وقالت نملة ( الأمانة )
.. لما قرأت هذا السياق القرآني البالغ الإمتاع هزّ وجداني أن الله الكبير المتعال يحدثنا عن نملة ، نملة نحن نهرس صفا منها غير آبهين بحيواتهم ، ثم استرجعت ماشهدت وعاينت بنفسي وأنا أذاكر في منتصف الليل أيام الثانوية العامة حينما مر صرصور على مسافة أمتار مني فخلعت النعل المنزلي وألقيته عليه فصرعته ، وأسعدتني قدرتي على التصويب ، وبعد دقائق وجدت صفا من النمل يقترب جداً من الصرصور الهالك فتتبعته فوجدتهم ينتشرون حوله تمهيدا لحمله ، وبعد السير به عدة سنتيمترات وجدت صفا من النمل آخر يقترب من جهة مغايرة للجهة التي أتى منها الفريق الأول ، ظننت أنني سوف أشاهد معركة ضروساً بين الفريقين ، ولكني والله الذي لاإله غيره ولارب سواه وجدت الفريق الحامل يتخلى عن الصرصور ويتراجع عنه مسافة بضعة سنتيمترات ، ثم وجدت نملة من كل فريق يلتقيان بجوار جثة الهالك ، وبعد دقيقتين وجدت فريقين صغيرين من كلا الفريقين يصعدان على جثة الهالك وبعد أقل من الدقيقة وجدت جثة الصرصور منقسمة إلى شقيْن طوليا وليس عرضيا ، ثم حمل كل فريق نصفه وتوجه راجعاً من الطريق الذي منه أتى ، تعجبت يومها من العدل الذي يعنيه التقسيم الطولي ، والحكمة في التفاوض واحترم حق الآخرين ، ثم تعجبت من الإدارة والتنظيم والسمع والطاعة ، وحتمية عناصر القيادة متسعة الصدر ، وقبل ذلك عناصر الإستطلاع التي أخبرت كلا الفريقين بوجود غنيمة جاهزة للإقتتات بها .. مملكة يقدمها لنا ربنا في سطر واحد من كتابه المجيد ، ويحمل قولُ النملة في هذا السطر القرآني الخالد عشرةَ من صنوف اساليب البيان في لغتنا المجيدة ومنها النداء والتخصيص والتنصيص والأمر والإلتفات والإنذار والتحذير والإعذار ... .
.. فإذا كان الله عنى بأمر النمل هذه العناية وحكى عن منظومته هذه الحكاية ، فكيف بي وكيف نظره إليّ ، وعلمه بأمري ، وإحاطته بأعمالي وأقوالي ... ثم هذا الهدهد الذي علمنا كيف الغيْرة على توحيد الله بينما ملايين من البشر يسجدون أمامه للشمس من دون رب العالمين .. وهذا الغراب الذي يعلّم ولد آدم وعلمنا من بعده كيف نواري سواءتنا الجسدية بعد الموت ، وهذا الكلب الذي صاحب الصالحين الطيبين الطاهرين الأبرار وقام على حراستهم بوصيد الكهف كأنما يحرس كنز إيمانهم وطيبات قلوبهم ، وكان يمكن أن يتركهم ليبحث عن قوته وحاجاته .
