بالحب والحديد.. يحيا الانسان ويتفوق
في الظل: علا عوض.. فارسة على جواد

بيت لحم 2000 - بثينة حمدان - لا تمتلك جوادًا ولا معلّمًا للفروسية، إلا أن عشقها للخيل في وقفته وشموخه وصهيله جعلها تمتطي الحصان وتنشئ لغة مشتركة وتصبح فارسة بلا جواد، هي المقدسية علا فرح عوض رئيسة الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، مواليد القدس عام 1975 من قرية كفر عقب. انتخبت بجدارة ودون أن تترشح مؤخرًا لتكون رئيسة الرابطة الدولية للإحصاءات الرسمية وهي أول شخصية عربية تتقلد هذا المنصب، وهي أيضًا على مسافة قريبة من درجة الدكتوراة من جامعة ليفربول... الطفلة الشقية صارت وتصورت!

المرأة الحديدية.. وكي الجوارب

حين تدق بخاتمها الصليب باب الصف، يسود الصمت والرهبة فيتنفس حتى الأستاذ الصعداء مبتلعًا ريقه، فالكل يعرف أنها المربية أرطانس نخلة مديرة مدرسة الراهبات الوردية في بيت حنينا بالقدس، ويقال عنها إنها "المرأة الحديدية".

ضمن هذه الأجواء نشأت بتربية صارمة ومتشددة، الخطأ فيها ممنوع وإذا نسيت طالبة غرّتها على جبينها تقوم المعلمة بقصها أمام الجميع.

كانت علا نموذجًا يحتذى به فتدعوها إدارة المدرسة هي وشقيقتها الكبرى منى للوقوف على المنصة صباحًا لترى الطالبات أفضل نموذج في الالتزام بالزي المدرسي، كيف لا وكانت والدتها راهبة في تربيتها وعسكرية كما تصفها علا إلى درجة كي الجوارب!

وصية زمن شحيح الوعي

تزوجت جميلة والدة علا من فرح وهو تاجر ميسور في الخمسين أنهى أعماله في الولايات المتحدة الأميركية واستقر في الوطن، هو ابن قرية كفر عقب التي بنى فيها مسجدًا ومدرسة، ورحل مبكرًا تاركًا خمسة أشقاء أكبرهم في الثانية عشرة وأصغرهم في الرابعة من عمره، وكانت علا في الثامنة فاحتفظت بذكرياتها معه؛ كان يوفر لعائلته ما لا يستطيعه كثيرون، فكانوا الأوائل في امتلاك التلفاز الأبيض والأسود، ويبتاع لهم قطعة كبيرة من البسطرما وجبنة الشدر الباهظة من أسواق القدس، ويأخذهم للمطعم، وتذكر علا كيف كانت واخوتها يضحكون حين يصفق والدهم مناديًا النادل مستغربين طريقة المناداة.

يحترم المرأة فيرفع لها قبعته السوداء، وقبل رحيله كانت وصيته تعليم أبنائه وبناته فما كان من الأم الصغيرة إلا أن تنفذ الوصية بقوة الحب والإيمان والشدة في التربية في زمن صعب واحتلال بغيض، وأكملت بناء المدرسة بل وتمديد الكهرباء للبلدة.

التمرد على المدرسة

لا تنسى علا ضخامة كتاب التاريخ الذي لا يتحدث عن فلسطين بل عن مصر والشرق الأوسط، كما أن إدارة المدرسة حاولت إبعاد الطالبات عن أجواء الانتفاضة الأولى.

لكن حديث أستاذ اللغة الفرنسية عن زيارته لإسرائيل أغضب الطفلة علا فوقفت وصححت له بأنها فلسطين، وتحولت بعدها للمديرة وحضرت والدة علا التي قالت ببساطة: البنت ما غلطت قالت فلسطين!

