مسألة فقه التبني لدى حزب التحرير والحركات الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المصطفى
ورد في لسان العرب: ويقال: تَبَنَّـيْتُه أَي ادَّعيت بُنُوَّتَه . وتَبَنَّاه: اتـخذه ابناً . وقال الزجاج: تَبَنَّى به يريد تَبَنَّاه . وفـي حديث أَبـي حذيفة: أَنه تَبَنَّى سالـماً أَي اتـخذه ابناً ، وهو تَفَعُّل من الابْن.
وفي تاج العروس للزبيدي: (وتَبَنَّاهُ: اتَّخَذَهُ ابْناً)، أَو ادَّعَى بُنُوَّتَه. وقالَ الزجَّاجُ: تَبَنَّى به يُريدُ تَبَنَّاهُ.
الفكرة الأساس في الموضوع:
أ) أحكام تخلي المجتهد عن رأيه الذي توصل إليه بالاجتهاد لصالح اجتهاد مجتهد آخر.
ب) أحكام تخلي المجتهد عن رأيه لصالح اجتهاد حزب يعمل لتحقيق غاية معينة من أجل تلبس المجتهد بالعمل لإقامة ذلك الفرض الذي قام الحزب لإقامته.
ت) وجوب تبني الأحزاب والحركات لأفكار تفصيلية تضمن عمليا قدرتها على تحقيق الغاية أي إقامة الفروض التي قامت من أجلها.
ث) أحكام تقليد المقلد لاجتهادات الحزب العامل لإقامة فرض معين.
ج) أحكام طاعة الأمير.
مقدمة
عندما تتوالى المصائب على الأمة، وتتتابع عليها الأحداث الجسام، والخطوب العظام، ويسود فيها الظلم، ويوسد الأمر إلى غير أهله،
يبدأ الناس بالتذمر، ثم ينتقل هذا إلى إحساس بالظلم، يدفع إلى الحركة لدفع الظلم، وإبعاد الفساد، ورفع شأن المجتمع والأمة، والنهوض بها إلى المستوى الذي يليق بها،
ومن البديهي أن يُلجأ من أجل بلوغ ذلك إلى التكتل، والعمل الجماعي، لإيجاد القوة القادرة على إحداث التغيير، في الخطوب التي تتعدى قدرات الفرد كفرد، بمعزل عن جماعة،
ولا شك أن اجتماع هؤلاء القوم من أجل تحقيق ذلك الأمر الذي نهضوا من أجله، سيجمعهم على هدف أو أهداف، أو أفكار يلتفون حولها تتضمن أهدافهم وخطة سيرهم لبلوغ مرامهم، وبدون هذه الأفكار وبدون رسم طريقة لبلوغ الغاية، وبدون تصور للغاية قابل للتطبيق، لن يثمر العمل وستفشل الحركة فشلا ذريعا طال الوقت أم قصر.
وبالنظر إلى ما يعانيه العالم الاسلامي من انحطاط وتأخر وهبوط عن المستوى اللائق به، وما يقاسيه من تعسف وظلم وجور، واحتلال عسكري واستعمار ثقافي،
فقد تتابعت فيه الحركات التي استهدفت وقف تدهوره أو رفعة شأنه، فمنها من سار بمنهجية ارتجالية، لا تعدو أن تكون ردات فعل،
انطلقت من أحداث معينة جسيمة، انتقلت من مرحلة الشعور بالظلم أو بالاستبداد، لتنتقل إلى طور العمل قبل التفكير،
سواء التفكير بالواقع،
أو التفكير بأسباب حصول هذا الخلل لوضع اليد على العلة قبل معالجة الأعراض،
أو التفكير بالطريقة الموصلة لايجاد هذا التغيير،
أو التفكير بالمقاييس الدقيقة التي تبين لهم منجزاتهم، ومدى قربهم أو بعدهم عن غاياتهم،
والأهم: التفكير في الحال الذي ينبغي الوصول إليه، أي التفكير في المثال الذي يراد بلوغه، ووضع التصورات الدقيقة عن ذلك الواقع لنقل صورته للأمة لتدرك الفرق بين حالها الذي تحياه، وما ينبغي أن تكون عليه،
لم يفكروا بهذا كله قبل وضع الخطط التي تبين لها كيفية بلوغ الهدف، وما هو التصور الذي تبغي أن تكون عليه عند بلوغ غايتها،
فهي إذ خلت من ذلك كله واقتصرت على ردات الأفعال، وانتقلت من الفعل إلى ردة الفعل، أو من الإحساس إلى الفعل مباشرة،
فإنها بذا فقدت التصور الصحيح الذي يقودها لبلوغ غايتها، ودخلت في متاهات التجربة، والخطأ والصعود والهبوط وتفريغ الشحنات، وربما وصلت إلى اليأس فالمراجعات، والتراجعات، لترتكس وقد تسيء إلى الأمة أكثرمما تحسن بعملها هذا كله.
