د.أحمد خيري العمري- القدس العربي
من الواضح جدا لكل مراقب لوسائل الإعلام هنا في الولايات المتحدة أن الناشطين في مجال حقوق الشواذ جنسيا قد انتقلوا من مرحلة الدفاع إلى الهجوم وعلى نطاق واسع جدا، بحيث صار من الصعب التفوه بكلمة واحدة تدين الشواذ أو سلوكهم دون التعرض بالمقابل لهجوم أشد بما لا يقارن.. حدث ذلك على سبيل المثال مؤخرا مع ملكة جمال إحدى الولايات عندما صعدت إلى التصفيات النهائية لسوق النخاسة المعاصر المسمى بمسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة، فعندما وجه لها سؤال يتعلق بموقفها من السماح بزواج الشواذ، قالت إنها تحترمهم (!) ولكنها تعتقد أن الزواج يجب أن يبقى بين رجل و امرأة.. الفتاة خسرت المسابقة وتعرضت في اليوم التالي لهجوم مقذع من بعض أعضاء لجنة التحكيم “وفيهم من هو شاذ علنا” ومن ثم تم البحث في ماضيها عما يشين (وهو متوفر بكثرة!) والآن هي مهددة بفقدان لقب الوصيفة الأولى وفقدان حتى لقب ملكة جمال ولايتها أي ستتم معاقبتها بأثر رجعي..
قبلها بأشهر وعندما اقترب موعد توزيع جوائز الأوسكار كانت وسائل الإعلام تهدد لجنة الأوسكار صراحة بأنه إذا لم يفز الفلم الذي يتحدث عن حياة أحد الناشطين في مجال حقوق الشواذ فإن ذلك سيعني تحيزا ضد قضيتهم، الفلم فاز فعلا بجائزة أحسن ممثل وقد وجدها الممثل فرصة ليلقي بخطبة يقول فيها لمن صوّت ضد قانون إقرار زواج الشواذ في إحدى الولايات:”عار عليكم! سينظر لكم أحفادكم ذات يوم بسخرية!!”..وسط تصفيق حاد من علية القوم من النجوم الذين يعدون مثلا أعلى هنا بكل المقاييس.
بل إن الأمر وصل – وفي حادثتين منفصلتين على الأقل – إلى قيام المتظاهرين الشواذ بمحاصرة كنيسة في بوسطون تجرأت على عقد مؤتمر استضافت فيه بعض “الشواذ سابقا”.. أي أولئك الذين تخلصوا من شذوذهم، الحصار استمر لساعات وعلقت فيه لافتات في منتهى البذاءة ضد الكنيسة، وحملت التوابيت على أبواب الكنيسة في تهديد مبطن.. كل ذلك لأن الكنيسة تجرأت على استضافة” شاذين متعافين “والاحتفاء بهم !
“الناشطون الشواذ” هؤلاء تحولوا فعلا وبلا أدنى مبالغة إلى جماعة ضغط (لوبي) تمارس ضغوطها على رجال الإعلام والفكر والاقتصاد والسياسة والدين، بالضبط كما يفعل اللوبي الصهيوني، وقد تمكنوا فعلا من جني ثمار هذا الضغط في العقدين الأخيرين، بعد أن مروا بنكسة عابرة إبان ظهور الأيدز…
جمعيات حقوق الشواذ (المثليين بلغتهم الخاصة) شكلت هذا اللوبي فعلا ( يعرف أحيانا بمافيا الشذوذ Gay mafia أو المافيا المخملية Velvet mafia) وكل من يجرؤ على فتح فمه ضدهم ولو بملاحظة عابرة سيتعرض للاتهام بالنازية(بأعتبار أن النازيين كانوا ضد الشواذ) وسط سيل من السباب والشتم التي لا يرغب بسماعها أي محترم (!).. بل إنه سيتعرض لعملية نبش في ماضيه الشخصي للبحث عن كل صغيرة وكبيرة مما يعتبرها المجتمع الغربي أمورا عادية لكنها ستصبح هنا أمورا مستهجنة ومعيبة..
إحدى جماعات المافيا هذه – على سبيل المثال- قامت بنشر قائمة على النت تضم أسماء وعناوين كل من تجرأ ووقع بالموافقة على قانون الزواج الذي يحافظ على تعريفه بصفته بين رجل وامرأة حصرا، القائمة ضمها موقع على النت خصص لهذا الهدف وعنوانه التحريضي “اعرف جارك”.. والمقصود أن يحاول كل الناشطين معرفة من وقع مع القانون ممن يسكنون قربهم ولغرض واضح : التحرش بهم، إزعاجهم .. بعبارة أخرى: إرهابهم..!
كيف وصلت الأمور إلى هنا؟ كيف انتقل الامر من مطالبة ببعض الحقوق في اوائل السبعينات من القرن الماضي وسط استهجان و مقاومة شديدة من المجتمع الى ان صار ما صاره اليوم من اخطبوط هائل الحجم يصول و يجول و يرهب كل من يتفوه بعبارة انتقاد للظاهرة ؟
شخصيا لا أستبعد إطلاقا وجود نوع من المؤامرة في ذلك أو على الاقل تواطؤ، لا أعني أن الموضوع مفتعل برمته، أو أنه هجين عن المنظومة الليبرالية التي تعتبر “الحرية الفردية “حجرها الأساسي.. لكن هذا التضخيم للأمر وتحويله إلى مادة يتناولها الإعلام والرأي العام والاستطلاعات له ما له..
