ومضت قريش تلاحق المسلمين وتعذبهم وتفتن من استطاعت فتنته منهم، ولكن الدعوة بقيت تشق طريقها، وإن بصعوبة في مكة بين قبائل قريش رجالاً ونساءً، خاصة بعد إسلام الحمزة بن عبد المطلب الذي غضب لابن أخيه من أبي جهل، وهنا رأت قريش أن تغيِّر من أسلوبها المعتمد في التعاطي مع التطورات الجديدة، فلم تذهب إلى أبي طالب، وإنما رأت أن تفاوض النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، واجتمعوا قريباً من الكعبة، وبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلموه بالأمر، فاستجاب لهم مسرعاً، فبادروه بالقول: "يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلاّ قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنمّا جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنمّا تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك".
وهنا دلالة واضحة على أنّ فكرة الوحي عندهم كانت غير واضحة المعالم، ويتبين هذا من خلال الربط بين ما جاء به النبي والطروحات التي تقدموا بها من الشرف والملك والمال والمرض، فضلاً عمّا ألقوه عليه من تبعات الفرقة بين العرب، وما يلحق بهم من إيذاء، من شتم الآباء، وتسفيه الأحلام، وما إلى ذلك.
دحض مزاعم قريش...
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح لهم الهدف من بعثته والوحي الذي يتلقاه ودحض مزاعمهم، بحيث هو بشير ونذير جاء ليبلّغهم رسالة ربه، فأجابهم بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابا،ً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".
إزاء هذا الجواب، طلب المجتمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بمعجزة ما؛ كأن يوسع وادي مكة، أو يفجّر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيّاً كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفاً، أو يسأل ربّه أن يبعث معه ملكاً يصدّقه بما يقول، "فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنـزلتك من ربك إن كنت رسولاً في ما تزعم، فإنّا لا نؤمن لك إلاّ أن تفعل".
وهنا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، ولا هي في الأساس من مهمته، وإنما دوره يقتصر على الإبلاغ والإنذار والتبشير، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".