(مستعربون أضاؤوا ورحلوا) - (مستوطنون وهنود حمر) -- بقلم: د. يوسف الحسن
7:33 م (قبل 3 ساعات)
مستوطنون وهنود حمر
د. يوسف الحسن
شدني في زيارتي الأولى إلى أمريكا قبل عقود، ما يتمتع به غالبية الأمريكيين من البساطة والمرح، وعدم التردد في مشاركة الغرباء الأحاديث وتبادل إشارات الترحيب، والفكاهة.
وكان يشدني دائماً الشغف بالتعرف على تاريخ الأمكنة، وحركة المهاجرين الأوائل إلى هذه القارة المسماة «العالم الجديد» وأحياناً كانت تسمى «الأرض الموعودة».
شغف السفر وعشق المعرفة، والحفر في التاريخ، لا تغيب عن الخاطر، ومعها تحضر القراءات والأفلام السينمائية الكثيرة، التي سجلت تفاصيل العقود الأولى للمهاجرين الأوروبيين إلى الشمال الأمريكي، ومطاردتهم للهنود الحمر، الذين كانوا أول من استوطن أمريكا قبل آلاف السنين قبل الميلاد.
في مطلع القرن السابع عشر، تأسست أول مستوطنة إنجليزية في منطقة فرجينيا، أسموها «جيمس تاون»، وتبعها إقامة مستوطنات أخرى في ولاية «ماساتشوستس»، بدءاً من القرية الساحلية التي أسموها «بليموث» جنوبي بوسطن، حيث نزل على سواحلها أوائل المهاجرين «الحجاج» الهاربين بعقيدتهم اللوثرية من بريطانيا.
كان المهاجرون الأوائل يحملون معهم قناعات توراتية، وتفسيرات العهد القديم (التوراة)، والتي انتشرت في إنجلترا ودول أوروبية في القرن السادس عشر، وكانت اللغة العبرية لغة مهمة في المستوطنات الأمريكية الأولى.
وقد أعطوا أبناءهم أسماء يهودية، من قصص التوراة، مثل سارة والعازار وإبراهام وديفيد وموسى.. الخ.
وفي زيارتي الأولى إلى الولايات والمقاطعات الشرقية، فوجئت بتسميات لمدن وقرى كثيرة بأسماء عبرية قديمة، مثل مدينة سالم Salem المأخوذة من الكلمة العبرية «شالوم»، وأسماء أخرى مثل حبرون وكنعان وصهيون وشارون.. الخ.
ودخلت الدراسات اليهودية واللغة العبرية في برامج جامعة هارفارد التي أنشئت في العام 1636، واعتبر هؤلاء «الحجاج» المسمون أنفسهم «البيوريتانيون أو المتطهرون» بأنهم العبرانيون الحقيقيون، وصارت فكرة تنصير اليهود على درجة كبيرة من الأهمية في عقيدتهم لأن «العودة الثانية للمسيح لن تتم دون حدوث ذلك».
وبحسب قراءات تاريخية موثقة، فإن هؤلاء المستوطنين الأوائل أطلقوا على أنفسهم أيضاً اسم «أطفال بني إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة»، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم، وقد ساهم، فيما بعد، مبشرون وعلماء آثار ورحَّالة وحجاج أمريكيون، بزياراتهم إلى أرض فلسطين في القرن التاسع عشر، في إثارة خيال مسيحيي الغرب الأمريكي، وتأسيس مشاعر دينية عنها، ونشر حكايات العهد القديم في أذهان المهاجرين من البروتستانت المسيطرين على معظم المستوطنات الجديدة في أمريكا.
وقد مارس المهاجرون الأوروبيون الأوائل الأسلوب الاستيطاني القديم في قصص العهد القديم، وبخاصة عناصره الخمسة الأساسية، وهي: أسفار التكوين، والخروج، والأحبار، والعدد، والتثنية، وفق ما أورده موريس بكاي في كتابه «القرآن والتوراة والإنجيل والعلم»، والتي تناولت قصة دخول بني إسرائيل أرض كنعان، بعد خروجهم من مصر. وصارت أمريكا عند هؤلاء المهاجرين «كنعان الجديدة»، وشبهَّوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حينما هربوا من ظلم الفرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول في هذه الحالة) حيث فرّوا من أرض مصر (إنجلترا في هذه الحالة) بحثاً عن أرض الميعاد الجديدة.