والأنكى من ذلك أنها لم تجتهد في الطريقة الشرعية لتغيير هذا الواقع أو للتعامل مع هذا الخطب الجلل، فتركت نفسها رهينة لتصرفات غير شرعية، أو لاجتهادات منقوصة، تستخرج الحلول من مستنقع الواقع الآسن، فكان لا بد أن تخسر وتفشل، وإن ظنت نفسها تحسن!
قلنا أن الحزب يقوم من أجل تحقيق غاية، والغاية و الهدف بمعنى واحد و هي النتيجة التي يحققها الإنسان عند القيام بالعمل أو التي يسعى لتحقيقها عند القيام بالعمل .
و الإنسان يريد من تحقيقه للغاية إشباع الحاجة المثارة عنده "الدافع"، و الغاية هي التي تحدد نوع العمل، يشرب الإنسان عند العطش،
فالعمل: شرب الماء؛ والدافع له هو العطش؛ والغاية من الشرب هي الإرتواء.
و يكون ترتيب الدافع والغاية و العمل في الواقع كما يلي:
1 ـ الدافع 2 ـ العمل 3 ـ الغاية
إلا أن هذا الحكم سطحي ويمثل نظرة سطحية للواقع، لكن بالتعمق فيه نجد أن الإنسان يضع لنفسه أهدافا و هو يسعى لتحقيقها من خلال بحثه عن العمل الذي يحقق الغاية ثم يقوم بمباشرة العمل؛
وعليه فالترتيب الذي ينبغي أن يصار إليه عند القيام بأي عمل سواء من قبل الفرد أو الجماعة من أجل غاية ما كما يلي:
1 ـ الدافع
2 ـ الغاية المتصورة في الذهن
3 ـ التفكير بالعمل الذي يحقق الغاية وبالتالي يشبع الدافع
4 ـ العمل
5 ـ تحقيق الغاية في الواقع.
من هنا نقول بأن الغاية تعين نوع العمل، وأن الفكر يسبق العمل، إذن لا بد من الفكر الخاص بهذا الحزب الموصل له لبلوغ غايته!! أي لا بد من التبني!!
فكان لا بد من وضع هذا البحث بين يدي المخلصين من أبناء هذه الأمة الغيورين على دينهم وأمتهم، العاملين لإعزاز هذا الدين، متبعين خطا الحبيب عليه سلام الله.
ثم إنه تصدى لنقد حزب التحرير الكثيرون ممن وهموا بأنهم على شيء، في مسألة التبني هذه، وكان تركيز الكثير منهم يدور حول مسألة التبني، التي يكاد ينفرد فيها حزب التحرير بين الأحزاب والحركات في العالم الاسلامي،
فكان ما وهموا بأنه نقد، مجرد كلام فارغ من كل مسحة فقهية أصولية، خال من أدنى تصور للعمل الحزبي الصحيح،
يدور في فلك أفكار لا تمت للواقع بصلة، مثل : الجمود والحد من الإبداع، كأن لسان حالهم يقول: يجمد أعضاء الحزب عن الإبداع إن تبنوا آراء الحزب، أو كأنهم يقولون: كيف لنا أن نتبع اجتهادات الحزب ونترك اجتهاداتنا!! مع أن الغالبية الساحقة منهم لم تصل لرتبة مقلد مذهب، لم تطلع على كثير أو قليل من الأدلة التي يناقشون في إمكانية التخلي عنها لصالح أراء ليست اجتهادات، ولا حظي أصحابها بدراسة الأصول أصلا!!
