خطوط عريضة لبرنامج مطلبي قصير المدى
الطاهر المعز
أصدرت معظم حكومات دول العالم قرار الحَجْر الصّحّي والحبس المنزلي، بشكل فَوْقِي لا يُراعي واقع المواطنين، وخاصة الفُقراء، ولئن كانت حُكُومة الصّين قد تكفّلت بإمداد المواطنين، في بيوتهم، بالحد الأدنى من الغذاء ومن الحاجيات الأساسية، فإن معظم حكومات العالم لم تهتم بمصير النّاس المُحْتَجَزِين ولا بالقضايا والمَشاغل الحياتية اليومية للفئات الضعيفة والهَشّة من المُجتمعات...
لم يكن غريبًا موقف الحكومات، لأنها تُمثِّلُ مصالح رأس المال والأثرياء، وطبقت تعليمات صندوق النقد الدولي، التي أدّت إلى تخريب القطاع العام، وإلغاء الخدمات الأساسية من مَهمات الدّولة، وتوكيل القطاع الخاص ليحول الخدمات العمومية (الصحة والتعليم والنقل والكهرباء والمياه...) إلى سلعة يجني منها رأس المال أرباحًا طائلة...
أما الغريب حقًّا فهو ما صَدَرَ عن العديد من الرفاق والأصدقاء المحسوبين على صُفُوف اليسار والتّقدّميين، من ترديد شعارات مثل "الزموا بيوتكم" أو "لنَكُنْ مُتمدّنِين" (أو مُتحضِّرِين)، وقد تكون هذه "النّصائح" إيجابية في المُطْلَق، لكنها كانت لدى البعض، ترديدًا، بدون أي نقد ولا تَمْحيص، لما يُردّدُهُ الإعلام، ومعظمه مملوك للقطاع الرأسمالي الخاص، ولا يُراعي واقع الفُقراء وسكان الأرياف والأحياء الشعبية، والعشوائيات، حيث تتوفر عوامل الإختناق بالمعنى المادّي، الحقيقي، أو المَجازي، بفعل انتشار الفقر والبطالة والأمراض الناتجة عن ظروف الحياة والسّكن غير اللائق وارتفاع ثمن الرعاية الصحية وغير ذلك...
لهؤلاء الرفاق والأصدقاء، أُقدّم هذه المُشاركة المتواضعة جدا والمُختزلة لبعض الخواطر بشأن فترة الحجر الصحي وما يُحيط بها من مشاكل ومشاغل، بهدف تدارك الوضع والمبادرة للهجوم وتجميع المتضررين من هذه الفترة الطويلة للحبس المنزلي، ورفض توزيع المال العام (المُقترض من صندوق النقد الدّولي، بشروط مُجْحِفَة) على الأثرياء، وتخصيص هذه المبالغ (المُزمع مَنحها للأثرياء) لتمويل برامج إنتاج الحاجيات الأساسية، وتشغيل العاطلين ...
تولدت عن برامج التكيف الهيكلي اختلالات اجتماعية واقتصادية تتميز بما يلي:
اضمحلال وإلغاء مكتسبات العاملين في القطاع العام، الذي أضْحَى خاضعًا في إدارته لمنطق القطاع الخاص، وتقليص حجم العاملين بالعديد من قطاعات الخدمات العمومية، تطبيقًا لشروط صندوق النقد الدولي، وعدم تعويض العاملين المُحالين على المَعاش.
أدّى تقليص الإنفاق الحكومي إلى تغييرات عديدة في قوانين العمل، وإلى الإستخدام المُكثّف للتعاقد من الباطن، وتفكيك الهياكل الإستشارية، التي تجمع ممثلي العاملين (النقابات) وأرباب العمل، وتهميش هيئات مراقبة مواقع الإنتاج والعَمَل (مفتش العمل والطب المهني والقضاء المُخْتَص في نزاعات العمل)
أنتجت هذه السياسات وبرامج "الإصلاح الهيكلي" أيضًا، حرمان قطاع الصحة العمومية من الوسائل المالية والمادية، (بما في ذلك الأطباء والساهرين والساهرات على صحتنا) لتأدية مهمات القطاع الصحي العام، في مجالات الوقاية والتحصين والفحص والعلاج، وخَصْخَصت الدولة مهمات نظافة وصيانة المباني والمطبخ، وتعاقدت مع شركات خاصة لتنفيذ هذه المهمات، ولا تهتم هذه الشركات سوى بتحقيق الربح السريع والوفير، فتُشغِّل عمالا برواتب منخفضة، وبدوام جزئي، دون احترام قوانين العمل وقواعد النظافة والوقاية من الأمراض، وخاصة من الأمراض المُعْدِيَة...
