د بشرى عبدالله اللهو ...
تقول:كانت جدتي تعيش معنا، وكانت منذ صغري مصدر فضول لي، فكنت أرقبها في كل صغيرة وكبيرة، فهي تختلف عنا كثيرا، وفي كل شيء، فحين كنت أنهض من مقعدي في ثانية، كانت جدتي تأخذ وقتا طويلا كي تتكئ على عصاتها وتنهض، وتستغرق وقتا أطول لكي تسير، والكثير الكثير لتصل إلى دورة المياه، كما أنها لا تأكل مثلنا، فهي تأكل قليلا ولا تشاركنا في أكل الحلويات والكثير من أنواع الأكل،.فكان هذا مصدر استغراب منى، إلا أنه كان هناك شيء واحد يزعجني في جدتي، وهو انهمار دموعها فكانت دموعها ﻻ تتوقف، فإن زارنا أحد أقاربها أو جيرانها السابقون بكت عند دخولهم فرحة بهم، وإن غادروا بكت لفراقهم، وليست الزيارة فقط تثير المشاعر بل حتى المكالمة الهاتفية..
ـ جدتي المكالمة تكلف نقودا، تحدثي أثناءها فقط، وإذا أغلقت السماعة فابك كما تشائين.
وإن سمعت خطبة مؤثرة بكت، وحتى إنها تبكي لنشرة الأخبار كلما أذاعوا خبرا عن مصاب للمسلمين، ولأنه ولله الحمد والمنة مصائب المسلمين شبه يومية، فكانت جدتي لا تتوقف كل يوم عن البكاء.
مع العلم أن بصرها ضعيف، لا تشاهد المناظر المؤلمة التي تراها، إلا أنها تتأثر وتبكي بحرقة، ثم تقوم بالدعاء الحار وكأن القتلى أبناؤها ، وكثيرا ما يرأف لحالها والدي فيقوم بتغيير القناة الفضائية على تمثيلية اجتماعية فنفرح نحن الصغار، إلا أن فرحنا لن يطول، فلا بد ﻷية تمثيلية عربية أن تكون هناك امرأة تبكي ولا أدري هل البكاء هو أحد مقومات حياتنا اليومية، ،هل هو جين وراثي عربي؟؟!! فلا بدأن يكون هناك في التمثيلية أم تبكي لفراق ولدها أو مرضه أو موته، والمتفاعل الوحيد في أسرتي هي جدتي التي تنهمر بالدموع بغزارة.
جدتي هذا ليس حقيقة ،هذا تمثيل، الممثلة تقبض مقابل بكائها، فماذا أنت تقبضين مقابل دموعك؟
وكان يراودني تساؤل، هل دموع جدتي حقيقية أم هي تتصنع البكاء؟
توفيت جدتي، وبكينا لفراقها ،إلا أنني عقدت العزم أن لا أكون مثل جدتي أبدا في بكائها
كبرت، تزوجت، أنجبت، ولم أنتبه لنفسي أنه أصابني ما أصاب جدتي، فرويدا رويدا بدأت دموعي بالهطول سريعا، وكأنها وكالة دون بواب
وتعرضت لمواقف محرجة بسببها، منها أني حضرت حفلا مدرسيا وكنت قد أمضيت الوقت الطويل للتأنق وفق وصية ابنتي فإذا أول الحفل نشيد عن الأم، وانهمرت دموع أبت أن تتوقف، فأصبح وجهي مثل خريطة حين ساح المكياج عليها، وكذلك لا يتحمل قلبي رؤية نشرة الأخبار عن أي مصاب للمسلمين وإن ضغطت على نفسي وأجبرتها على المشاهدة
فإن تلك الليلة لا أستطيع أن أنام لكوابيس تطاردني وهي أنني أرى نفسي من جنسية ذلك البلد وأرى زوجي وأبنائي قد عذبوا أمامي
بل وصل بي اﻷمر إلى مستوى أسوأ من جدتي فأي منظر بكاء في التلفاز في أي لغة في العالم ولو كانت في اللغة الصينية يبكيني وإن لم أفهم ما يقولون؟
إلا أن نفسي فاجأتني بمستوى من العاطفة الجياشة لا يصدق،
فتحت التلفاز يوما فإذا أنا أمام قناة للرسوم المتحركة قد شاهدها أبنائي قبل مغادرتهم جميعا إلى المدرسة وضعت إفطاري أمامي، وقررت أخذ استراحة محارب، بحثت عن جهاز التحكم فلم أجده، فجلست أتابع الرسوم ولا أدري لم تابعتها ،ربما بسبب بقايا طفولة لم تشبع، ويا ليتني لم أفعل، ظهرت بطة صفراء تسبح في البركة، وتصرخ في اللغة الانجليزية ماما ماما، تبحث عن أمها، لم أستطع إكمال فطوري، وانهمرت دموعي وبدأ صوت نشيجي يرتفع، وأخيرا وجدت البطة الصغيرة أمها، وفجأة دق جرس الهاتف، فاستيقظت مما أنا فيه، ومسحت دموعي، وحمدت الله أنه لم يرني أحد.
كان زوجي على الهاتف فأنكر صوتي:
ماذا بك؟
ماذا أقول هل أخبره أني كنت أبكي على بطة صفراء
- تذكرت جدتي رحمها الله كيف كانت رقيقة القلب سريعة الدمع هل تظن أن هذا الأمر وراثة؟!