يبدو أن علا افتقدت الدعم الحقيقي في المدرسة لا سيما بعد أول تجربة اعتقال لها، على اية حال اعترفت لنا أنها لم تكن من الأوائل لكنها تفوقت في الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، وأحبت حصة الرياضة بعكس الفن فكانت تستعين بوالدتها لإنجاز واجباتها الفنية كالخياطة.. الاحصاءات أسهل عندها حتمًا!

هوايات لا تنتهي.. وسط الانتفاضة

لم تترك علا نشاطًا إلا وانخرطت فيه فكانت عضوًا في فرقة شرف الطيبي وفي سرية رام الله الأولى وفيها انضمت لفريق زهرات الكشافة تشارك بمخيماتها، تستيقظ باكرًا وتجمع مع زملائها الحطب ويمشون كثيرًا وفي الليل يشاركهم الأهل ليالي السمر والسهر، مارست السباحة، وشاركت في سباقات الضاحية وهنا تضحك قائلة: "صحيح أن أول سبعة فائزين كانوا من دار الطفل.. لكن كنت شاطرة بالركض".

كما انضمت لفريق كرة السلة في السرية والجامعة، وجنبًا إلى هذا كانت مع شبيبة فتح تشارك في التحضير للتظاهرات، وكثيرًا ما اعتقلت وشقيقتها منى وصديقتها إيمان حمد عند الحاكم العسكري، ونقلت بسيارتها العديد من الفدائيين بين المدن الفلسطينية.

وأخذها عشقها للخيل بعيدًا إلى مدن الـ1948 لتركب الخيل وعلمت نفسها الفروسية فنجدها تركض به هنا وهناك كلما سنحت الفرصة. أما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"، فقد نفذته علا بحذافيره أما الرماية...

الانتفاضة الأولى.. وتكسير العظام

أربع فتيات تتراوح أعمارهن بين 13 و15 عامًا، قررن بعد انتهاء دوام المدرسة أن يلقين الحجارة –وهذه كانت الرماية- على باص "إيجد" الاسرائيلي مع بداية الانتفاضة الأولى وهن علا وشروق أسعد-الاعلامية- ومجد أبو السعود وبانا السائح.

كن أول فتيات مقدسيات قاصرات يعتقلن. تذكر علا أنها آخر فتاة أمسكها المستوطنون لسرعتها، جميعهن انقض عليهن المستوطنون ضربًا وتكسيرًا، وإلى أن وصلت الشرطة، تكسرت نظارة علا وأسنانها الأمامية، خرجت بكفالة كونها أقل من أربعة عشر عامًا بينما قضت الأخريات أكثر من عشرة أيام وحكم عليهن بالإقامة الجبرية في أحد أديرة القدس، وفرض على علا الإقامة الجبرية في بيتها مع إذن محدود للخروج إلى المدرسة كثيرًا ما كانت تخرقه، وبقيت المحكمة تؤجل الحكم ثلاث سنوات إلى أن أصبحت في السادسة عشرة وصدر الحكم عليها بالعمل في مشفى ماريوسف في الشيخ جراح لمدة تسعة شهور.

الدراسة ممنوعة

كانت تخرج من المدرسة إلى المشفى وتبقى حتى الحادية عشرة ليلاً فلا تستطيع المغادرة إلى البيت دائمًا، وحين ينهكها التعب تهرب من المشفى إلى حضن أمها ورغيف الزيت والزعتر المفضل لديها، تتوسد شجرة الجوز في حديقة البيت، وتعانق الأوقات الثمينة التي كانت تجمعها مع إخوتها، وحين اكتشفت الشرطة الاسرائيلية تم تمديد الحكم ثلاثة أشهر أخرى.

التحقت سيدة الاحصاء في الثانوية العامة بالفرع الأدبي، فمع هذه الظروف كان الالتحاق بالفرع العلمي صعبًا، فالدراسة ممنوعة في المشفى إلا خفية؛ ففي المطبخ تُمَزٍق صفحة من الكتاب تحفظها ثم تعيدها في الكتاب وتمزق أخرى وإذا اقترب أحدهم كانت تخفيها في قميصها الأبيض، ومع اقتراب موعد الامتحانات كانت بعض الممرضات يراقبن الممر، وبإشارة منهن كانت تخفي الكتاب.

