د. ناصر الزيادات
19/12/2018
عند سقوط الاتحاد السوفيتي في أوائل تسعينيات القرن المنصرم سارع عدد من المفكرين الأمريكيين إلى التعبير عن نشوتهم بالفرح الكبير إثر انتصار الديموقراطية والرأسمالية على آخر الأيديولوجيات الشمولية المتمثلة بالشيوعية. وقد أشغل فوكوياما، آنذاك، طبقة المثقفين في كاتبه "نهاية التاريخ" والذي عبر فيه عن أن الديمقراطية والرأسمالية هي آخر وأبدع إنجازات البشرية وأنها أثبتت نجاعتها في مواجهة آخر منافسيها.
الغريب في الأمر أن فوكوياما عاد في مقالة له عبر نيوزويك بعد الأزمة المالية العالمية ليعبر عن تخوفه من أن جزءً مهماً من الرأسمالية الأمريكية قد انهار في إشارة إلى الانهيار الأخلاقي الذي كان سبباً رئيساً للأزمة إضافة إلى إصابة معتقد حرية الأسواق وتحرير الأنظمة والتشريعات بالقلب. وفي العام 1993 أصدر المفكر الأمريكي بيتر دراكر كتابه "المجتمع ما بعد الرأسمالية". ولم يكن دراكر يقصد في كتابه نهاية الرأسمالية بل تحولها إلى شكل آخر من أشكالها التي اعتادت أن تتشكل عليها مثل الرأسمالية الكلاسيكية، ثم الرأسمالية الكنزية، ثم الرأسمالية النيوليبرالية. ولم يكن دراكر يرى تغيراً في الرأسمالية النيوليبرالية بل طرح عدة أشكال من التغيرات الاجتماعية على مستوى شكل الدولة ووظيفتها، وشكل المجتمع بالإضافة إلى شكل منظمات الأعمال الربحية وغير الربحية كمؤسسات اجتماعية سيكون لها الدور الفاعل إدارة المجتمع.
ولعل أبرز ما خلص له استشراف دراكر أن دور الدولة لن يقتصر على الدور مالي (fiscal state) لجباية الضرائب وإعادة توزيع الثروة بل سيكون للدولة أدوار تلعبها ضمن تحالفات دولية لمواجهة أخطار عالمية وذلك ضمن تلميحه إلى أن النظام العالمي سيكون ديموقراطياً ورأسمالياً بشكل تام وحتمي في الدول الغربية. لكن اللافت في الأمر أن دراكر ألمح عام 1993 أن الجهود العالمية ستتوجه نحو مكافحة الإرهاب في الوقت الذي لم يكن لمثل هذا المصطلح زخم في الإعلام العالمي. أما الغريب في الأمر أن دراكر خصص كتابه للدول الغربية واصفاً إياها بدول العالم الأول لأن دول العالم الثالث خارج نطاق تغطيته وأنها ستكون كذلك في حال تحولت إلى دول ديموقراطية وعندها ستكون من دول العالم الأول.
ضمن مبادئ الديموقراطية الليبرالية أن للإنسان حق الاختيار، ولكن في حقيقة الأمر أن الدولة العميقة هي من تصنع الخيارات
لم يلق هذان المفكران بالاً إلى أبسط مبادئ التفكير الإبداعي وهو التفكير من خارج الصندوق. إذ أنهما اعتبرا أن الديموقراطية والرأسمالية هي الصندوق الذي لا يمكن الخروج منه. وأن أي حل يجب أن يكون من داخل هذا الصندوق وهذا بحد ذاته فيه إجحاف كبير في حق الحضارة الإنسانية التي شهدت تطورات وإبداعات مذهلة عبر أكثر من ثمانية آلاف عام. الأمر الثاني الغريب أن هذين المفكرين بالغا في تعظيم الديموقراطية والرأسمالية وتحقير ما سواها بطرق متعجرفة تتنافى مع أبسط مبادئ الديموقراطية المتمثلة في عدم إلغاء الآخر، وحرية التفكير. أما الأخطر في الموضوع أن الأنظمة الديموقراطية تطبق هذا الأمر فعلاً بحكم أنها لن تسمح أبداً لأي نظام من خارج الديموقراطية والرأسمالية أن ينشأ، بل إنها استباقية في محاربتها لأي إيديولوجية من شأنها مخالفة النهج السائد.