ناسين أن الأمر كله يدور في فلك اجتهاد في فرض قام الحزب من أجل إقامته، وتفرع عن هذا الاجتهاد اجتهادات ضخمة في قضايا فرعية تفرعت عن هذا الفرض، لا يمكن إقامة الفرض إلا بالاجتهاد فيها،
وأن على من يتلبس بالعمل من أجل إقامة هذا الفرض، عليه أن يحمل هذه الاجتهادات للأمة من أجل إقامة هذا الفرض،
فكان لا بد من هذا البحث، لتنوير الأذهان إلى خطورة وأهمية فكرة التبني في الحركات والأحزاب.
وقد سطرت فيها أبوابا توضح بشكل لا لبس فيه أن الاجتهاد في الفرض الذي خوطب الحزب أو الجماعة بإقامته، لا بد له من اجتهادات فرعية كثيرة تتصل به، لا يقوم إلا بمجموعها،
فكان على المقلد أن يقلد في هذه الاجتهادات ليتلبس بالعمل الصحيح لإقامة هذا الفرض،
أما المجتهد فإن كان مجتهد مسألة أو مسائل، فإنه أيضا لا بد سيقلد ويترك اجتهاده لصالح هذه الاجتهادات من أجل إقامة الفرض، أو أن يجتهد في كل هذه القضايا التي لا بد من الاجتهاد فيها من أجل إقامة حزب آخر يعمل على إقامة ذات الفرض، على نحو يغلب على الظن أن هذه الأعمال تفضي إلى إقامة هذا الفرض حتى يكون العمل جادا ومبرئا للذمة أمام الله تعالى، لإقامة ما أمر بإقامته من هذا الدين.
الاجتهاد والتقليد:
قال الآمدي: أمَّا (الاجتهاد) فهو فـي اللغةِ عبـارةٌ عن استفراغِ الوسعِ فـي تـحقـيقِ أمرٍ من الأُمورِ مسلتزمٍ للكلفةِ والـمشقَّةِ. ولهذا يُقالُ اجتهدَ فلانٌ فـي حملِ حجر البَزَّارَةِ، ولا يُقال اجتهد فـي حمل خردلةٍ. وأمَّا فـي اصطلاحِ الأصولـيّـين فمخصوصٌ بـاستفراغ الوسعِ فـي طلبِ الظنّ بشيءٍ من الأحكامِ الشرعيَّةِ علـى وجهٍ يُحس من النفسِ العجز عن الـمزيد فـيهِ. ...
وقولنا (بحيث يُحسّ من النفسِ العجزُ عن الـمزيد فـيهِ) لـيخرجَ عنهُ اجتهادُ الـمقصر فـي اجتهادهِ مع إِمكان الزيادةِ علـيهِ، فـإِنهُ لا يُعَدُّ فـي اصطلاحِ الأُصولـيـين اجتهاداً معتبراً. انتهى
قال تقي الدين النبهاني رحمه الله في الشخصية الاسلامية الجزء الأول:
خاطب الله تعالى برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً، قال تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم)، ...
فصار على مَن سمع الخطاب أن يفهمه ويؤمن به، وعلى من آمن به أن يفهمه ويعمل به،
لأنه هو الحكم الشرعي.
ولهذا كان الأصل في المسلم أن يفهم بنفسه حكم الله بخطاب الشارع، لأن الخطاب موجه مباشرة من الشارع للجميع، وليس هو موجهاً للمجتهدين ولا للعلماء، بل موجه لجميع المكلفين،
فصار فرضاً على المكلفين أن يفهموا هذا الخطاب حتى يتأتى أن يعملوا به، لأنه يستحيل العمل بالخطاب دون فهمه.
فصار استنباط حكم الله فرضاً على المكلفين جميعاً، أي صار الاجتهاد فرضاً على جميع المكلفين. ومن هنا كان الأصل في المكلف أن يأخذ حكم الله بنفسه من خطاب الشارع لأنه مخاطب بهذا الخطاب، وهو حكم الله.
غير أن واقع المكلفين أنهم يتفاوتون في الفهم والإدراك، ويتفاوتون في التعلم، ويختلفون من حيث العلم والجهل.
