رأي الإمام نافذ ويرفع الخلاف ويوجب الاتباع ظاهرا وباطنا:
فالإمام الأعظم الذي على الناس، مخاطب بأن يحمل الناس على رأي في المسائل الخلافية يرفع رأيه الخلاف فيها كما هو مقرر في السياسة الشرعية.
قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار في كتاب الصلاة: لأن حكم الحاكم في المجتهَد فيه يرفع الخلاف، انتهى/ ومثله في كتاب الإجارة: لأنَّ حكمَ الحاكم يرفع الخلاف.، وقال في باب : الأمر باليد: وأن قضاء القاضي في محلِّ الاجْتهاد يرفع الخلاف، انتهى
وقال أبو السعود الدسوقي في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير باب صح وقف مملوك: وإلا صح اتفاقاً لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف. انتهى.، ومثله في باب القضاء.
وقال البجيرمي في تحفة الحبيب على شرح الخطيب كتاب الصلاة: وصرح الأصحاب بأن حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف ويصير الأمر متفقاً عليه انتهى
وقال عبد الحميد الشرواني في حواشي الشرواني على تحفة المحتاج، كتاب صلاة الجماعة: لما سيأتي أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ظاهراً وباطناً انتهى
وقال في كتاب النكاح: وأما إذا حكم به حاكم فلا يجوز له العمل بخلافه لا ظاهراً ولا باطناً لما هو مقرّر أن حكم الحاكم يرفع الخلاف انتهى.
قال علاء الدين السمرقندي في تحفة الفقهاء، كتاب الحظر والإباحة:
ولو أن القاضي إِنما قضى في فصل مجتهد فيه، وهو من أهل الاجتهاد برأيه، والمقضى عليه فقيه مجتهد يرى بخلاف ما يقضي به القاضي فإِنه يجب عليه أَن يترك رأيه برأي القاضي، سواء كان ذلك من باب الحل أو الحرمة أو الملك أو الطلاق أو العتاق ونحوه، لأن قضاء القاضي في فصل مجتهد فيه ينفذ بإِجماع الأمة، لأن رأيه ترجح بولاية القاضي ـ وهذا قول محمد. وكذا قال أبو يوسف فيما ليس من باب الحرمة، فأما إِذا كان من باب الحرمة: فيتبع رأي نفسه، احتياطاً في باب الحرمة. انتهى
فها هو الشارع قد أناط بالحاكم أن يتبنى في المسائل الخلافية التي يرى التبني فيها، رأيا يصير القضاء بناء عليه، ويرفع الخلاف حتى وإن كان من طريق مجتهدين أعلم من هذا الإمام الأعظم، أمير المؤمنين!!
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه نفذ رأيه في كثير من المسائل التي خالفه فيها غيره من فقهاء الصحابة ورفع رأيه الخلاف وعلى هذا سار الخلفاء الراشدون والحوادث أكثر من أن تحصى في ذلك كله،
يقول النبهاني رحمه الله في كتاب نظام الاسلام:
لقد كان المسلمون في عصر الصحابة يأخذون الأحكام الشرعية بأنفسهم من الكتاب والسنة ، وكان القضاة حين يفصلون الخصومات بين الناس يستنبطون بأنفسهم الحكم الشرعي في كل حادثة تعرض عليهم ،
وكان الحكام من أمير المؤمنين إلى الولاة وغيرهم ، يقومون بأنفسهم باستنباط الأحكام الشرعية لمعالجة كل مشكلة من المشاكل تعرض لهم أثناء حكمهم ،
فأبو موسى الأشعري وشريح كانا قاضيين يستنبطان الأحكام ويحكمان باجتهادهما ، وكان معاذ بن جبل والياً في أيام الرسول يستنبط الأحكام ويحكم في ولايته باجتهاده ،
وكان أبو بكر وعمر في خلافتهما يستنبطان الأحكام بأنفسهما ويحكم كل واحد منهما الناس بما يستنبطه هو ، وكان معاوية وعمرو بن العاص واليين ،
وكان كل واحد منهما يستنبط الأحكام بنفسه ويحكم الناس في ولايته ، بما استنبطه في اجتهاده ، ومع هذا الاجتهاد لدى الولاة والقضاة ،
فقد كان الخليفة يتبنى حكماً شرعياً خاصاً يأمر الناس بالعمل به ، فكانوا يلتزمون العمل به ويتركون رأيهم ، واجتهادهم ،
لأن الحكم الشرعي أن أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً
ومن ذلك أن أبا بكر تبنى إيقاع الطلاق الثلاث واحدة ، وتوزيع المال على المسلمين بالتساوي من غير نظر إلى القدم في الإسلام أو غير ذلك ، فاتبعه المسلمون في ذلك ، وسار عليه القضاة والولاة .