علا الممرضة

كانت ترتدي الزي الأبيض الخاص بالممرضات، وتساعدهن في العناية بالمرضى وترتيب الأسرة وتقديم الطعام وتعلمت قياس الضغط واستخدام الحقنة، ونشأت بينها وأفراد الطاقم الطبي علاقات مميزة وصارت تُدخِلُ المرضى غرف العمليات، وحين يصل جرحى الانتفاضة يحظون بأولويتها بالعناية وينبض قلبها الصغير بالوطن ويحس بآلامهم.

تعبت علا وفكرت بترك الدراسة فالمعدل قد لا يكون على قدر الطموح، لكن قرارًا عسكريًّا من والدتها المرأة الحديدية الأولى في حياتها دفعها للمتابعة. وصدرت النتائج فكان المعدل ثمانين بالمئة، احتفى بها المشفى، وكاد حبها للعناية بالمرضى يجعلها تدرس في المجال الطبي لكن طموحها بالالتحاق بجامعة الشهداء- بيرزيت كان الأقوى.

إلى جامعة الشهداء

كانت ذكريات علا في جامعة بيرزيت معجونة بكل تفاصيل الوطن، التحقت بها عام 1992 بمساعدة من الشهيد حازم عيد في اتمام الطلب وقبلت في تخصص الاقتصاد.

كان رئيس مجلس الطلبة وقتها ابراهيم خريشة الذي تخرج مع علا وكان تخرجه عيدًا وفرحة للجامعة طلبة وإدارة لتأخره في الدراسة إثر سنوات اعتقاله. ما زالت علا تذكر والدة صديقتها عبير شحادة التي بقيت لفترة في غيبوبة فقد تشاجرت مع مجندة خلال محاكمة ابنها وكان أثر الضرب أن وقعت في غيبوبة، تناوبت علا وزميلاتها مع صديقتهم عبير ووالدتها في المشفى إلى أن استشهدت.

اجتمعت هذه الظروف في شحذ علا وخاصة روح الانتفاضة الأولى كما تقول. اليوم لا تتوقف عن الاستماع إلى الأغاني الوطنية؛ تبكيها "أناديكم" وتطحنها "هبت النار" وتلهمها "يا ظريف الطول"، وتعيدها إلى نشاطات طلبة الجامعة الصاخبة في إحياء يوم الأسير وذكرى مجزرتي الأقصى والخليل حين "كانت تقوم الجامعة ولا تقعد"، أما انتخابات مجلس الطلبة فكانوا يقضون الليل في الجامعة ويعودون مع ساعات الصباح الأولى بلا خوف رغم الانتفاضة.

موسيقى الفقراء

في الثامنة من عمرها انخرطت في الدبكة مع سرية رام الله الأولى، ثم في فرقة شرف الطيبي –شرف طالب هندسة استشهد في حرم جامعة بيرزيت-، ولأن الدبكة ممنوعة خلال الانتفاضة فكانت تنفض الفرقة فجأة مع هجوم جيش الاحتلال، ومع ذلك كان التدريب يتم حتى خلال منع التجوال وما إن يمر جيب حرس الحدود حتى تنبطح الفرقة أرضًا، ثم تستأنف التدريب وهكذا.

تعلمت علا العزف على البيانو أيضًا، لم تحترف أو تستمر إلا أن علاقتها بالموسيقى وطيدة؛ تعشق الاستماع لكل من غنى للفقراء والمسحوقين أمثال بوب مارلي ومحمد منير، أما الشتاء فيرتبط بفيروز التي تمنحها الدفء.