وقد أنتجت «هوليوود» مئات الأفلام السينمائية التي تصور مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي، مشابهة لمطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين.
وقد خلق التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجداناً متشابهاً ومشتركاً بين «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث، فالذين هاجروا إلى أمريكا في القرنين السابع عشر والثامن عشر أبادوا معظم سكانها الأصليين من الهنود الحمر، واستوطنوا مكانهم، والذين هاجروا و مازالوا يهاجرون من يهود العالم إلى فلسطين في العصر الحديث، استخدموا أساليب متطورة في طرد سكانها العرب الأصليين، واستوطنوا أراضيهم.
وتبدو العبرنة واضحة من خلال ما كان يصدر من مواعظ دينية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، تُشبِّه الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة، وأن العنصر الأنجلوسكسوني «قد اختاره الله لتحضير العالم»، كما أدت هذه الثقافة اللاهوتية إلى أن يقوم الرئيس الأمريكي جيفرسون بتقديم اقتراح إلى الكونجرس بأن «يمثل رمز أمريكا على شكل أبناء «إسرائيل» تقودهم في النهار غيمة، وفي الليل عمود من النار، بدلاً من شعار النسر».
ويتفق هذا الاقتراح مع النص الوارد في سِفر الخروج والذي يقول: «وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم».
تذكرت وأنا أستعيد هذه القراءة التاريخية، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت على الدولار شعاراً يقول: «نحن نثق بالله»، تأكيداً على أن الأمريكيين هم أكثر الشعوب الغربية تديناً، لكنهم متحررون من هذه المسألة دستورياً، علماً بأن أمريكا قد اختارت في البداية شعاراً على عملتها ينص على ما معناه «اهتم بأمورك الشخصية» Mind your Own Business
، أي «لا تتدخل في شؤون الآخرين» وظل هذا الشعار موضع الممارسة الفعلية حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حينما قررت أمريكا تغيير الشعار على عملتها الدولارية، وصار شعارها «نحن نثق بالله».
ولنتخيل جميعاً حال الدنيا، لو بقي الشعار الأول مرفوعاً في سياسة أمريكا الخارجية ومصكوكاً على عملتها، ومجسداً على أرض الواقع.
----------------------
مستعربون أضاؤوا ورحلوا
د. يوسف الحسن
قبل أسابيع على إعلان إنشاء «إسرائيل» استقال (بايارد دودج) الذي أسس الجامعة الأمريكية في بيروت، من منصبه، وعاد إلى مدينته (برينستون) في ولاية نيوجرسي، ونشر مقالاً له في إبريل/نيسان 1948، في مجلة «دايجست» بعنوان: «هل ينبغي أن تكون هناك حرب في الشرق الأوسط؟»، هاجم فيه فكرة قيام دولة لليهود في فلسطين، لأنها ستضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ولأن العرب يعارضون قيام هذه الدولة.
وكتب في مقاله: «إن كل الأعمال التي قامت بها جمعياتنا الأمريكية الخيرية غير الربحية في العالم العربي، مثل: مؤسسة الشرق الأدنى، وإرسالياتنا التبشيرية والتعليمية، وجمعياتنا مثل YMCA و WMCA
، وكلية بوسطن اليسوعية في بغداد، وجامعاتنا في مصر ودمشق، ستكون في خطر الفشل والانهيار، وستلاقي امتيازاتنا النفطية المصير نفسه!!».
وشدد (دودج) على أن هذا سيقوّي موقف «الشيوعيين» الذين ينوون أن يرسلوا آلافاً كثيرة من «اليهود الشيوعيين» الروس إلى «دولة إسرائيل». ولذا دعا (دودج) الجماعات اليهودية المسلحة إلى إلقاء سلاحها، والتحدث إلى العرب.