ولذلك كان من المتعذر على الجميع استنباط جميع الأحكام الشرعية من الأدلة؛ أي متعذر أن يكون جميع المكلفين مجتهدين.
ولمّا كان الغرض هو فهم الخطاب والعمل به كان فهم الخطاب –أي الاجتهاد- فرضاً على جميع المكلفين. ولمّا كان يتعذر على جميع المكلفين فهم الخطاب بأنفسهم لتفاوتهم في الفهم والإدراك وتفاوتهم في التعليم، كانت فرضية الاجتهاد على الكفاية، إنْ قام به البعض سقط عن الباقين. ومن هنا كان فرضاً على المكلفين المسلمين أن يكون فيهم مجتهدون يستنبطون الأحكام الشرعية.
وعلى ذلك كان واقع المكلفين وحقيقة الحكم الشرعي أن يكون في المسلمين مجتهدون ومقلدون، لأن من يأخذ الحكم بنفسه مباشرة من الدليل يكون مجتهداً، ومن يسأل المجتهد عن الحكم الشرعي للمسألة يكون مقلداً، سواء أكان السائل سأل ليعلم ويعمل، أو ليعلم ويعلم غيره، أو ليعلم فقط. انتهى
وقال جلال الدين المحلي في شرح المحلي:
قَوْلُهُ: أَخْذُ الْقَوْلِ) أَيْ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ غَيْرُهُ فَخَرَجَ مَا لا يَخْتَصُّ بِالْغَيْرِ كَالْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَيْسَ أَخْذُهُ تَقْلِيدًا, وَالْمُرَادُ الأَخْذُ الْمَعْنَوِيُّ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ إلَخْ لا مُجَرَّدَ السَّمَاعِ,
وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِهِ قَيْدٌ
بَلْ لَوْ أَخَذَ الْمُقَلِّدُ الْقَوْلَ مَعَ دَلِيلِهِ مِنْ كَلامِ الْمُجْتَهِدِ لا يَكُونُ مُجْتَهِدًا غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّهُ عَرَفَ الْقَوْلَ مِنْ مَذْهَبِهِ مَعَ دَلِيلِهِ لا أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ الْقَوْلَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُجْتَهِدِ انتهى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المصطفى
ورد في لسان العرب: ويقال: تَبَنَّـيْتُه أَي ادَّعيت بُنُوَّتَه . وتَبَنَّاه: اتـخذه ابناً . وقال الزجاج: تَبَنَّى به يريد تَبَنَّاه . وفـي حديث أَبـي حذيفة: أَنه تَبَنَّى سالـماً أَي اتـخذه ابناً ، وهو تَفَعُّل من الابْن.
وفي تاج العروس للزبيدي: (وتَبَنَّاهُ: اتَّخَذَهُ ابْناً)، أَو ادَّعَى بُنُوَّتَه. وقالَ الزجَّاجُ: تَبَنَّى به يُريدُ تَبَنَّاهُ.
الفكرة الأساس في الموضوع:
أ) أحكام تخلي المجتهد عن رأيه الذي توصل إليه بالاجتهاد لصالح اجتهاد مجتهد آخر.
ب) أحكام تخلي المجتهد عن رأيه لصالح اجتهاد حزب يعمل لتحقيق غاية معينة من أجل تلبس المجتهد بالعمل لإقامة ذلك الفرض الذي قام الحزب لإقامته.
ت) وجوب تبني الأحزاب والحركات لأفكار تفصيلية تضمن عمليا قدرتها على تحقيق الغاية أي إقامة الفروض التي قامت من أجلها.
ث) أحكام تقليد المقلد لاجتهادات الحزب العامل لإقامة فرض معين.
ج) أحكام طاعة الأمير.
