا فرنانديز دي كيرشنير" المنصب (التي دخلت عالم السياسة قبله، وكانت عضوة في مجلس الشيوخ قبل تولي زوجها الرئاسة) بدورها من 2007 إلى 2015، وكانت الحكومة قد عَلّقت تسديد مدفوعات سندات بقيمة 95 مليار دولار، وفتحت سلسلة مفاوضات لإعادة هيكلة مع الدائنين أدت إلى عقد صفقات مع معظم الدّئنين، سنَتَيْ 2005 و2010، إذ وافَقَ معظم حاملي السندات على الحصول على ثُلُثِ قيمة السندات، لكن ائتلافًا من صناديق المُضاربة الأمريكية بقيادة صندوق التحوط المملوك للملياردير "بول سينغر" رفض التّسوية، وطلب السداد الكامل، ولجأ إلى القضاء الأمريكي الذي حكم لفائدته، ورفضت حكومة الأرجنتين قرار القضاء الأمريكي، مما أدى إلى شن حملة أمريكية (وصهيونية أيضًا) عنيفة ضد الرئيسة "كريستينا كيرشنير"، وقَبِل الرئيس الحالي، اليميني الملياردير "ماوريسيو ماكري" سنة 2016، تسديد كامل المبلغ المطلوب، وأدّت الحملة الأمريكية إلى محاصرة الأرجنتين، وأقرّ القضاء الأمريكي مَنْعَ حكومة الأرجنتين من تسديد ديون الدائنين الآخرين، قبل سداد الديون المتعثرة لـ"سينغر"، وغيرها من صناديق المُضاربة الأمريكية، فتعثرت البلاد مجدّدًا عن سداد الديون، سنة 2014، لكن الأزمة كانت أقل حدّة من أزمة بداية القرن الواحد والعشرين...
هل تتمثل مهمة صندوق النقد الدولي في "إنقاذ" اقتصاد الدول المُقتَرِضَة؟
الطاهر المعز
توسّعت رقعة معارضة المواطنين لسياسة الرئيس اليميني والملياردير "ماوريسيو ماكري" وحكومته المدعومة من الولايات المتحدة ومن صندوق النقد الدولي، خلال أربع سنوات، وانضمّت فئات جديدة لمعارضة سياساته الإقتصادية والإجتماعية، من بينها الفرق الموسيقية وبعض فئات الشباب، وانتشرت مؤخرًا تجمّعات عفوية لآلاف الأشخاص، في العاصمة "بيونس آيرس"، للرقص على أنغام أغنية تنتقد كلماتها الرئيس "ماوريسيو ماكري"، في شكل جديد من أشكال الإحتجاج، قبل الانتخابات الرئاسية (التي كانت مقرّرة في 27 تشرين الأول/اكتوبر 2019 )، وتُنَظّم هذه التجمعات عبر مواقع التواصل المُسمّى "اجتماعي"، ولا تستمرّ هذه التجمّعات سوى بضع دقائق، وتنشر تسجيلات لتعليم خطوات الرقص على أنغام أغنية "سي فوس كيريس" (إذا كنت تريد)، إلى جانب أشكال التجمعات "التّقليدية"، التي ارتفعت وتيرتها منذ الإنتخابات التمهيدية التي أظهرت تدنِّي شعبية الرئيس (11 آب/أغسطس 2019)، وخصوصًا منذ بداية شهر أيلول، حيث يتجمّع الآلاف في عدّة أحياء من العاصمة "بوينوس أيرس"، بدون إذن مسبق، للإعراب عن استيائهم من حكومة الرئيس اليميني والثّرِي "ماوريسيو ماكري" المرشّح لولاية ثانية، وانطلقت التجمعات "الراقصة"، أواخر شهر آب/أغسطس 2019، في شارع "كوريينتس" الواسع في وسط العاصمة، وبقيت سرية في البداية قبل انتشارها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أما فرقة "سودو ماريكا" فانطلقت من "توجيه نقد" إلى ماكري بعد فوزه بانتخابات 2015، حتى أصبحت تدعو إلى تغيير نظام الحُكْم، وهي تعرّف عن أسلوبها على أنه "موسيقى الكومبيا للمنشقين"، التي تُذَكِّرُ بالمصاعب التي خلقتها الأزمة الاقتصادية، والركود والتضخّم والفقر، الذي ارتفعت نسبته إلى أكثر من 32%، ووَرَدَ في إحدى الأغاني: "يتعذر عليّ دفع الإيجار ولا أدري ما العمل.. ولم يعد يكفي العمل طوال اليوم.. وقد ارتفع سعر تذكرة الحافلة وَوَضْعِي يزدادُ سوءًا"...