لقد عكست أفكار مؤسس الجامعة الأمريكية في بيروت رأي الأمريكيين العاملين في الشرق الأوسط، والذين كانوا يعتقدون أن أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي تقترف خطأ سياسياً وأخلاقياً في التعجيل في تقسيم فلسطين من خلال قرار من الأمم المتحدة. وقد واجه كثيرون من العاملين في الجمعيات التعليمية والتبشيرية، الواقع الصهيوني بكل الحجج الدينية والسياسية، لكن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، (ترومان)، وبخلفيته اللاهوتية الأصولية الحرفية، كان ينظر إلى أمثال (دودج) ممن يُسمَّون بالمستعربين، على أنهم «أعداء للسامية»، ويقول في مذكراته: «إن المتخصصين في وزارة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا رافضين لفكرة الدولة اليهودية، إما لأنهم أرادوا أن يسترضوا العرب، وإما لأنهم كانوا معادين للسامية».
ويحضرني في هذا المجال شخصيات أمريكية دبلوماسية وأكاديمية كثيرة، ممن ناهض الصهيونية كفكر وحركة، ول«إسرائيل» ككيان سياسي، من بينهم حاخامات مثل الحاخام (الميربيرجر)، الذي أسس وقاد منظمة يهودية اسمها «البدائل لليهودية الأمريكية للصهيونية» في عام 1942 في نيويورك.
وكذلك الدبلوماسي الأمريكي اليهودي (ألفريد ليلينتال) الذي كان مستشاراً للوفد الأمريكي في اجتماعات مؤتمر سان فرنسيسكو الذي وضع ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، كما كان أحد أبرز المعارضين لمؤتمر «بلتمور» الذي تم فيه توحيد كافة المنظمات اليهودية تحت مظلة الحركة الصهيونية العالمية.
عرفت ليلينتال في الثمانينات، أثناء مشاركتي في مؤتمر بواشنطن، نظمته جامعة أمريكية، وكان قد صار شيخاً طاعناً في السن، وفي أول لقاء لي معه، ذكرت أمامه، أنني قرأت له كتابه الذي أسماه «الحلقة الصهيونية: ثمن السلام». كما اطلعت على مقال قديم له، نشره في مجلة «ريدرز دايجست»، وهو مقال شهير لاقى صدى بعيد المدى في أنحاء العالم، وقد جاء يحمل عنواناً مثيراً وهو «راية «إسرائيل» ليست رايتي».
وفي مرحلة الشباب، قرأت له ترجمة عربية لكتابه «ثمن إسرائيل» وأعجبت بشجاعته كمناهض يهودي للصهيونية، وقد كرّس حياته لمناطحة فكرية ولاهوتية مع قادة كبار من دعاة الصهيونية في الساحة الأمريكية، غير مبالٍ بما لحقه من أضرار مادية وحصار إعلامي واجتماعي، ومطاردات نفسية.
استقال (ليلينتال) من وزارة الخارجية في نهاية الأربعينات وعمل بالمحاماة، وقام بزيارة عدد من الدول العربية، والتقى في مطلع الخمسينات مع المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز، وأجرى معه حديثاً صحفياً، نشرته جريدة «الحياة» ومما جاء فيه على لسان الملك: «إن القضية الفلسطينية يتوقف عليها السلم والأمن في هذه الرقعة من العالم»، وإن نكبة فلسطين خلقتها الصهيونية العالمية بعون ونفوذ ومساعدة السياسة البريطانية والأمريكية، ثم بالمواقف السلبية التي وقفها بعض رجالات العرب أنفسهم».
رحل (ليلينتال) إلى دار البقاء قبل سنوات، وفي قلبه غصة من إهمال العرب له، ومعاملته بقسوة من خلال تجاهله طوال عقدي الثمانينات والتسعينات.
توقف، كما قال لي ذات يوم، «أصدقاء عرب» كما يسميهم، عن دفع الاشتراك السنوي في نشرته الأسبوعية التي كان يحررها واسمها «الموقف في الشرق الأوسط»، وأشاحت منظمات عربية أمريكية بوجهها عنه، وخشيت من عواقب دعوته للمشاركة في مؤتمراتها ومحاضراتها، خوفاً من جماعات الضغط الصهيوني، أو خشية فقدان بعض المساعدات المالية من أمريكيين، يتهمون (ليلينتال) بأنه معاد للسامية.
كانت مودّة عرب كثيرين كبيرة معه، حينما كان الزمان مقبلاً معه، لكن في سنوات شيخوخته، نسوه، وتركوه وسط الطريق.
