الوباء ذريعة وغطاء لهيمنة العسكر
الطاهر المعز
سَبَقَ أن أَشَرْتُ، قبل حوالي عشر سنوات، إلى مخاطر العسْكَرة المُتزايدة للعلاقات الخارجية التي تنتهجها القوى الإمبريالية، والولايات المتحدة بشكل خاص، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، أي منذ انهيار المُنافس، ومنذ انتهاء "الخَطَر" المَزْعُوم، المتمثل في النظام "الإشتراكي" (على نواقصه وضُعْفِهِ )، ونُسِبَتْ إلى الرئيس "ثيودور روزفلت" التعريف التالي للدبلوماسية (تقريبًا): "الدبلوماسية أن تضع عصا غليظة على مائدة المفاوضات، وأن تتكلم بهدوء"، ولكن هذا التعريف أصبح لاغيًا، وثم استبداله بسياسة أكثر عَجْرَفَة، وتتمثل في انتهاج أسلوب عصابات قُطّاع الطّرق، وعصابات الجريمة المُنظّمة، ثم تعلّلَ نظام الحكم في الولايات المتحدة، والإتحاد الأوروبي، بانتشار وباء "كوفيد 19"، الذي يضر كثيرًا بسكان البلدان الفقيرة، وبالفئات الفقيرة داخل الدول الإمبريالية، لِإقرار حالة الطوارئ وقوانين استثنائية والحبس المنزلي، وتعليق الحقوق والحُرّيات الفردية والجماعية (وربما إلغاء بَعْض هذه الحقوق نهائيا)، ثم نشر القوات العسكرية في الشوارع والسّاحات، لمحاربة "العَدُوّ الدّاخلي"، أي الفُقَراء والمُتَمَرِّدِين من الشباب ومن المُهَمَّشِين وغيرهم...
على مستوى السياسية الخارجية، لا يرى "دونالد ترامب" موجبًا لإلغاء الحصار الظّالم على بعض البلدان، مثل كوبا (منذ حوالي ستة عُقُود)، بل زاد من حدة العدوان ضد إيران وفنزويلا، مُطلقًا العنان للقبضة العَلَنِيّة للبنتاغون (اليد الصلبة للجيش) بدل "اليد الخفية للسوق الرأسمالي" (القوة الناعمة)، بالتوازي مع دَفْعِ الولاياتِ المتحدةِ خُصُومَها إلى سباقِ التّسلّحِ، ومع إطلاق الحرب التجارية والاقتصادية وعمليات زعزعة الاستقرار، وتصعيد العدوان أو التوترات الدّاخلية في روسيا والصين وإيران وفنزويلا وكوبا وسوريا...
في الداخل، قدمت الرأسمالية الإحتكارية، أحيانًا، خلال فترة المد النضالي، تنازلات للطبقة العاملة، وللفئات الشعبية، داخل حدودها، لشراء السلم الاجتماعي، مقابل تشديد قبضة الهيمنة والإستغلال والنهب لثروات وعرق الشعوب الأخرى، شعوب "الجنوب"...
عرفت شعوب العالم أوبئة وأمراض، مثل الطاعون، مع احتمال انتشار هذه الأوبئة من مكان إلى آخر، إما زمن الحروب، أو منذ توسّع نطاق التبادل التجاري وتَنَقُّلِ الأشخاص كالتجار والبحارين، وقَتَلت "الحمّى الإسبانیة"، بنهاية الحرب العالمية الأولى ( بین سَنَتَيْ 1918 و1919) ما بين 1% و3% من سُكان العالم آنذاك، وسمحت ظروف الحرب بتفشي الفيروس في معسكرات الجیش ومناطق وجبهات الحرب، وتسببت بقتل عشرات الآلاف من الجنود، وهم عادة من أبناء الطبقات الكادحة والفقيرة، ولئن دارات الحرب (العالمية الأولى) في أوروبا، بشكل أساسي، فإن شعوب المستعمرات عانت من وَيْلاتها، وسُجّل عدد قياسي لحالات الوفاة بالحُمّى الإسبانية في البلدان الواقعة تحت الإستعمار، بالتزامن مع موسم جاف في العديد من مناطق العالم، ما تسبب في مصادرة محاصيل الحبوب والغذاء من البلدان المُسْتَعْمَرَة، وإرسالها إلى الدول الإمبريالية المُسْتَعْمِرَة، ما فاقَمَ وضْعَ الشعوب الواقعة تحت الهيمنة، وخاصة المُصابِين بالحُمّى الإسبانية في هذه البلدان.
