اضواء لدراسة السلوك الانساني وضبطه
كان وما زال ضبط السلوك الانساني هو مناط جهود المتشرعين والفلاسفة عبر مسيرة الزمن ، و فهم كنهه هو مشكلتهم الحقيقية، التي كانت ومازالت قائمة على مر الايام والسنون عبر مسيرة التاريخ البشري وتتابع قرونه ...
وقد جاء الاسلام ليعالج قضايا الانسان بوصفه انسان، ويضبط سلوكه ومساره بما يليق بانسانيته ويرتقي به عن مسار البهيمية، وينهض بسلوكه في الحياة الدنيا بما يستقيم به امره ويصلح به حاله ، ويربطه بخالقه الذي فطره، ويربط دنياه الفانية باخرته الباقية . كفرد و كجنس مكرم على العالمين ولا ينبغي له السفول او الانحطاط و ضلال السبيل .
فهو رسالة الرب الاله الخالق المدبر لمن احسن خلقه، واقام فطرته في احسن تقويم ، وجعله المستخلف في الارض ومناط التكليف والتشريع والخطاب الرباني ....
فان استقام بها فكرا وعقلا وسلوكا ، سما و بقي على استقامة الفطرة التي خُلق عليها. وان نكص عنها رد الى اسفل سافلين، واصبح اضل سبيلا من الانعام التي خلقت مسخرة له.
والسلوك الانساني هو موضوع الرسالة وما حملته من شرائع. و لو سبرنا النشاطات البشرية لنحدد مفهوم السلوك، لوجدناه يشمل معتقد الانسان وبالتالي فكره المستند الى معتقده والمشكل لمفاهيمه والمحدد لقيمه ،و المعبر عنها باقواله والمترجم لها بافعاله المقترنة بغايته ومقصده .
اذا نستطيع ان نعرف السلوك الانساني بانه :- كل ما صدر عن الانسان من نشاط عقائدي او فكري او قول او فعل او غاية ومقصد .
والمعتقد هو قاعدة التفكير واساس بناء الفكرة، وهو مقياسها انسجاما او خلافا، فالفكرة بنت المعتقد، والقول صورتها التي تنتقل بها الى الاذهان ، والفعل ابن الفكرة المجسد لها في الواقع . وتبقى النية او الغاية هي الباعث على احداث الفعل او القول.
ويخضع السلوك الانساني للعوامل التاليه التي توجد الفعل وتحدد نوعيته و
تمنحه هويته:-
1=الدوافع الاشباعية :- سواء كانت دوافع : أ- اشباع الغرائز المثيرة والمتطلبة للاشباع، او :- ب- دوافع عضوية لاشباع الحاجات العضوية.
واما الحاجات العضوية فان مثيراتها داخلية، متعلقة بجسد الانسان وما يحتاجه من ماكل ومشرب وتنفس ودفيء ومأوى ودواء، وما يتعلق بحياة الجسد وحفظه قادرا على الاستمرار حيا، و قادرا على ممارسات نشاطاته آمنا. فيحس الانسان بالجوع اذا استهلك كمية الغذاء التي تناولها، ويشتهي اصنافا معينة من الطعام و الماكولات، تحتوي عناصر غذائية و معادن الجسم يحتاجها ويتطلبها، لتوفر له الطاقة الحيوية اللازمة له، للقيام بنشاطاته و انجاز اعماله. فالاحساس بالجوع والعطش والبرد والحر واشتهاء صنف معين من الطعام او الشراب، احساس جسدي داخلي يدفع الانسان ليشبع حاجته العضوية، التي ان لم يشبعها ادى ذلك الى وهن جسده وموته.
اما الدوافع الاشباعية الغريزية، فانها متعلقة بالغرائز التي فطرها الله تعالى في النفوس، وجعلها تثار لدى الانسان بمثيرات خارجيه، واشباعها يؤدي الى راحة النفس واستقرارها ، وعدم اشباعها لا يؤدي الى الموت كالحاجات العضوية، انما يؤدي الى الاضطراب والقلق وعدم استقرار النفس .
فانت لاتحس من داخل جسدك انك بحاجة الى ولد او زوج او امتلاك شيء او دفع خطر الا اذا اثير هذا الاحساس عندك بمثير خارجي، وادركت حاجتك اليه اما بالتفكير به او برؤية ما يثير اشواقك اليه، فلذلك حين نقول منع الاسلام الزنا، نجده قد منع دواعيه، ومنع اسبابه ،ومنع الظروف التي قد تحدثه، فمنع الاختلاط، ومنع التبرج، ومنع الخلوة في المكان. ولما منع السرقة منع الظلم في توزيع الثروة، ومنع حرمان الناس فرص العمل، ومنع تكدس الثروة بايدي فئة الاغنياء، ومنع الاحتكار والربا والغش والغبن والاستغلال والسخرة، وجعل المجتمع والافراد كل يتحمل مسؤلية تجاه الاخر، وجعل الدولة راعية للناس تشرف على رعاية شؤونهم، وتنظم لهم امور حياتهم فهي والد من لا والد له ومعيل من لا معيل له .