من الشائع في الأرجنتين أنْ ينفّذَ السياسيون (نساءً ورجالاً)، خطوات راقصة خلال تجمّعات سياسية وانتخابية، ويجتذب أسلوب "الكومبيا" الموسيقي (كولومبي المنشَأ) العتيق، كلّ الفئات الاجتماعية في أمريكا الجنوبية، مما يُفسِّرُ شعبية هذه التجمّعات القصيرة، التي تتفرّق بسرعة، قبل تدخّل الشّرطة...
رغم توسّع رقعة الإحتجاجات، تبقى حظوظ اليمين أقوى بكثير من حظوظ ما يُسمّى "وسط اليسار" في انتخابات 27 تشرين الأول/اكتوبر 2019...
عرفت الأرجنتين (استقلّت عن إسبانيا سنة 1816)، ثاني أقوى اقتصاد في أمريكا الجنوبية، بعد البرازيل، عددًا كبيرًا من الأزمات، خلال قَرْن واحد وأهمُّها، أزمة سنة 1825، حيث انكشف اقتصاد البلاد على الخارج، وعلى التجارة الخارجية، واضطرت الحكومة لبيع سندات في لندن للمساعدة في تمويل ميزانية البلاد، مما رفع ديون البلاد، خصوصًا بعدما قرّر بنك إنغلترا (سنة 1825) زيادة معدل الفائدة، مما أدّى، سنة 1827، إلى تعثُّر الدولة عن تسديد الدّيون، ولم تتمكن من سداد ديونها، سوى بعد ثلاثة عُقُود، وتكرر العجز سنة 1890، بسبب تراكم القُروض وفوائدها التي استخدمتها الحكومة لتحويل العاصمة إلى مدينة عصرية، وبناء السكك الحديدية والقطارات، ومشاريع أخرى، كزيادة مساحة أراضي الزراعة وتربية المواشي، ولكن تراكم الديون الحكومية أدى إلى عجز الدولة عن تسديد الديون، وأفلس أكبر مصرف في البلاد (مصرف بارينغز)، وأطاحت الأزمة بالرئيس "ميغيل خواريز سليمان"، الذي قدّم استقالته، وبقيت الأرجنتين في حالة عجز عن سداد الديون لفترة أربع سنوات، لكنها عمّقت تبعيّتها المالية تجاه إنغلترا (التي بدأت مباشرة بعد الإستقلال)، ورغم الإزدهار النسبي، بسبب هجرة كفاءات أوروبية (إيطالية خاصة)، تضررت البلاد من تأثيرات الحرب العالمية الأولى، وعرفت الكساد وارتفاع معدل البطالة وتفاقم الاضطراب الاجتماعي، واستغل الجيش الفرصة لتنفيذ انقلاب عسكري، سنة 1930، واستمرت حالة عدم الاستقرار السياسي والتعثر عن سداد الديون، إلى أن أصبح "خوان بيرون" رئيسًا، سنة 1946، وقام بإعادة سيطرة الحكومة على أهم دواليب الإقتصاد، وتأميم الشركات وإعادة توزيع الثروة، بشكل يسمح بالإستقرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وتحفيز النّمو الإقتصادي وتوسيع الفئات الوسطى التي يحتاجها في الإنتخابات، لكن انقلابًا عسكريّا أطاح به سنة 1955، وعادت البلاد إلى حالة عدم الإستقرار، والعجز عن تسديد الدّيون، وأبرم المجلس العسكري، سنة 1956، صفقة مع نادي باريس للدول الدائنة، من أجل تجنب تخلف أكبر عن السداد، وعمومًا بقيت الدولة تُهيمن على الإقتصاد، إلى حين انقلاب الجيش سنة 1976 على زوجة بيرون الثانية، التي أصبحت رئيسة، وخلال الحُكم الدّموي للجيش، كانت الدولة على حافة الإفلاس، واستخدم الجيش الشعور الوطني لإعلان حرب من أجل استعادة جزر المافين (فولكلاند) من بريطانيا التي تستعمرها، منذ أواخر القرن الثامن عشر، بالتوازي