.. نماذج كثيرة أخبرتني أنهم لن يُتركوا في أجرامهم تلك ، وإنما سيحل عليهم الدور بعد ذلك لعرض الأمانة عليهم فيختارون حملها كما اختار الإنسان حملها ، لينقل نفسه من شأن الطين الصلصال والحمأ المسنون إلى الكيانات المتحركة الناطقة التي تقود الحركة على الأرض وتبدع في إعمارها بموهوبات الله لهم في المادة والفكر على حد سواء ، ثم بعد مضي أعمار الإختبار بالإستخلاف يمثلون في قيامة جديدة أمام رب العالمين للمحاسبة عما أسلفوا فمن صلح وأطاع نجا وأُدخل الجنة ، ومن أحب الله سيده وخالقه ورازقه وباعثه وجاهد في سبيله إرتقى إلى مصاف الملائكة فالآيات كثيرة عن فرق المؤمنين الذين سيسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ، فكيف ترى تمام النور إلا بمشابهة الملائكة أو الإنتظام في سلكهم ، وإذن فالملائكة لم يكونوا ملائكة كما في اجتهاد تفكيري إلا بعد مرورهم بتجارب الإستخلاف السابقة والتي أثبتت كامل محبتهم وطاعاتهم لربهم وجهادهم في سبيله ، وهذا مايقتضيه عدل الملك الحق المبين بين جميع خلقه ، وهم صفوف وصنوف ومراتب مثلما ترى صفوف وصنوف ومراتب أهل الحق على الأرض .. وربما يكون هذا التصور الخاص بالملائكة هو التفسير المثالي لقول الملائكة عن استخلاف الإنسان ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... ) ، فلو ان أحدنا انضم إلى سلك الملائكة بعد تمام الحساب يوم القيامة ثم وجد ربه يخبره عن استخلاف الغربان مثلا فلربما يقول قولا مشابها لقول الملائكة عنا عند إزماع استخلافنا ، وهذا يعني أننا مثل الملائكة في عدم اكتمال العلم بتفاصيل كل شيئ لذلك كانت إجابة الله عليهم ( إني أعلم مالاتعلمون ) .
.. ولذلك فأتصور - ولاأوقن ولاأجزم - أن كل الكائنات الموجودة على الأرض سيحل عليها الدور في الإستخلاف بعد نهاية استخلافنا الذي بقي فيه أقل من ربع عمر استخلاف الإنسان كما أشار النبي بأصبعيه أنه والساعة كهاتين ثم قرب بين إصبعيه صلى الله عليه وسلم .. وربما نقرأ ونحن في الملأ الأعلى إذا نجونا ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها النمل ( مثلا ) إنه كان ..... ) .
.. وربما نجد فعلا أن لكل كوكب في الأرض مُستخلفيه من مكونات خلقه ، فنسمع مشابها لقول الله في قرآننا ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والمريخ / والزهرة / وعطارد / والشمس .... والجبال فأبين أن يحملنها .... ) ، ربما ، ربما ، تصورات فقط لإنسان علم مالم تعلمه أجيال من السابقين أن الأرض كما قال النبي بالنسبة إلى السماء الأولى كحلقة في فلاة ، فتصور أن لايمكن أن تكون بقية الأجرام السماوية الهائلة فارغة من الإستخلاف .. قد .. قد .. أقبل اقدامكم إنها مجرد تصورات أتاحها لي هذا السؤال القرآني من سورة يونس .. ( قل هل من شركائكم من يبدؤاَ الخلق ثم يعيده ، قل الله يبدؤاَ الخلق ثم يعيده ... ) ، وقوله تعالى في سورة البروج ( إنه هو يبدئ ويعيد ) ، إنه يبدأ الخلق كله للكون كله ، لإن القيامة لكل الإستخلافات الكائنة في كل الأجرام الكونية ولذلك فإنهاء الخلق سيشمل كل الكواكب والنجوم والجبال والسماوات والأرض طبعا ، ولو كانت القيامة قاصرة على مستخلفي الأرض من الإنس والجن لكان إنهاء الأرض بصدام بجزء من نجم واحد كبير كافيا ، أو باقتراب الشمس مثلا بنحو من بضعة آلاف من الكيلومترات كافيا أيضاً لصهر الأرض وتبخير ماءها وإنهاء حياتها .. أما لماذا لم يذكر الله لنا عن استخلافات بقية الكون فلأننا لانتواصل معهم ويكفينا مؤنة استخلافنا وتبعاته ، كذلك تصور أن أي إشارة في الكتب السماوية إلسابقة إلى استخلافات الأجرام والافلاك الأخرى كيف كانت ستواجه بكميات تكذيب مهولة ، مثل تكذيب الاسراء والمعراج مثلا ، أما الأمم المعاصرة فلقد شهدت صور تلسكوب هابيل ، وقريبا جدا تلسكوب ويب فنتائج تحليل صور هذين التلسكوبين منحت الأجيال المتأخرة فرصة أن تدرك بعضا من هذه التصورات .
.. شكر الله لكم تحملكم قراءة تصوراتي التي لاألزم بها أحدا ، ولكن لعلنا نكون يوم القيامة من الذين يشرفون بتصديق الله لاجتهادات فكرهم . / عادل الشريف