مقدمة
عندما تتوالى المصائب على الأمة، وتتتابع عليها الأحداث الجسام، والخطوب العظام، ويسود فيها الظلم، ويوسد الأمر إلى غير أهله،
يبدأ الناس بالتذمر، ثم ينتقل هذا إلى إحساس بالظلم، يدفع إلى الحركة لدفع الظلم، وإبعاد الفساد، ورفع شأن المجتمع والأمة، والنهوض بها إلى المستوى الذي يليق بها،
ومن البديهي أن يُلجأ من أجل بلوغ ذلك إلى التكتل، والعمل الجماعي، لإيجاد القوة القادرة على إحداث التغيير، في الخطوب التي تتعدى قدرات الفرد كفرد، بمعزل عن جماعة،
ولا شك أن اجتماع هؤلاء القوم من أجل تحقيق ذلك الأمر الذي نهضوا من أجله، سيجمعهم على هدف أو أهداف، أو أفكار يلتفون حولها تتضمن أهدافهم وخطة سيرهم لبلوغ مرامهم، وبدون هذه الأفكار وبدون رسم طريقة لبلوغ الغاية، وبدون تصور للغاية قابل للتطبيق، لن يثمر العمل وستفشل الحركة فشلا ذريعا طال الوقت أم قصر.
وبالنظر إلى ما يعانيه العالم الاسلامي من انحطاط وتأخر وهبوط عن المستوى اللائق به، وما يقاسيه من تعسف وظلم وجور، واحتلال عسكري واستعمار ثقافي،
فقد تتابعت فيه الحركات التي استهدفت وقف تدهوره أو رفعة شأنه، فمنها من سار بمنهجية ارتجالية، لا تعدو أن تكون ردات فعل،
انطلقت من أحداث معينة جسيمة، انتقلت من مرحلة الشعور بالظلم أو بالاستبداد، لتنتقل إلى طور العمل قبل التفكير،
سواء التفكير بالواقع،
أو التفكير بأسباب حصول هذا الخلل لوضع اليد على العلة قبل معالجة الأعراض،
أو التفكير بالطريقة الموصلة لايجاد هذا التغيير،
أو التفكير بالمقاييس الدقيقة التي تبين لهم منجزاتهم، ومدى قربهم أو بعدهم عن غاياتهم،
والأهم: التفكير في الحال الذي ينبغي الوصول إليه، أي التفكير في المثال الذي يراد بلوغه، ووضع التصورات الدقيقة عن ذلك الواقع لنقل صورته للأمة لتدرك الفرق بين حالها الذي تحياه، وما ينبغي أن تكون عليه،
لم يفكروا بهذا كله قبل وضع الخطط التي تبين لها كيفية بلوغ الهدف، وما هو التصور الذي تبغي أن تكون عليه عند بلوغ غايتها،
فهي إذ خلت من ذلك كله واقتصرت على ردات الأفعال، وانتقلت من الفعل إلى ردة الفعل، أو من الإحساس إلى الفعل مباشرة،
فإنها بذا فقدت التصور الصحيح الذي يقودها لبلوغ غايتها، ودخلت في متاهات التجربة، والخطأ والصعود والهبوط وتفريغ الشحنات، وربما وصلت إلى اليأس فالمراجعات، والتراجعات، لترتكس وقد تسيء إلى الأمة أكثرمما تحسن بعملها هذا كله.
والأنكى من ذلك أنها لم تجتهد في الطريقة الشرعية لتغيير هذا الواقع أو للتعامل مع هذا الخطب الجلل، فتركت نفسها رهينة لتصرفات غير شرعية، أو لاجتهادات منقوصة، تستخرج الحلول من مستنقع الواقع الآسن، فكان لا بد أن تخسر وتفشل، وإن ظنت نفسها تحسن!
قلنا أن الحزب يقوم من أجل تحقيق غاية، والغاية و الهدف بمعنى واحد و هي النتيجة التي يحققها الإنسان عند القيام بالعمل أو التي يسعى لتحقيقها عند القيام بالعمل .
و الإنسان يريد من تحقيقه للغاية إشباع الحاجة المثارة عنده "الدافع"، و الغاية هي التي تحدد نوع العمل، يشرب الإنسان عند العطش،
فالعمل: شرب الماء؛ والدافع له هو العطش؛ والغاية من الشرب هي الإرتواء.
و يكون ترتيب الدافع والغاية و العمل في الواقع كما يلي:
1 ـ الدافع 2 ـ العمل 3 ـ الغاية
إلا أن هذا الحكم سطحي ويمثل نظرة سطحية للواقع، لكن بالتعمق فيه نجد أن الإنسان يضع لنفسه أهدافا و هو يسعى لتحقيقها من خلال بحثه عن العمل الذي يحقق الغاية ثم يقوم بمباشرة العمل؛
وعليه فالترتيب الذي ينبغي أن يصار إليه عند القيام بأي عمل سواء من قبل الفرد أو الجماعة من أجل غاية ما كما يلي:
1 ـ الدافع
2 ـ الغاية المتصورة في الذهن
3 ـ التفكير بالعمل الذي يحقق الغاية وبالتالي يشبع الدافع
4 ـ العمل
5 ـ تحقيق الغاية في الواقع.