لا أريد أن أدخل في هذا المقال في متاهات الجدل حول فوائد الليبرالية الديموقراطية أو مثالبها. ولكني سأعتبر، لغايات النقاش، أنها مفيدة على المستوى الفردي وأنها أطلقت الحريات الفردية وأدت إلى الإبداع والتطور. ولكن هذا الأمر صحيح على الورق وليس على أرض الواقع. فالديموقراطية الأنجلوأمريكية أطلقت العنان لحرية الرأي لكنها قيدت حرية التفكير وذلك ضمن سلسلة ممنهجة من السياسات تبدأ منذ السنوات الأولى للطالب على مقاعد الدراسة. ولعل أبرزها ضعف مدخلات المناهج التعليمية مقابل قوة العملية التعليمية مع التركيز على الاختصاص. ففي دول مثل بريطانيا وأمريكا تجد الغالبية العظمى من الشعب يفتقرون إلى أبرز مقومات الثقافة السياسية والجغرافية التاريخية. وتجدهم متقنين لما هم مختصين به. أضف إلى ذلك قوة الآلات الإعلامية في تلك البلدان والتي من شأنها أن تحرم الناس من حرية التفكير عند الأخذ بعين الاعتبار أنهم غير مثقفين وغير مليئين معرفياً بشكل عام.
أما من الناحية السياسية فتلك الشعوب محرومة من حرية الاختيار. ففي أمريكا وبريطانيا وأستراليا هناك حزبان رئيسيان تصب الانتخابات في صالح أحدهما تسبقها مسرحيات من التنكيل والتشهير. يقول أحد الأصدقاء أنه يجعل زوجته تشعر أنها متحكمة بقرارات المنزل لأنه يعطيها خيارين أو ثلاثة لكل قرار فتختار أحدهم في الوقت الذي هو من وضع الخيارات الثلاث ضمن ما يتناسب مع استراتيجيته!! فمن الذي يحدد خيارات الشعوب في الدول الديموقراطية؟
ضمن مبادئ الديموقراطية الليبرالية أن للإنسان حق الاختيار، ولكن في حقيقة الأمر أن الدولة العميقة هي من تصنع الخيارات. يؤرخ روبرت وورث في كتابه الصادر عام 2016 لبدايات استخدام مصطح "الدولة العميقة" في تركيا في تسعينيات القرن المنصرم عندما كان الجيش يتحالف مع قوى الأمن وتجار المخدرات من أجل استهداف الأكراد في جنوب تركيا. ورغم سطحية هذا التعريف التأريخي إلا أن ما يفيد منه هو التحالف بين قوى معينة لتحقيق أهداف معينة بعيداً عن ديموقراطية صنع القرار.
الدولة العميقة تتدخل لإبقاء الحال على ما هو عليه ضمن ما يضمن مصالح تحالفاتها، ولعل أحداث "السترات الصفراء" في فرنسا مؤشراً قوياً على طبيعة تحالف الدولة العميقة
رويترز
أما الأمريكي جيسون ليندسي فقد أوضح في كتابه (The Concealment of the State) أنه من المهم أن يتم فهم مصطلح الدولة العميقة في الدول المتقدمة بعيداً عن نظرية المؤامرة محاولاً تلطيف المصطلح بمصطلح "مؤسسة الأمن الوطني". لكن شاهيل جيرمي في مقالته على موقع إنترسيبت عام 2017 (Donald Trump and the Coming Fall of the American Empire) أوضح أن هناك تعاظم في سلطة الاستخبارات المركزية منذ 11 سبتمبر مما أدى إلى نشوء سلطة رابعة يجهل ماهيتها التنفيذيون في الحكومات.
في حقيقة الأمر، لا يمكن استبعاد وجود الدولة العميقة في الدول الديموقراطية لعدة أسباب. أولها، أن تداول السلطة ضمن فترات زمنية متقاربة يجعل أي حكومة فائزة مجرد منفذة لاستراتيجيات موضوعة مسبقاً أو بالأحرى يحرمها من أن تكون ذات أهداف استراتيجية. لذلك لابد من وجود أجهزة تعمل على رسم الاستراتيجيات في الدولة بعيداً عن مسرحيات السياسيين. وهذه الأجهزة، أو التحالفات إن صح التعبير، يكون لديها أهداف ومصالح تراعي استراتيجية الدولة في الوقت الذي تراعي فيه المصالح الخاصة بتلك التحالفات. ثانيها، أن الآلات الإعلامية في تلك الدول تجدها تتفق على الخطوط الاستراتيجية العريضة حتى وإن عارضها النشطاء والسياسيين.
وما الشيطنة الساذجة للإسلام والمهاجرين إلا نماذج مبسطة عن تحالف الآلات الإعلامية مع الدولة العميقة. وثالثها، أن الدولة العميقة تتدخل لإبقاء الحال على ما هو عليه ضمن ما يضمن مصالح تحالفاتها، ولعل أحداث "السترات الصفراء" في فرنسا مؤشراً قوياً على طبيعة تحالف الدولة العميقة. فقد خرج المتظاهرون لرفض ضرائب مضافة على الوقود في الوقت الذي كان بإمكانهم الثورة على شركات النفط لتقليل أرباحها أو استخدام مصادر الطاقة المتجددة. لكن اللافت في الأمر في أحداث باريس أنه لما تم تنازل الرئيس ماكرون عن الضرائب استمرت التظاهرات، فبرزت "داعش" لتلفت الأنظار عن الحدث وتبقي الحال على ما هو عليه. ربما تكون "داعش" من أدوات الدول العميقة في البلدان المتقدمة والمتأخرة!