ولما جاء عمر تبنى رأياً في هاتين الحادثتين خلاف رأي أبي بكر ، فالزم وقوع الطلاق الثلاث ثلاثاً . ووزع المال حسب القدم والحاجة بالتفاضل لا بالتساوي ، واتبعه في ذلك المسلمون وحكم به القضاة والولاة .
ثم تبنى عمر جعل الأرض التي تغنم في الحرب غنيمة لبيت المال تبقى في يد أهلها ولا تقسم على المحاربين ولا على المسلمين فاتبعه في ذلك الولاة والقضاة وساروا على الحكم الذي تبناه ،
فكان الإجماع ( إجماع الصحابة ) منعقداً على أن للإمام أن يتبنى أحكاماً معينة ويأمر بالعمل بها ، وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهادهم .
والقواعد الشرعية المشهورة هي ( للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات ) و ( أمر الإمام يرفع الخلاف ) و ( أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً )
ولذلك صار الخلفاء بعد ذلك يتبنون أحكاماً معينة ،
فقد تبنى هارون الرشيد كتاب ( الخراج ) في الناحية الاقتصادية وألزم الناس بالعمل بالأحكام التي وردت فيه . انتهى.
أقول: من هنا فإسقاط ما يتعلق بالفرد على الدولة أو على الأحزاب في مثل هذه المسائل خطأ كبير، لاختلاف الشأن المترتب على عمل الدولة أو عمل الحزب، والمسئوليات المنوطة بأمير المؤمنين والغاية التي من أجلها يوجد الحزب السياسي في الدولة الاسلامية أو قبل وجودها ويعمل على إيجادها.
فها أنت ترى، أنه لو اختصم رجلان إلى قاض في مسألة معاملة ما، وترتب على ذلك حق لهذا أو لذاك، تنازعا عليه، وجاء أولهم بحجة من اجتهاد مجتهد في تلك القضية الخلافية، وأتى الآخر باجتهاد نقيضه على رأي مجتهد ثان، فكان لا بد للقاضي كي ينفذ قضاءه أن يجتهد ويكون رأيه نافذا أو أن يعمل باجتهاد يراه حقا وينفذه.
وما قضايا الطلاق مثلا منا ببعيد، هل ينفذ القاضي أو الحاكم اعتبار الثلاث طلقات في مجلس واحد بلفظ طلقتك بالثلاث ، على اعتبار أنها طلقة أم ثلاث؟
فلا بد للقاضي أو للحاكم من تبني رأي في المسألة ينفذ ظاهرا وباطنا في الدولة، ويعمل به وإلا لم يصلح حال المسلمين، من هنا كان للحاكم وللقاضي اعتبار يختلف عن اعتبار الأفراد حيال هذه المسألة،
وإن كان الأصل أن الاجتهاد في هذه المسألة أو تلك هو هو أي هو استفراغ الوسع في تحصيل غلبة الظن بأن حكم الله في المسألة هو كذا وكذا، ومع ذلك فعلى المسلم أن يخضع لتبني الخليفة أو القاضي في المسألة حتى وإن كان مجتهدا ويعمل برأي الخليفة أو القاضي ظاهرا وباطنا.