يبدو أننا كثيراً ما نهمل أصدقاء، أفراداً أو دولاً، باعتبار أن مواقفهم «مضمونة
7:33 م (قبل 3 ساعات)
مستوطنون وهنود حمر
د. يوسف الحسن
شدني في زيارتي الأولى إلى أمريكا قبل عقود، ما يتمتع به غالبية الأمريكيين من البساطة والمرح، وعدم التردد في مشاركة الغرباء الأحاديث وتبادل إشارات الترحيب، والفكاهة.
وكان يشدني دائماً الشغف بالتعرف على تاريخ الأمكنة، وحركة المهاجرين الأوائل إلى هذه القارة المسماة «العالم الجديد» وأحياناً كانت تسمى «الأرض الموعودة».
شغف السفر وعشق المعرفة، والحفر في التاريخ، لا تغيب عن الخاطر، ومعها تحضر القراءات والأفلام السينمائية الكثيرة، التي سجلت تفاصيل العقود الأولى للمهاجرين الأوروبيين إلى الشمال الأمريكي، ومطاردتهم للهنود الحمر، الذين كانوا أول من استوطن أمريكا قبل آلاف السنين قبل الميلاد.
في مطلع القرن السابع عشر، تأسست أول مستوطنة إنجليزية في منطقة فرجينيا، أسموها «جيمس تاون»، وتبعها إقامة مستوطنات أخرى في ولاية «ماساتشوستس»، بدءاً من القرية الساحلية التي أسموها «بليموث» جنوبي بوسطن، حيث نزل على سواحلها أوائل المهاجرين «الحجاج» الهاربين بعقيدتهم اللوثرية من بريطانيا.
كان المهاجرون الأوائل يحملون معهم قناعات توراتية، وتفسيرات العهد القديم (التوراة)، والتي انتشرت في إنجلترا ودول أوروبية في القرن السادس عشر، وكانت اللغة العبرية لغة مهمة في المستوطنات الأمريكية الأولى.
وقد أعطوا أبناءهم أسماء يهودية، من قصص التوراة، مثل سارة والعازار وإبراهام وديفيد وموسى.. الخ.
وفي زيارتي الأولى إلى الولايات والمقاطعات الشرقية، فوجئت بتسميات لمدن وقرى كثيرة بأسماء عبرية قديمة، مثل مدينة سالم Salem المأخوذة من الكلمة العبرية «شالوم»، وأسماء أخرى مثل حبرون وكنعان وصهيون وشارون.. الخ.
ودخلت الدراسات اليهودية واللغة العبرية في برامج جامعة هارفارد التي أنشئت في العام 1636، واعتبر هؤلاء «الحجاج» المسمون أنفسهم «البيوريتانيون أو المتطهرون» بأنهم العبرانيون الحقيقيون، وصارت فكرة تنصير اليهود على درجة كبيرة من الأهمية في عقيدتهم لأن «العودة الثانية للمسيح لن تتم دون حدوث ذلك».
وبحسب قراءات تاريخية موثقة، فإن هؤلاء المستوطنين الأوائل أطلقوا على أنفسهم أيضاً اسم «أطفال بني إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة»، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم، وقد ساهم، فيما بعد، مبشرون وعلماء آثار ورحَّالة وحجاج أمريكيون، بزياراتهم إلى أرض فلسطين في القرن التاسع عشر، في إثارة خيال مسيحيي الغرب الأمريكي، وتأسيس مشاعر دينية عنها، ونشر حكايات العهد القديم في أذهان المهاجرين من البروتستانت المسيطرين على معظم المستوطنات الجديدة في أمريكا.
وقد مارس المهاجرون الأوروبيون الأوائل الأسلوب الاستيطاني القديم في قصص العهد القديم، وبخاصة عناصره الخمسة الأساسية، وهي: أسفار التكوين، والخروج، والأحبار، والعدد، والتثنية، وفق ما أورده موريس بكاي في كتابه «القرآن والتوراة والإنجيل والعلم»، والتي تناولت قصة دخول بني إسرائيل أرض كنعان، بعد خروجهم من مصر. وصارت أمريكا عند هؤلاء المهاجرين «كنعان الجديدة»، وشبهَّوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حينما هربوا من ظلم الفرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول في هذه الحالة) حيث فرّوا من أرض مصر (إنجلترا في هذه الحالة) بحثاً عن أرض الميعاد الجديدة.