من هنا نقول بأن الغاية تعين نوع العمل، وأن الفكر يسبق العمل، إذن لا بد من الفكر الخاص بهذا الحزب الموصل له لبلوغ غايته!! أي لا بد من التبني!!
فكان لا بد من وضع هذا البحث بين يدي المخلصين من أبناء هذه الأمة الغيورين على دينهم وأمتهم، العاملين لإعزاز هذا الدين، متبعين خطا الحبيب عليه سلام الله.
ثم إنه تصدى لنقد حزب التحرير الكثيرون ممن وهموا بأنهم على شيء، في مسألة التبني هذه، وكان تركيز الكثير منهم يدور حول مسألة التبني، التي يكاد ينفرد فيها حزب التحرير بين الأحزاب والحركات في العالم الاسلامي،
فكان ما وهموا بأنه نقد، مجرد كلام فارغ من كل مسحة فقهية أصولية، خال من أدنى تصور للعمل الحزبي الصحيح،
يدور في فلك أفكار لا تمت للواقع بصلة، مثل : الجمود والحد من الإبداع، كأن لسان حالهم يقول: يجمد أعضاء الحزب عن الإبداع إن تبنوا آراء الحزب، أو كأنهم يقولون: كيف لنا أن نتبع اجتهادات الحزب ونترك اجتهاداتنا!! مع أن الغالبية الساحقة منهم لم تصل لرتبة مقلد مذهب، لم تطلع على كثير أو قليل من الأدلة التي يناقشون في إمكانية التخلي عنها لصالح أراء ليست اجتهادات، ولا حظي أصحابها بدراسة الأصول أصلا!!
ناسين أن الأمر كله يدور في فلك اجتهاد في فرض قام الحزب من أجل إقامته، وتفرع عن هذا الاجتهاد اجتهادات ضخمة في قضايا فرعية تفرعت عن هذا الفرض، لا يمكن إقامة الفرض إلا بالاجتهاد فيها،
وأن على من يتلبس بالعمل من أجل إقامة هذا الفرض، عليه أن يحمل هذه الاجتهادات للأمة من أجل إقامة هذا الفرض،
فكان لا بد من هذا البحث، لتنوير الأذهان إلى خطورة وأهمية فكرة التبني في الحركات والأحزاب.
وقد سطرت فيها أبوابا توضح بشكل لا لبس فيه أن الاجتهاد في الفرض الذي خوطب الحزب أو الجماعة بإقامته، لا بد له من اجتهادات فرعية كثيرة تتصل به، لا يقوم إلا بمجموعها،
فكان على المقلد أن يقلد في هذه الاجتهادات ليتلبس بالعمل الصحيح لإقامة هذا الفرض،
أما المجتهد فإن كان مجتهد مسألة أو مسائل، فإنه أيضا لا بد سيقلد ويترك اجتهاده لصالح هذه الاجتهادات من أجل إقامة الفرض، أو أن يجتهد في كل هذه القضايا التي لا بد من الاجتهاد فيها من أجل إقامة حزب آخر يعمل على إقامة ذات الفرض، على نحو يغلب على الظن أن هذه الأعمال تفضي إلى إقامة هذا الفرض حتى يكون العمل جادا ومبرئا للذمة أمام الله تعالى، لإقامة ما أمر بإقامته من هذا الدين.
الاجتهاد والتقليد:
قال الآمدي: أمَّا (الاجتهاد) فهو فـي اللغةِ عبـارةٌ عن استفراغِ الوسعِ فـي تـحقـيقِ أمرٍ من الأُمورِ مسلتزمٍ للكلفةِ والـمشقَّةِ. ولهذا يُقالُ اجتهدَ فلانٌ فـي حملِ حجر البَزَّارَةِ، ولا يُقال اجتهد فـي حمل خردلةٍ. وأمَّا فـي اصطلاحِ الأصولـيّـين فمخصوصٌ بـاستفراغ الوسعِ فـي طلبِ الظنّ بشيءٍ من الأحكامِ الشرعيَّةِ علـى وجهٍ يُحس من النفسِ العجز عن الـمزيد فـيهِ. ...