مع ارتفاع القروض من المصارف الأمريكية والبريطانية، وانتهت الحرب (سنة 1982) بهزيمة الجيش الأرجنتيني، والإطاحة بحكم العسكر، سنة 1983، لكن الديون الخارجية ارتفعت من ثمانية مليارات إلى 46 مليار دولارا، خلال أقل من ست سنوات، بالتزامن مع انهيار أسعار السلع الأولية، في مناطق عديدة من العالم، ومع انطلاق أزمة ديون في أمريكا الجنوبية، وفي مجمل البلدان الواقعة تحت الهيمنة، وانطلقت انتفاضات عديدة خلال عقد ثمانينات القرن العشرين في الوطن العربي أيضًا (المغرب وتونس والأردن...)، وعجزت 16 دولة في أمريكا الجنوبية، ومن بينها الأرجنتين، و27 دولة في العالم عن تسديد الدّيون، ما اضطر الدّائنين إلى إعادة جدولة الدّيون بشروط مجحفة، بداية من 1983، ولكن الأزمة لم تنتهي بل ارتفعت نسبة التضخم إلى أكثر من ثلاثة آلاف بالمائة، وتخلفت الأرجنتين مجدّدًا عن سداد الدّيون سنة 1989، ودشنت مرحلة جديدة من الركود الإقتصادي، ومن ارتفاع معدل البطالة والفقر، بعد خصخصة شركات القطاع العام، بذريعة اجتذاب رؤوس أموال أجنبية، لكن تجاوَزَت قيمة الدين الخارجي مائة مليار دولارا، وخلال أربع سنوات، بنهاية العقد الأخير من القرن العشرين، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 65%، وانطلقت احتجاجات عارمة سنة 2000 و 2001 بالتزامن مع تعثر الدولة عن سداد الديون، مجدّدًا، واعتبر خُبراء الإقتصاد السياسي أن ذلك كان أكبر عجز في التاريخ، وهي الفترة التي أفضت إلى تولّي "نستور كيرشنير" الرئاسة (بعد استقالة أو إقالة خمس رؤساء، خلال سنتَيْن)، من سنة 2003 إلى سنة 2007، وتوفي سنة 2010، عن ستين سنة، لتتولى زوجته "كريستينا فرنانديز دي كيرشنير" المنصب (التي دخلت عالم السياسة قبله، وكانت عضوة في مجلس الشيوخ قبل تولي زوجها الرئاسة) بدورها من 2007 إلى 2015، وكانت الحكومة قد عَلّقت تسديد مدفوعات سندات بقيمة 95 مليار دولار، وفتحت سلسلة مفاوضات لإعادة هيكلة مع الدائنين أدت إلى عقد صفقات مع معظم الدّئنين، سنَتَيْ 2005 و2010، إذ وافَقَ معظم حاملي السندات على الحصول على ثُلُثِ قيمة السندات، لكن ائتلافًا من صناديق المُضاربة الأمريكية بقيادة صندوق التحوط المملوك للملياردير "بول سينغر" رفض التّسوية، وطلب السداد الكامل، ولجأ إلى القضاء الأمريكي الذي حكم لفائدته، ورفضت حكومة الأرجنتين قرار القضاء الأمريكي، مما أدى إلى شن حملة أمريكية (وصهيونية أيضًا) عنيفة ضد الرئيسة "كريستينا كيرشنير"، وقَبِل الرئيس الحالي، اليميني الملياردير "ماوريسيو ماكري" سنة 2016، تسديد كامل المبلغ المطلوب، وأدّت الحملة الأمريكية إلى محاصرة الأرجنتين، وأقرّ القضاء الأمريكي مَنْعَ حكومة الأرجنتين من تسديد ديون الدائنين الآخرين، قبل سداد الديون المتعثرة لـ"سينغر"، وغيرها من صناديق المُضاربة الأمريكية، فتعثرت البلاد مجدّدًا عن سداد الديون، سنة 2014، لكن الأزمة كانت أقل حدّة من أزمة بداية القرن الواحد والعشرين...