وقد أنتجت «هوليوود» مئات الأفلام السينمائية التي تصور مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي، مشابهة لمطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين.
وقد خلق التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجداناً متشابهاً ومشتركاً بين «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث، فالذين هاجروا إلى أمريكا في القرنين السابع عشر والثامن عشر أبادوا معظم سكانها الأصليين من الهنود الحمر، واستوطنوا مكانهم، والذين هاجروا و مازالوا يهاجرون من يهود العالم إلى فلسطين في العصر الحديث، استخدموا أساليب متطورة في طرد سكانها العرب الأصليين، واستوطنوا أراضيهم.
وتبدو العبرنة واضحة من خلال ما كان يصدر من مواعظ دينية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، تُشبِّه الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة، وأن العنصر الأنجلوسكسوني «قد اختاره الله لتحضير العالم»، كما أدت هذه الثقافة اللاهوتية إلى أن يقوم الرئيس الأمريكي جيفرسون بتقديم اقتراح إلى الكونجرس بأن «يمثل رمز أمريكا على شكل أبناء «إسرائيل» تقودهم في النهار غيمة، وفي الليل عمود من النار، بدلاً من شعار النسر».
ويتفق هذا الاقتراح مع النص الوارد في سِفر الخروج والذي يقول: «وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم».
تذكرت وأنا أستعيد هذه القراءة التاريخية، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت على الدولار شعاراً يقول: «نحن نثق بالله»، تأكيداً على أن الأمريكيين هم أكثر الشعوب الغربية تديناً، لكنهم متحررون من هذه المسألة دستورياً، علماً بأن أمريكا قد اختارت في البداية شعاراً على عملتها ينص على ما معناه «اهتم بأمورك الشخصية» Mind your Own Business
، أي «لا تتدخل في شؤون الآخرين» وظل هذا الشعار موضع الممارسة الفعلية حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حينما قررت أمريكا تغيير الشعار على عملتها الدولارية، وصار شعارها «نحن نثق بالله».
ولنتخيل جميعاً حال الدنيا، لو بقي الشعار الأول مرفوعاً في سياسة أمريكا الخارجية ومصكوكاً على عملتها، ومجسداً على أرض الواقع.
----------------------
مستعربون أضاؤوا ورحلوا
د. يوسف الحسن
قبل أسابيع على إعلان إنشاء «إسرائيل» استقال (بايارد دودج) الذي أسس الجامعة الأمريكية في بيروت، من منصبه، وعاد إلى مدينته (برينستون) في ولاية نيوجرسي، ونشر مقالاً له في إبريل/نيسان 1948، في مجلة «دايجست» بعنوان: «هل ينبغي أن تكون هناك حرب في الشرق الأوسط؟»، هاجم فيه فكرة قيام دولة لليهود في فلسطين، لأنها ستضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ولأن العرب يعارضون قيام هذه الدولة.
وكتب في مقاله: «إن كل الأعمال التي قامت بها جمعياتنا الأمريكية الخيرية غير الربحية في العالم العربي، مثل: مؤسسة الشرق الأدنى، وإرسالياتنا التبشيرية والتعليمية، وجمعياتنا مثل YMCA و WMCA
، وكلية بوسطن اليسوعية في بغداد، وجامعاتنا في مصر ودمشق، ستكون في خطر الفشل والانهيار، وستلاقي امتيازاتنا النفطية المصير نفسه!!».
وشدد (دودج) على أن هذا سيقوّي موقف «الشيوعيين» الذين ينوون أن يرسلوا آلافاً كثيرة من «اليهود الشيوعيين» الروس إلى «دولة إسرائيل». ولذا دعا (دودج) الجماعات اليهودية المسلحة إلى إلقاء سلاحها، والتحدث إلى العرب.