أما اليوم فإن الولايات المتحدة تُمارِسُ التّهديد والرّشوة والقَرْصَنَة، لتستحوذ على المُطَهِّرات والأقنعة وأدوات الوقاية من "كوفيد 19"، كما استحوذ جيش البحرية الإيطالي على معدّات طبية كانت في طريقها إلى تونس، واستحوذت فرنسا بدورها على صفقة معدات كانت مخصّصة لإيطاليا وإسبانيا، العضوتين في الاتحاد الأوروبي، وهي مجرد أمثلة لقانون الغاب السائد، واعتماد منطق القُوّة العسكرية في العلاقات بين الدّول، في ظل انعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية ونقص المرافق الصحية في البلدان الفقيرة، حيث يتهدّدُ الخطرُ دولاً عديدة في إفريقيا وجنوب آسيا، بعد انتشار وباء "كوفيد 19" في بلدان مأهولة بالسكان، مثل نيجيريا والحبشة ومصر والهند...
فشلت الولايات المتحدة، حيث نجحت الصين، في احتواء الوباء، بسبب تخريب شبكة التأمين الصحي والإجتماعي، وتخريب قطاع الرعاية الصحية العُمُومية، وانخفاض عدد أسرّة المستشفیات بنسبة 40% خلال العِقْدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، أي منذ بداية فترة رئاسة "رونالد ريغن"، وخَفْضِ الْإِنْفَاقِ الحكومي، وأدّت هذه الخطط إلى انخفاض عدد موظّفِي الصحة العامة والمحلية بنسبة 25%، بين 2008 و 2019، ما يجعل المستشفيات عاجزة عن استيعاب المَرْضَى أثناء حالات الطوارئ، التي لا يهتم بها القطاع الخاص، فاهتمام المُستثمِرِين به مُنْصَبٌّ على جَمْع الربح السريع الذي لا يتوفّر في بعض حالات الرعاية الصحية، ولذلك يُهملها القطاع الخاص، بحسب جمعیة المستشفیات الأميركیة.
تمتلك الإمبريالية نحو ثمانمائة قاعدة عسكرية، حول العالم، وهي تقود أيضًا حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وَوُضعت هذه القوات العسكرية الأميركية، في حالة استنفار قُصْوَى، في معظم الدول التي توجد بها قواعد، والتي انتشر فيها وباء "كوفيد 19"، وادّعت وزارة الحرب الأمريكية أن أنها أعلنت حالة الطوارئ لتختبر مدى استعداد الجيش الأمريكي لمكافحة الوباء في البلدان التي يحتلّها أو يحتل جُزْءًا منها في شكل قواعد ضخمة، في جميع القارّات، كما ادّعى ناطق باسم وزارة الحرب (بنتاغون) أن الجيش الأمريكي جاهزٌ لمساعدة سلطات الدول (التي بها قواعد) على "مكافحة الوباء وحفظ السلم، وحماية المباني والمؤسسات الحكومية..."، وأعلنت بعض وسائل الإعلام الأمريكية أن الوباء مُتَفَشِي بين افراد حاملة الطائرات النووية "روزفلت"، الموجودة في بحر الصين الجنوبي، لتهديد الصين والتججسس عليها ومراقبتها، وعلى متنها آلاف الجنود الذين يعيشون لعدة أسابيع، في مساحات ضيقة نسبيًّا، قبل الرّسُوّ مؤقتا، ما يُيَسِّرُ انتشار الوباء، وما يجعل البوارج الحربية والقوات البحرية الأمريكية غير جاهزة للعدوان على شُعُوب العالم، ما أدّى إلى إلغاء التدريبات والمناورات التي صَنَّفَتْها وزارة الحرب "غير أساسية"، لكن أحد كبار القادة العسكريين (من هيئة الأركان المشتركة) يؤكّد استمرار العمليات العسكرية الأمريكية بالخارج، في سوريا والعراق والخليج وغيرها، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز بتاريخ الأول من نيسان/ابريل 2020...
أما مجلة "نيوزويك" الأسبوعية، فقد أوردت ضمن عددها الصادر يوم الثامن عشر من آذار/مارس 2020، خبر تفعيل وزارة الحرب، منذ شهر شباط/فبراير 2020، خطة عسكرية للسيطرة على البلاد، وإدارة شؤونها، عبر تعطيل الدّستور، وعبر إصدار أوامر وقرارات عسكرية، في حال عجز الرئيس، وممثلي السلطة التنفيذية والتشريعية عن أداء مهامهم...
