دروس وعبر ومواعظ الحج (4)
رحلة السلام
ما من عاقل على وجه الارض حكيما متزنا الا وينشد عموم السلام لربوع الارض وارجاء المعمورة، لان السلام يعني الامن والامان والاستقرار والراحة والطمانينة، التي بها يلذ العيش وتهنأ البشرية، وتنتعش الحضارة وتزدهر المدنية، ويتوسع العمران.والاسلام جاء ليبشر الناس في حال سيادة احكامه وتعاليمه بالسلام للبشرية، وقد كان عليه السلام يبشر اصحابه بالامن وهو في مكة المكرمة، وان الراعي او الظعينة سيسير من صنعاء اليمن الى بصرى الشام لا يخشى احدهما الا الله او الذئب على غنمه . فالسلام لا يحققه فعلا الا سيادة شرع الله واحكامه وبسط نفوذ الاسلام على ارجاء المعمورة.
مجتنبا ومحاربا عصيان الله تعالى مهما جلب له ما يظنه قاصر النظر مصالح ومكاسب، لان الخسران والفساد في عصيان امره ومخالفة نهيه سبحانه. فلن تكون في امان وسلام مع الله حتى تامن عذابه وعقابه في الدنيا والاخرة وتحصل على رضاه و توفيقه وتسديده لك ولمسارك.
فالزمان اشهر حرم تغلظ فيها الاثام والخطايا وتعظم فيه المعاصي والذنوب وتحقن فيها الدماء. والمكان حرم آمن من يرد فيه بالحاد يذقه الله تعالى من عذاب اليم.والمواقيت المكانية للاحرام مسافات متباعدة عن البيت ومكة التي كلها حرم يحرم على الانسان عاقد النية من تلك المواقيت ايذاء البشر والشجر والحيوان، فيسير الى مكة محرما بالحج او العمرة او كليهما معا مئات الكيلو مترات معلنا السلم والسلام مع الانسان والحيوان والطير والشجر والنبات، فلا يعضد شجرة ولا يصيد طيرا ولا يصطاد وحشيا من الانعام، ولا يجوز له الفسوق او الرفث او الجدال في الحج مع البشر، متجردا من كل شهواته واهوائه وهواياته، مقبل على الله تعالى، منقطع لذكره، عاقد العزم على تلبيته لامره، فلن يكون الا حيث امره سبحانه، ولن يجده تعالى حيث نهاه، محققا وساعيا لتحقيق لبيك اللهم لبيك ..
انها رحلة السلام والصفاء مع الله تعالى في الحياة والوجود، وتوبة العمر له، وبين يدي ربه، تقطع لها الفيافي والقفار، وتتحمل مشاق الرحلة ومتاعب الاسفار، لتتحصل على المغفرة والثواب، لترجع كيوم ولدتك امك، وقد اغتسلت من خطاياك وذنوبك، وتربيت على الحرص على الطاعة وجانبت المعصية..يقول تعالى : " لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب" (البقرة:196)، "ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه" (الحج:28).. "لا رفث": يمنع في الحج منعاً جازماً حاسماً الاستجابة لشهوة الفرج، وكل ما يتصل بها، ويمهد لها، أو يحركها - من قول أو فعل أو إشارة.حتى مع زوجك وحلالك.
"لا فسوق": ويمنع في الحج ارتكاب أي مخالفة شرعية.. والمعاصي والمخالفات يعظم إثمها بعظم حرمة زمانها ومكانها، وبمقدار التشديد والتوكيد في النهي عنها .. وكل ذلك متحقق في الحج؛ إذ مخالفة الشرع منهي عنها نصاً خارج وقت الحج، ونصاً أيضاً في وقت الحج, إضافة إلى حرمة زمان الحج ومكانه.. ومن ثم،على الحاج أن يلتزم في أثناء مدة حجه بأعلى درجات الطاعة والانضباط.. التي تعودتها ايها المؤمن قبل ايام في حياتك مع شهر الصوم، وإذا كان الشرع قد كف الحاج عن عدد من المباحات، فكيف لا يكف الحاجٌ نفسه عما هو محرم ومنهي عنه من أصله.
"لا جدال": الحاج في أمس الحاجة للصفاء ولاستغلال وقته والاستفادة منه.. والجدال - في أغلب الأحيان- مضيعة للوقت، ومٌذهب للصفاء، وسبب للمشاحنات، ومقدمة للخصومات والمنازعات.. ولذلك نهى الله عن الجدال في الحج.
ليبق الموسم موسم صفاء وسلام للنفوس المؤمنة الطاهرة التي يقبل اصحابها على ربهم اخوانا بقلب سليم ...
"ومن يعظم حرمات الله": إن الحاج ضيف من ضيوف الرحمن، بل هو نزيل بيت الضيافة الرباني.. ونحن إذا كنا ضيوفاً على غيرنا من الناس نكون على غاية ما يمكن من الأدب والهدوء والانضباط والالتزام واللياقة، فكيف بمن يكون في بيت الله وضيافته؟ وكيف إذا كان المضيف في غاية الكرم و الإكرام والتنعيم لضيفه ونزيل بيته؟ إن الإساءة في مثل هذا المقام جريمة، بل وفضيحة تسير بها الركبان !ويفرح بها ويحث عليها الشيطان.. وكلما زادت حفاوة التكريم والاستقبال كلما كان الاحترام للمضيف اكبر فكيف اذا كانت هذه صفاته ومنزلته اعظم؟؟
ومن اعظم منزلة واكرم نزلا من الله تعالى الرازق الوهاب!!
"وتزودوا فإن خير الزاد التقوى": على الحاج - وهو يستعد لسفره, ويتزود لرحلته- أن يتذكر أنه عما قريب سيفارق أهله وولده وبلده وماله إلى غير رجعة، وأن عليه أن يتزود أكثر وأكثر لسفره الأكبر، ورحلته الأخطر .. وليتعلم من رحلته إلى الحج - وتزوده لها، ومفارقته من يحب وما يحب- أنه لابد مرتحل ومفارق، وأن لكل ارتحال زاداً واستعداداً، وأن زاد الآخرة هو التقوى والعمل الصالح.. ومن أهم لوازم التقوى أن يبرئ المرء ذمته من المظالم وحقوق العباد؛ فيرد منها ما يمكن رده، ويستسمح من يمكن الاستسماح منه، ويستغفر الله ويتوب إليه مما لا يعلمه ولا يستطيع رده ولا التحلل منه؛ حتى لا يكون في سفره –الأصغر والأكبر- مثقلاً ومكبلاً بالمظالم وآثامها.
اللهم نسالك الهدى والتقى والتوبة النصوح وحجا مبرورا وان تجمع امة الاسلام على طاعتك واقامة شرعك واحكام دينك في مشارق الارض ومغاربها في ظل راية نبيك وان تعقد للامة امرا رشدا يعز به اولياؤك واهل طاعتك ويردع به اهل الاثام والمعاصي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2023-06-18, 8:05 am عدل 2 مرات