لقد عكست أفكار مؤسس الجامعة الأمريكية في بيروت رأي الأمريكيين العاملين في الشرق الأوسط، والذين كانوا يعتقدون أن أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي تقترف خطأ سياسياً وأخلاقياً في التعجيل في تقسيم فلسطين من خلال قرار من الأمم المتحدة. وقد واجه كثيرون من العاملين في الجمعيات التعليمية والتبشيرية، الواقع الصهيوني بكل الحجج الدينية والسياسية، لكن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، (ترومان)، وبخلفيته اللاهوتية الأصولية الحرفية، كان ينظر إلى أمثال (دودج) ممن يُسمَّون بالمستعربين، على أنهم «أعداء للسامية»، ويقول في مذكراته: «إن المتخصصين في وزارة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا رافضين لفكرة الدولة اليهودية، إما لأنهم أرادوا أن يسترضوا العرب، وإما لأنهم كانوا معادين للسامية».
ويحضرني في هذا المجال شخصيات أمريكية دبلوماسية وأكاديمية كثيرة، ممن ناهض الصهيونية كفكر وحركة، ول«إسرائيل» ككيان سياسي، من بينهم حاخامات مثل الحاخام (الميربيرجر)، الذي أسس وقاد منظمة يهودية اسمها «البدائل لليهودية الأمريكية للصهيونية» في عام 1942 في نيويورك.
وكذلك الدبلوماسي الأمريكي اليهودي (ألفريد ليلينتال) الذي كان مستشاراً للوفد الأمريكي في اجتماعات مؤتمر سان فرنسيسكو الذي وضع ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، كما كان أحد أبرز المعارضين لمؤتمر «بلتمور» الذي تم فيه توحيد كافة المنظمات اليهودية تحت مظلة الحركة الصهيونية العالمية.
عرفت ليلينتال في الثمانينات، أثناء مشاركتي في مؤتمر بواشنطن، نظمته جامعة أمريكية، وكان قد صار شيخاً طاعناً في السن، وفي أول لقاء لي معه، ذكرت أمامه، أنني قرأت له كتابه الذي أسماه «الحلقة الصهيونية: ثمن السلام». كما اطلعت على مقال قديم له، نشره في مجلة «ريدرز دايجست»، وهو مقال شهير لاقى صدى بعيد المدى في أنحاء العالم، وقد جاء يحمل عنواناً مثيراً وهو «راية «إسرائيل» ليست رايتي».
وفي مرحلة الشباب، قرأت له ترجمة عربية لكتابه «ثمن إسرائيل» وأعجبت بشجاعته كمناهض يهودي للصهيونية، وقد كرّس حياته لمناطحة فكرية ولاهوتية مع قادة كبار من دعاة الصهيونية في الساحة الأمريكية، غير مبالٍ بما لحقه من أضرار مادية وحصار إعلامي واجتماعي، ومطاردات نفسية.
استقال (ليلينتال) من وزارة الخارجية في نهاية الأربعينات وعمل بالمحاماة، وقام بزيارة عدد من الدول العربية، والتقى في مطلع الخمسينات مع المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز، وأجرى معه حديثاً صحفياً، نشرته جريدة «الحياة» ومما جاء فيه على لسان الملك: «إن القضية الفلسطينية يتوقف عليها السلم والأمن في هذه الرقعة من العالم»، وإن نكبة فلسطين خلقتها الصهيونية العالمية بعون ونفوذ ومساعدة السياسة البريطانية والأمريكية، ثم بالمواقف السلبية التي وقفها بعض رجالات العرب أنفسهم».
رحل (ليلينتال) إلى دار البقاء قبل سنوات، وفي قلبه غصة من إهمال العرب له، ومعاملته بقسوة من خلال تجاهله طوال عقدي الثمانينات والتسعينات.
توقف، كما قال لي ذات يوم، «أصدقاء عرب» كما يسميهم، عن دفع الاشتراك السنوي في نشرته الأسبوعية التي كان يحررها واسمها «الموقف في الشرق الأوسط»، وأشاحت منظمات عربية أمريكية بوجهها عنه، وخشيت من عواقب دعوته للمشاركة في مؤتمراتها ومحاضراتها، خوفاً من جماعات الضغط الصهيوني، أو خشية فقدان بعض المساعدات المالية من أمريكيين، يتهمون (ليلينتال) بأنه معاد للسامية.
كانت مودّة عرب كثيرين كبيرة معه، حينما كان الزمان مقبلاً معه، لكن في سنوات شيخوخته، نسوه، وتركوه وسط الطريق.
يبدو أننا كثيراً ما نهمل أصدقاء، أفراداً أو دولاً، باعتبار أن مواقفهم «مضمونة