المراحل الثلاث التي يسير فيها المجتهد في استنباطه:
وللاجتهاد مراحل ثلاث لا بد منها على المجتهد السير فيها حتى يصل إلى الحكم الشرعي في المسألة:
قال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فَهْمَ الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً،
والنوع الثاني: فهو الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع،
ثم يطبق أحدهما على الآخر. انتهى
فالمرحلة الأولى فهم الواقع الذي يريد أن يستنبط له الحكم الشرعي فهما دقيقا يحيط به من جميع جوانبه ما أمكن، وهذا العمل عمل عقلي محض،
فإن أراد أن يستنبط الحكم الشرعي في مسألة ما، فمثلا لو أن قاضيا عُرض عليه نزاع في مسألة طلاق، فإنه سيفهم الواقع بكل ما فيه من تفاصيل، الألفاظ التي قيلت، والحال التي قيلت فيها، وهل هي أول أم ثاني أم ثالث طلقة، ... الخ،
ثم يستنبط من الأحكام الشرعية الرأي في هذه الأقوال مثلا قوله: طلقتك البتة، هل يترتب عليه شرعا اعتبارها طلقة أم ثلاث، وهل ثمة من تبن للخليفة في هذه المسألة يلزمه القضاء بناء عليه؟ .. الخ، فيخلص من هذه المرحلة الثانية إلى أن الحكم الشرعي في هذه الألفاظ هو كذا، وفي هذه الأحوال التي وقع فيها الطلاق كذا ... الخ،
ثم ينتقل إلى المرحلة الثالثة وهي إنزال هذه الأحكام على هذه الواقعة ليقول للرجل والمرأة: وقع أو لم يقع طلاق، وهو بائن بينونة كبرى أو صغرى ... الخ، فيكون قد استنبط الحكم الشرعي من مظانه، وأنزله على الواقع أي اجتهد.
يلاحظ أن المرحلة الأولى في الاجتهاد محض عقلية، أي مرحلة فهم الواقع، على العقل أن يدرك الواقع بكل تفصيلاته،
فمثلا الواقع المتعلق بالعمل على إنهاض الأمة يتطلب فهما لواقع الأمة، لواقع المجتمع، لواقع النهضة ... الخ، فسيتطرق حتما لفهم واقع الأمة من حيث هبوطها وارتفاعها، من حيث مكوناتها، موقعها في الموقف الدولي، موقع تطبيق الأحكام الشرعية من حياتها، هل أمانها بأمان المسلمين؟ ما هي العوامل التي أدت بها إلى الهبوط، وكيف يصار إلى الارتفاع،
فهذا كله وغيره عليه أن يعيه ببحث الواقع بحثا عقليا،
ثم يستعين في المرحلة الثانية بفهم الأحكام المتعلقة بواقع مشابه، فمثلا يرى أن الفقهاء يرون أن الدار التي لا تحكم بالشرع، والتي أمانها ليس بأمان المسلمين وإن كان غالبية سكانها مسلمون، فإنها دار كفر، لا نسبةً للكفر لأصحابها، معاذ الله، بل هي نسبة للأمان والأحكام، أي للنظام الذي يحكمها، كقولك الجنة دار السلام، والنار دار البوار،
فيبحث بعد أن يستقر لديه أنها دار كفر عن الأحكام المتعلقة بالتغيير في دار الكفر، أو إن كانت لما تتحول بعد إلى دار كفر، كأن لم تظهر بعد أحكام الكفر بها، وتعلو، فإنه يبحث عن الأحكام المتعلقة بالتغيير في مرحلة محاولة الحاكم لإظهار الكفر البواح في الدار، وإن استقر لديه أنها دار إسلام
فلا شك أن التعامل مع قضايا النهضة والأحكام المتعلقة بالنهضة فيها تختلف جذريا.
وهنا سيتعين أن من هذه الأحكام
ما هو متعلق بالفرد،
وما هو متعلق بالحزب،
وما هو متعلق بالدولة.