أما عن الحجر الصحي، فقد أدت فترة الحبس المنزلي، بقرارات فَوْقية وبشكل استبدادي، عسكري في طبيعته (طاعة الأوامر بدون نقاش، عكس الإنضباط الوَاعِي) إلى تفاقم الوضع الهش لأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة (الكلى وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري وأمراض الجهاز التنفسي ، وما إلى ذلك)، كما أدّت إلى فقدان العُمال الأكثر هشاشة لوظائفهم ومورد رزقهم، فيما واصَلَ آخرون العَمل في ظروف سيئة للغاية، وتنقلوا من محلات السّكن إلى العمل، بوسائل نقل لا تتوفر بها الشروط الصّحّيّة، للعمل في بيئة غير آمنة، واغتنمت الحكومات وأرباب العمل الفرصة لتعليق قانون العمل وإطالة ساعات العمل دون رفع الأجور، بل وخفضها أحيانًا...
إن حالة العاطلين والفقراء والمشردين لم تنل حظّها من النقاش في وسائل الإعلام، أو في الهيئات الرسمية، التي يُمثل المُشرفون عليها مصالح الأثرياء ورأس المال، ويكمن دور التقدميين والإشتراكيين ومن ينتمون إلى اليسار، في عدم ترديد شعارات الإعلام المُرتزق، بل التأكيد على وضع أكثر الناس ضعفا، وجعل هذا الوضع في طليعة مواضيع النقاشات، وصياغة مطالب واضحة من أجل:
رفض تسديد الدّيون الخارجية، وتكليف لجنة للتدقيق في تفاصيل حجم الديون وفوائضها ومآلها، ومجالات إنفاقها، والمبالغ التي سددتها الحُكومات...
توجيه المبالغ التي خصصتها ميزانية 2020، لتسديد أصل الدّيْن والفوائض (خدمة الدّيْن ) نحو برامج أخرى تهدف خفض حجم توريد المواد الأساسية، لتوفير العُملة الأجنبية، والتُخفف من حدة البطالة والفقر، وتدريب العاطلين عن العمل على الحِرف التي تلبي احتياجات السكان، وخلق فرص عمل تلبي احتياجات المجتمع، كالزراعة والصناعات الأساسية والخدمات ...
إقرار برنامج لتوفير السكن اللائق بإيجارات معقولة تتماشى مع التكلفة ومع الدّخل الحقيقي للأُسَر، وللمواطنين من الشباب، في بيئة صحية (بعيدًا عن ضجيج الطرقات السريعة والمصانع والتلوث)، وبناء مدارس للتخفيف من ازدحام المُتَعَلِّمين في الفصل الواحد، ما يفترض تشغيل مُدَرِّسِين وتوفير وسائل تعليمية كافية (وسائل بيداغوجية ومناخ يشجع على البحث العلمي)، ووسائل نقل التلاميذ، وتوفير مطاعم مدرسية، وغير ذلك من الشروط الضرورية لراحة المُدَرِّسين والمُتعلّمين...
من الضروري أن نهتم كتقدميين واشتراكيين ويسار بجودة الحياة اليومية، وتوفير الخدمات العامة المحلية في مجالات التشغيل والتعليم والصحة والوقاية والخدمات الاجتماعية، ويتطلب ذلك تشريك المواطنين، وإنشاء هياكل جماعية، تحت إشراف المواطنين، على مستوى محلي (أحياء أو قرى أو بلديات...)، من أجل مناقشة المشاغل والمشاكل التي تهم المجموعة، والبحث عن حلول لها، مع متابعة المواطنين لوسائل التنفيذ، وجعل هذه الهياكل والأُطُر المحلية أداةً للمطالبة ببرامج ومشاريع وحُلُول، لما يعترض المواطنين...
بذلك يكون "اليسار" ناقدًا للوضع، وباحثًا عن حُلُول، تكون لَبِنَة لبرنامج وطني، وربما عربي في وقت لاحق، ومُبْتَكِرًا لأدوات النّضال الجَمْعِيّة، في مواقع العمل، وفي مواقع السّكن، ليتمكن المناضلون الإشتراكيون من الخروج من بوتقة الفئات الوسطى، وتوسيعها إلى دائرة العاملين والمُهَمّشين والفُقراء وصغار الفلاحين ومواطني الأرياف...
● ● ●