وقولنا (بحيث يُحسّ من النفسِ العجزُ عن الـمزيد فـيهِ) لـيخرجَ عنهُ اجتهادُ الـمقصر فـي اجتهادهِ مع إِمكان الزيادةِ علـيهِ، فـإِنهُ لا يُعَدُّ فـي اصطلاحِ الأُصولـيـين اجتهاداً معتبراً. انتهى
قال تقي الدين النبهاني رحمه الله في الشخصية الاسلامية الجزء الأول:
خاطب الله تعالى برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً، قال تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم)، ...
فصار على مَن سمع الخطاب أن يفهمه ويؤمن به، وعلى من آمن به أن يفهمه ويعمل به،
لأنه هو الحكم الشرعي.
ولهذا كان الأصل في المسلم أن يفهم بنفسه حكم الله بخطاب الشارع، لأن الخطاب موجه مباشرة من الشارع للجميع، وليس هو موجهاً للمجتهدين ولا للعلماء، بل موجه لجميع المكلفين،
فصار فرضاً على المكلفين أن يفهموا هذا الخطاب حتى يتأتى أن يعملوا به، لأنه يستحيل العمل بالخطاب دون فهمه.
فصار استنباط حكم الله فرضاً على المكلفين جميعاً، أي صار الاجتهاد فرضاً على جميع المكلفين. ومن هنا كان الأصل في المكلف أن يأخذ حكم الله بنفسه من خطاب الشارع لأنه مخاطب بهذا الخطاب، وهو حكم الله.
غير أن واقع المكلفين أنهم يتفاوتون في الفهم والإدراك، ويتفاوتون في التعلم، ويختلفون من حيث العلم والجهل.
ولذلك كان من المتعذر على الجميع استنباط جميع الأحكام الشرعية من الأدلة؛ أي متعذر أن يكون جميع المكلفين مجتهدين.
ولمّا كان الغرض هو فهم الخطاب والعمل به كان فهم الخطاب –أي الاجتهاد- فرضاً على جميع المكلفين. ولمّا كان يتعذر على جميع المكلفين فهم الخطاب بأنفسهم لتفاوتهم في الفهم والإدراك وتفاوتهم في التعليم، كانت فرضية الاجتهاد على الكفاية، إنْ قام به البعض سقط عن الباقين. ومن هنا كان فرضاً على المكلفين المسلمين أن يكون فيهم مجتهدون يستنبطون الأحكام الشرعية.
وعلى ذلك كان واقع المكلفين وحقيقة الحكم الشرعي أن يكون في المسلمين مجتهدون ومقلدون، لأن من يأخذ الحكم بنفسه مباشرة من الدليل يكون مجتهداً، ومن يسأل المجتهد عن الحكم الشرعي للمسألة يكون مقلداً، سواء أكان السائل سأل ليعلم ويعمل، أو ليعلم ويعلم غيره، أو ليعلم فقط. انتهى
وقال جلال الدين المحلي في شرح المحلي:
قَوْلُهُ: أَخْذُ الْقَوْلِ) أَيْ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ غَيْرُهُ فَخَرَجَ مَا لا يَخْتَصُّ بِالْغَيْرِ كَالْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَيْسَ أَخْذُهُ تَقْلِيدًا, وَالْمُرَادُ الأَخْذُ الْمَعْنَوِيُّ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ إلَخْ لا مُجَرَّدَ السَّمَاعِ,
وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِهِ قَيْدٌ
بَلْ لَوْ أَخَذَ الْمُقَلِّدُ الْقَوْلَ مَعَ دَلِيلِهِ مِنْ كَلامِ الْمُجْتَهِدِ لا يَكُونُ مُجْتَهِدًا غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّهُ عَرَفَ الْقَوْلَ مِنْ مَذْهَبِهِ مَعَ دَلِيلِهِ لا أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ الْقَوْلَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُجْتَهِدِ انتهى.