فالفرد عليه أن يبحث عن الأحكام الشرعية التي خوطب بها كفرد، مثل فروض الأعيان،
فإن رآى منكرا يستطيع تغييره بإحدى وسائل التغيير الثلاث، اليد واللسان والقلب، فعليه التغيير، فرض عين،
وهو حيال هذه الواجبات إما أن يكون مجتهدا، أو مقلدا، أو عاميا، لكن من واجبه أن يسأل عن الحكم الشرعي إن لم يكن مجتهدا كي يقلد ويعمل بناء على ما أمر الشارع.
فالنزاع هنا في مجتهد أوصله اجتهاده إلى حكم شرعي ، غلب على ظنه بعد استفراغ وسعه في فهم الواقع وفي فهم الواجب في هذا الواقع، وأسقط الأدلة والواجب هذا على هذا الواقع وقال: إن حكم الشارع في المسألة هذه هو كذا،
هل له إن وجد خلاف ما وصل إليه من رأي عند مجتهد آخر بمرجح ما، مثل الأعلمية،
سواء أرأى أن أدلة المجتهد الثاني أقوى،
أو علم أن المجتهد الثاني أقدر منه على التعامل مع الأدلة،
أو أفقه في اللغة، أو أقدر على الربط، أو أكثر اطلاعا على الواقع وفهما له... الخ،
فإنه إذ يرى أن المجتهد الثاني أعلم منه، فهل عليه أن يترك رأيه لرأي ذلك المجتهد الأعلم أم لا؟
أو إن كان يراد جمع كلمة المسلمين على مصلحة شرعية ما،
كتوحيد كلمة المسلمين تحت حاكم مسلم، مثلما تخلى الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لصالح معاوية رضي الله عنه، جمعا لكلمة الأمة،
أو كما تخلى عثمان رضي الله عنه عن اجتهاده لصالح اجتهاد وسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فجمعت الكلمة تحته وبويع بالخلافة على هذا الشرط،
هذا صعيد من صعد هذا البحث سنرى أقوال الأصوليين فيه إن شاء الله تعالى.
وهنالك أحكام أخرى تتعلق بالأحزاب،
خاطب الشارع فيها الأحزاب لتقوم بواجبات معينة،
مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير،
وكقيام جماعة مثلا من المسلمين على أمر الجهاد في عصر خلا من خليفة مثلا،
ما هي الأحكام المتعلقة بهم كجماعة أو كحزب،
وما هو موقع الفرد من هذه الأحكام،
هل يختلف واقع تخليه عن رأيه الذي اجتهد ووصل إليه إن كان مجتهدا، عن واقع تخليه كفرد في عمل خوطب به كفرد، أن يتخلى عن رأيه لصالح رأي آخر رآه الحزب في هذه الحالة؟
وثمة أحكام تتعلق بالدولة،
خوطب الخليفة فيها بالتبني،
فالسؤال ذاته يُسأل: هل تختلف الأحكام المتعلقة بتخليه عن رأيه كمجتهد في هذه المسائل لصالح الرأي الذي رآه أمير المؤمنين أو القاضي في هذه المسألة؟
لمسألة التبني عند حزب التحرير وعند الجماعات والأحزاب بشكل عام، بُعد يغفل كثير ممن يناقش مسألة التبني عنه، وهو التفريق بين العمل الجماعي والعمل الفردي.
فيقوم بعضهم بدراسة مسألة التبني على مستوى مقلد يريد ترك اجتهاد مجتهد لاجتهاد آخر، أو مجتهد نزل عن رأي في مسألة ما لصالح مجتهد آخر، ويريد أن يسقط هذه الدراسة على مسألة التبني عند الأحزاب، ناسيا الفرق الشاسع بين الحالين.
فالفرد عندما يريد أن يلتزم الحكم الشرعي في مسألة ما، فإنه إما أن يكون مجتهدا، مطلقا أو مجتهد مذهب، أو مجتهد مسألة،
أو أن يكون مقلدا: مقلد مذهب أو مقلد إمام، أو أن يكون عاميا يقلد من يستفتيه بناء على الأعلمية وعلى العدالة.
وأثر قيام هذا الفرد بهذا الالتزام ينعكس عليه كفرد في عمل أثره محدود،
وإن كان عظيما فهو يريد إبراء ذمته أمام رب العالمين في التكاليف التي كلفه بها، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون واقع ذلك له أثر أقل خطرا من التكاليف المنوطة بالأحزاب أو بالدولة.