يُشكّل "الأمن القومي" أساسًا (فضفاضًا وغامضًا ) لتبرير عدد من قرارات الإدارة الأمريكية، بشأن السياسات الخارجية، وكذلك السياسة الدّاخلية، بذريعة الحفاظ على الأمن وعلى السّلم الإجتماعي، وتعمل الإدارة الأمريكية الحالية (2020) على تغطية المشاكل الناجمة عن تقلیص الاستثمارات في مجال الرعاية الصحية، فقرّرت نَشْرَ الجيش والحرس القومي، بذريعة المحافظة على "السّلم الإجتماعي" ومقاومة عمليات النهب والسرقة التي قَدْ يقُوم بها الفُقراء الذين تفتقر المستشفيات الواقعة في مناطق سكنهم (إن وُجِدَتْ) إلى معدّات الوقاية للعاملين، وأدوات الإختبار، والمُعدّات مثل الأقنعة وأجهزة التنفس وأسرّة الطوارئ، وحتى بعض المُضادّات الحَيَوِيّة، ما حَوّل المُسْتشفيات من محلات علاج إلى بُؤَر انتشار الأمراض والأوبئة، ولم تهتم أجهزة الدّولة الأمريكية بالفُقراء وبالمحرومين من التأمين الصحي، وبصحة الملايین من العمال، ذوي الرواتب المنخفضة في قطاعات الزراعة والخدمات، فضلاً عن من فقدوا عَملهم والمُشردين، وغيرهم، ولن ينتشر الجيش والحرس الوطني لإرساء التأمين الصحّي لجميع، بل للمحافظة على الفوارق الطبقية، وعلى الفجوة التي ما انفكّت تتعمق، بين الأثرياء والفُقراء، وفي حال تنظيم احتجاجات، يتكفل الجيش بقمع المتظاهرين والمُعتصِمِين، وإخلاء الفقراء الذين تأخروا في تسديد إيجار المسكن، وأوردت مجلة "نيوزويك" ضمن التحقيق الذي وقعت الإشارة إليه في فقرة سابقة، أن حالة الطوارئ تقتضي تنصيب السلطات العسكرية مكان السلطات المدنية، الإتحادية والمَحلّيّة، والتصرف بكل حزم (أي باستخدام السلاح الناري)، لِمَنْع "انتشار الفَوضى"، في حال نشوب "توترات أو اضطرابات داخلية"...
أظهر انتشار وباء "كوفيد 19" استهتار الرأسمالية، مُمَثّلَة في زعيمتها (الولايات المتحدة) بحياة البشر، والفُقراء منهم بشكل خاص، حيث تَجَلّت النتائج السّلْبِيّة للخصخصة، ولتخريب قطاع الرعاية الصحية، فانتشر الوباء بسرعة جعلت الولايات المتحدة في طليعة "الدول الفاشلة"، التي لا تعير اهتمامًا لسكانها، وبالتوازي لانتشار الوباء، وكنتيجة منطقية لذلك، اتسع نطاق الأزمة الإقتصادية، التي ظهرت بوادرها قبل انتشار الوباء، وارتفع عدد المُعَطّلين عن العمل، بإضافة أكثر من ثلاثة ملايين خلال أسبوع واحد، وارتفع عدد العاجزين عن تسديد إيجار محلات السكن، واتسع نطاق الفقر الذي يُعاني منه (قبل الوباء) حوالي 43 مليون أمريكي، وتتخوف السلطات من اتساع نطاق الإحتجاجات، بسبب عجز الأُسَر والأفراد عن توفير الغذاء والمَسْكن، والعجز عن تسديد ثمن الدواء والعلاج، لذلك درست، منذ سنوات عديدة، برامج وخطط نَشْر الجيش والحرس القومي، لمحاربة الفقراء المُحتَجِّين الذي تُسمِّيهم "العدو الدّاخلي"...
يقتضي المنطق أن يلتقي ضحايا الإمبريالية الأمريكية، أو من تُصنّفهم الأدبيات السياسية للنظام الأمريكي ب"العدو الخارجي"، مثل شعوب كوبا وفنزويلا وإيران والشعب الفلسطيني، وغيرها، في جبهة مُوحّدة مع من تُصنفه الإمبريالية ب"العَدُو الدّاخلي"، أي فُقراء الولايات المتحدة والمُتَضَرِّرِين من الخصخصة ومن السياسات النيوليبرالية التي تُحابي الأثرياء، ضد مصالح أغلبية الشعب الأمريكي، وشعوب العالم...
ملاحظة: أطلقت قيادة الجيش الإستعماري الفرنسي صفة "العدو الدّاخلي"، على ثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وعلى المواطنين الداعمين للثوار، بداية من سنة 1956، ودرّست طُرق القمع العسكري الدّاخلي لجيوش أمريكا الجنوبية والكيان الصهيوني وغيرها...
● ● ●