وشرع الحقوق والواجبات التي تستقيم بها طرق الاشباع للحاجات عضوية كانت ام غريزية. فكفل للامة اشباع حاجاتها العضوية والغريزية بتشريع الصدقات والزكاة والنفقات الواجبة والمندوبة، وكفالة من لا كافل له، في ظل تامين حياة آمنة مستقرة، تكفلها منظومة تشريعية متكاملة، العمل بها عبادة يتقرب بها الى الله تعالى ونوال رضوانه، وتحرسها منظومة عقوبات رادعة زاجرة ....
اذا نجد ان الاسلام انتبه في تشريعه للاحكام بالمثير ات ،و وضع لها ما يضبطها ويعالج امرها ، ويعالج اشباع ما تثيره من متطلبات الاشباع وفق ما يرقى بالانسان عن مستوى السلوك الحيواني البهيمي، ووفق ما يليق بكرامته الانسانية كفرد وكجنس مكرم لا ينبغي له السفول.
2=الغاية من الفعل او السلوك او القول او التفكير.
ليس هناك من فعل ذهني او بدني يحدثه الانسان، الا و وراءه غاية باعثة على احداثه، وهي غرضه ومطلبه ومقصوده الذي يريد تحقيقه والوصول اليه. وان لم يكن غاية وهدف فيكون الفعل او السلوك لهوا ولعبا وعبثا لا قيمة له، بل قد يحصل به الضرر والاذى لنفسه او للاخرين ، والعبث في الحياة مرفوض ، لانها دقات دقائق تمضي متسارعة ولا تعود ، والعبث يؤدي الى الفوضى والاستهتار والاضطراب وعدم الاستقرار ،فلذلك ربط الاسلام الاعمال بالغايات والنية والمقاصد من حيث تنظيمها وضبطها، كي لا يكون الانسان عابثا فوضويا، وليربط افعاله بغايات واضحة سامية تسمو به عن عبث القردة ودناءة وقذارة الخنازير .
فلذلك وجدنا الافعال تاخذ قيمتها من غاياتها ، حيث ان الفعل هو الوسيلة لتحقيق الغاية، سواء كانت تلك الغاية في نفس الفعل او منفصلة عنه، فالعبادة المحضة كالصلاة والصوم لايقوم بها الانسان ولم يشرعها الشارع الحكيم لذاتها، بل لتحقيق غاية عليا وهي ربط الانسان بربه لنوال مرضاته، وتناول الطعام بحد ذاته غاية الجائع ليشبع جوعته، لكن ان تناوله حراما اثم ، مع انه مشبع ، وان تناوله حلالا أُجر مع انه حاجة ملحة تطلبت الاشباع .
وتتحدد الغاية بحسب وعي الانسان وتصوره المبني على قيمه وافكاره ومفاهيمه المستندة الى وجهة نظره الاعتقادية التي ينطلق منها تفكيره .
3=الاساس الفكري وقاعدة التفكير :- هذا الامر هو الذي يحدد صبغة الانسان وهويته في الوجود، وعلى اساسه يكرم الانسان ويرتقي او يهان فنحط و ينحدر.
فالمكون الاساس لشخصية الانسان هو فكره ومعتقده الذي يعطيه الدوافع ويوجه عنده السلوك. وقد يكون للبيئة التي يعيشها و يالفها الانسان بالغ الاثر في تكوين عقليته ومفاهيمه وقيمه، وبالتالي انماط سلوكه، فلذلك عني الاسلام بخلق بيئة نظيفة طاهرة، لينموا فيها الانسان ويترعرع في احضان الفضيلة والطهر، لتزكوا نفسه وتطهر من كل الملوثات التي قد تفسد فطرته، فكرية كانت او سلوكية شهوانية منفلتة .
فالعقيدة توضح الرؤيا وترسم غاية الحياة، والشريعة ترسم المنهج و الاسلوب للعيش اللائق بانسانية البشر، لتصنع بذلك المجتمع النموذج، والانسان الفاضل، الساعي الى مراقي الفلاح والتكامل والنجاح، واعمار الارض بما اراد لها الله من فضيلة وطهر.
.((واتبعت ملة ابائي ابراهيم واسحق ويعقوب وما كان لنا ان نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون ))
والحمد لله رب العالمين على نعمة الاسلام واعظم واكرم بها من نعمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2021-08-19, 8:00 am عدل 1 مرات