"أبو علي".. والحب

هي بعيدة عن الحب، فلا يجدر بأصدقاء النضال التطرق لهذه المشاعر، الوطن أولاً وأخيرًا، وحين تحضر علا وأصدقاؤها من شباب وشابات ليوم الأسير في بيت أي منهم، ينادون بعضهم بأبو علي وأبو فلان.. ربما كانت علا أبو علي!

تضحك علا وتتابع لتخبرنا عن أول حب تسلل بصعوبة فقد كان أبو علي لا يزال بداخلها! عملت وغسان في مؤسسة صيادلة بلا حدود، في الوقت الذي كانت فيه طالبة بالجامعة وبعد تخرجها تقدم لخطبتها لكن والدتها رفضت لأنها صغيرة -21 عامًا- بنظرها وأن أي تفكير بالزواج يجب ألا يكون إلا بعد خمسة أعوام! رضخت علا للحكم العسكري كما اعتادت سابقًا وشجعت غسان لدراسة الماجستير مثلها فافترقا هو إلى بريطانيا وهي إلى أميركا.

وبعد خمس سنوات عاد لخطبتها، حاولت والدتها الرفض ليس لشيء سوى لأنها تخاف أن تفقد أيًّا منهم. لكن غسان الشخشير شاب لا يمكن رفضه، وها هو وعلا يتشاركان اليوم في كل تفاصيل العائلة التي كبرت لتضم نديم ودينا.

يقدسون أيام الإجازة فهي ملك للعائلة حتماً. يتقاسمان العناية بالأبناء لكن علا لا تبدل ثيابها أو تنزع حذاءها إلا بعد إطعام وتدريس الأبناء وما إن يحل الليل حتى يستلقي الزوجان مثل قتيلين في سبيل العائلة.

الاحصاء.. خيار غساني!

وهي في السنة الثانية في الجامعة حظيت بوظيفة جزئية تتطلب إجادة اللغة الفرنسية والقيادة في مؤسسة صيادلة بلا حدود. كان العمل ميدانيًّا بتوزيع معونات طبية في أنحاء الضفة وغزة، وبعد التخرج حصلت على عدة ترقيات إلى أن توقفت برامج المؤسسة وسافرت للحصول على الماجستير في إدارة الاعمال عام 2000 من جامعة بوسطن، وحين عادت تقدمت لعدة مؤسسات دولية لكن غسان كان يفضل العمل الحكومي لا سيما وهما مقبلان على الزواج، معتبراً أنها المؤسسة الحكومية الوحيدة التي تضاهي المؤسسات الدولية –لا سيما في وقت كانت الحكومة الفلسطينية وليدة-.

لكن طموح ونجاح علا جعلاها تتقدم في الإحصاء إلى أن ترأسته. وفي قمة انشغالها ومسؤولياتها تحب علا أن تشاكس غسان فتذكره أن الوظيفة من اختياره!

النجاح الذهبي.. وقيادة الهليكوبتر

ربما ولدت علا وفي فمها ملعقة من ذهب لكن طريقها كانت وعرة بسبب الطموح والوطن وأشخاص من حديد وحب مروا بحياتها. ودون أن تترشح لرئاسة الرابطة الدولية للاحصاء حسب قرار مجلس إدارة جهاز الإحصاء الفلسطيني انطلاقًا من قناعة بأن فرص فوز أية دولة عربية ضئيلة، لم تنتخب علا نفسها وأخبرت ممثلي الدول بذلك، لكنهم استخدموا حقهم بترشيحها وانتخابها.

ونجحت علا بأن تجعل فلسطين أول دولة عربية تترأس الرابطة... في عيد ميلادها سألتها مرة مؤسسة صيادلة بلا حدود عن أحلامها فأجابت قيادة هليكوبتر، فاستأجرت المؤسسة بمئة دولار الطائرة من مطار قلنديا وحلقت عاليًا.. ترى إلى أين ستطير علا غداً؟

 
 
 

الحياة الجديدة