7- الحلقة السابعة من حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة
- اعادة الاسلام لصياغة العقل البشري لفطرته الاولى - حدود افاق العقل ..
في الحلقة السابقة تبين لنا ان واقع العقل انما هو عملية تتم من خلال توفر عدة عناصر اهمها : واقع وحواس تحس به وقادرة على نقله الى الدماغ الصالح للربط ،ومعلومات سابقة يتم ربط الواقع بها وتفسيره على اساسها ، فيتم بذلك الحكم على الواقع وانتاج الفكر ...
وقد اشار القران الكريم الى تلازم عملية العقل والحواس والمعلومات في قوله تعالى:- ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)الاسراء) ..
قال القاسمي في تفسيره :- (ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة . كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل ، وكشهادة الزور ، والقذف ، ورمي المحصنات الغافلات ، والكذب ، وما شاكلها : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا أي : كان صاحبها مسئولا عما نسب إليها يوم القيامة .)
ومعلوم انه ما من مخلوق الا وله حدود لا ينبغي له تجاوزها ولا ان يتعداها، فالطيور تطير وفق ارتفاع محدد لا تتجاوزه، والعاديات والضواري تعدوا وفق سرعة محددة لا تتجاوزها ، والانسان يعمل وفق طاقات وقدرات محددة لا يتجاوزها .. وكذلك العقل يعمل وفق طاقات وقدرات محددة لا ينبغي له تجاوزها، والا ارهق ذاته وارهق جسد صاحبه ، فلذلك جعل الله النوم راحة للانسان عقلا و حواس جسد ليستريح من التعب والارهاق الفكري والعملي ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9النبأ) .. وعليه فان طاقة العقل محدودة وهو بحاجة كما الجسد الذي تتعب حواسه الى راحة .. وكذلك قدرات العقل على الادراك محدودة .. فلما كان الناس يتجاوزون بعقولهم حدود الواقع ليتعاملوا مع الجن - او الاواح الخفية عن الحس والادراك، بين لنا الله تعالى ان هذا الامر يزيد صاحبه رهاقا وخطيئة واثما !! فقال سبحانه :- (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6 الجن) ..والخطيئة والاثم هنا محاولة تجاوز حدود الواقع المدرك للتعامل مع اللا مدرك ..فلذلك كان الرهق والارهاق .. لانه تعامل مع مجهول يصعب ادراكه واخضاعه للعقل !!
والمدركات امام العقل مدرك بعينه وشخصه كالاعيان والاجسام، ومدرك بتأثيره ، كالريح والكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية واللاسلكية والحرارة والبرودة وما شابه في عالم الشهادة -(الحس)-... ومدرك بأثره وآثاره،كما نستدل على وجود وتاريخ الامم السابقة من اثارهم وما تركوا من عمران وخرائب !! والحوادث تدل على محدثها والصنائع تدل على صانعها، ودلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية، أما كونها حسية فلأنها مشاهدة بالحس، وأما كونها عقلية فلأن العقل يدل على أن كل حادث لا بد له من محدث. قال تعالى: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون )الطور 35)،
ولهذا سئل احد الأعراب بم عرفت ربّك؟ فقال: " الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير "...
وقد يلجأ طموح العقل الى محاولة ادراك الغائب عن مدركاته الحسية باسلوب التفسير بالقياس لتعذر الاحساس وبالتالي ادراك واقع ما غاب عنه !! فيقيس ما غاب عن حسه بما يشهده حسه !! فهذا جائز في عالم المحسوسات والمتماثلات والمتشابهات ومتحدات الجنس والنوع ، كأن تقيس مزايا الانسان الياباني او الصيني على مزايا الانسان العربي مثلا ..فالقياس هنا بين متماثلات ومتشابهات .. ولكن ندرك ان هناك اوجه شبه بين الانسان والحيوان، من حيث الولادة والنمو والتغذية و الحياة والموت !! لكن لا نستطيع ان نقول بان الانسان القديم بنى حضارات وان الحيوان له حضارات !! لانعدام وجه التشابه والتماثل في التفكير والادراك .. فادراك الحيوان مجرد ادراك غريزي ناتج عن امور الرجع الغريزي المتعلق بجوعات الغرائز والحاجات العضوية فحسب .. ولا يرقى الى مستوى تسميته تفكير !!
و عليه فلا يجوز ان يكون القياس بين المختلفات و الغير متماثلات او متشابهات ، والا كان القياس هنا باطلا ..
وقد كان هذا القياس الباطل سبب ضلال العقل البشري منذ القدم كما اوضحنا في مقدمة هذه السلسلة ، يوم استطاع العقل ادراك موجد ومحدث العالم والكون والانسان والحياة ، الا انه لم يستطع ان يدرك ذاته العلية عن الحس والادراك سبحانه ، فلجأ الى قياس الغائب عن الحس على الحاضر الواقع تحت الحس ظنا منه وتوهما بالتماثل والتشابه ، فوقع في متاهة بحث ومحاولة ادراك ما وراء الطبيعة مما هو فوق مدركات الحس والعقل .. فكانت ضلالات الفلاسفة وتشعبت طرق ضلالاتهم وتنوعت .. فالخالق الموجد من العدم والواجب الوجود، والذي يستند الخلق في وجودهم الى وجوب وجوده، حتما لا يقاس بالحادث المخلوق الموجود ، لوجوب انتفاء التشابه والتماثل ... فلذلك قال تعالى مانعا للقياس لامتناع النوع والجنس والتماثل والتشابه مع الخلق : " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وفي مجال تميزه وتمايزه عن الخلق قال سبحانه :- ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾ [ البقرة: 255] .
وقال سبحانه مبينا انه تعالى ليس له مثل ليقاس به اوشبيه ليشبه به :- ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11].
فوجوده سبحانه مطلق عن حدود وقيود المادة المخلوقة له ، فلذلك تعالى بذاته عن الادراك والاحاطة به سبحانه وكان فوق مدارك الاحساس والعقل الذي لا يستطيع ان يدرك الا وجوب وجوده من خلال اثاره .. (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (103الانعام) وبذلك كان هو الاول قبل خلق الخلق والاخر بعد افناء الخلق وهو الظاهر بآثاره الباطن بذاته سبحانه وتعالى علوا كبيرا .. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3 الحديد) ..
وحتى نلتقي الاثنين المقبل ان شاء الله تعالى استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-05-06, 9:55 am عدل 2 مرات