ففي النهاية هذا موضوع “آخر” يمكن إلهاء الجماهير عبره عن المواضيع الأساسية، ومن مصلحة الملأ المسـتحوذ على الثـروات أن تسير مظاهرات ما يعرف “الفخر بالشــذوذ” “ gay pride ” والمطالبة بإقرار زواجهم ، فهذا أفضل بكثير من مظاهرات تطالب بالعدالة الاجتماعية “المتراجعة أكثر فأكثر” أو تطالب بالضمان الصحي للملايين الذين لا يملكون أي فرصة في الحصول عليه..ناهيك عن اي حركة تشكك في أساسات المجتمع الرأسمالي و نظمه..
مع هذا الدعم المفترض، فإن مافيا الشذوذ استخدمت في دعم نفوذها والترويج لمصالحها وغسل أدمغة الناس أكذوبتين أساسيتين ظلت تكررهما على أنهما حقيقتان لا جدال فيهما حتى تحول التشكيك فيها إلى جريمة ( كما التشكيك بأعداد ضحايا الهولوكوست مثلا)..
الأكذوبة الأولى تتعلق بنسبة هؤلاء في المجتمع، فقد كان لا بد لمافيا الشذوذ أن تضخم عدد المبتلين بالشذوذ الجنسي لكي تجعل منهم “أقلية” لها كيانها ومشاكلها وقضاياها ومظالمها.. بالضبط حاولت أن تستفيد من مبدأ التسامح tolerance الذي استثمر مع اليهود والسود.. ولذلك صارت تقول وتكرر إنهم يشكلون 10% من أي مجتمع، وفي هذا كذبة مزدوجة، ذلك أنها اعتمدت على تضخيم متعمد لنتائج دراسة كينزي في مطلع الخمسينات، والتي أثبتت لاحقا أنها كانت متحيزة تماما ومضخمة أصلا في استحصال النتائج فضلا عن أن نماذجه الإحصائية تم اختيارها مسبقا بحيث تصل لنتائج مزيفة (اختار السجناء مثلا ليمثلوا بنتائجهم المجتمع رغم أنه من المعروف تماما انتشار الظواهر الشاذة في السجون) وانتهى كينزي إلى نتيجة هي أن 4% من الذكور هم شاذون حصريا وأن عشرة بالمائة منهم يمرون بمرحلة في أعمارهم يكون لديهم فيه نشاط شاذ جنسيا.. لكن مافيا الشذوذ الإعلامية تحذف الـ 4% تماما وتركز على الـ10% باعتبارها أقلية مظلومة لها ثقلها السكاني والاجتماعي ولا ينبغي تجاهلها.. الجزء الثاني من الأكذوبة المزدوجة يتعلق بتعميم هذه العشرة بالمائة-على فرض صحتها- على كل المجتمعات وهكذا صار يقال ويكرر “إنهم يمثلون عشرة بالمائة من أي مجتمع !”.
والحقيقة التي كشفتها الكثير من الدراسات العلمية أن نسبة الشذوذ الجنسي لا تزيد عن الـ2% في أكثر الأرقام ارتفاعا، وأنها غالبا لا تزيد عن الـ 1% الا بقليل و أن نسبة السحاقيات أقل من ذلك بكثير.. لكن هذه الأرقام تضيع في بوق مافيا الشذوذ التي تتخذ من شعار مستشار هتلر “غوبلز” أسلوبا لها: “اكذب و اكذب حتى يصدقك الجميع!” ثم بعد ذلك تتهم من لا يصدقها او يجروء على قول شئ مختلف بأنه “نازي”..!
ولعل من أطرف ما عرض مؤخرا في الإعلام الأمريكي (دون أن يهتم أحد بمدلولاته العميقة) ما كشفته الإعلامية “تايرا بانكس” عن أن معظم ممثلي أفلام الجنس الشاذ هم من “أسوياء الميول” الذين عملوا أصلا في أفلام جنس عادية ثم انتقلوا الى أفلام الشذوذ التي يدفع لهم فيها ستة أضعاف الأجر! تايرا، تعاملت على طريقة الإعلام الأمريكي مع هذه الحقيقة فاستضافت ممثل يقول إنه “سوي” لكنه يمثل الشذوذ ( الظاهرة صار اسمها gay for pay “شاذ من أجل النقود”).. ولأن هذا الممثل متزوج ولديه أولاد فقد كانت الاسئلة من النوع الذي يثير الجمهور ويزيد فضوله.. لكن الأمر المهم الذي تم تجاهله هنا هو أن الـ 10 % المزعومة (بكل ما معروف عنها من فلتان وإباحية) عجزت عن توفير ممثلين شاذين فعلا وصارت تدفع أضعاف المبلغ لتستوردهم من الخانة الأخرى.. (الطبيعية)..الا يعني ذلك ان نسبتهم الحقيقة أقل من ذلك بكثير؟
الأكذوبة الثانية التي تزيد خطورة عن الأولى هي أن المبتلين بالشذوذ ولدوا هكذا.. أي إن حالتهم “طبيعية” وناتجة عن “جينات” حملت لهم شذوذهم !
والحقيقة أن هناك بعض الدراسات العلمية التي تذهب هذا المنحى في تفسير أصول ظاهرة الشذوذ ولكن الأمر غير محسوم لأن هناك دراسات أخرى ترجح أمر البيئة والظروف الاجتماعية في التنشئة وأخرى ترجح العوامل الكيميائية وأخرى ترجح التفاعل بين كل ذلك.. ( بل إن نفس النتائج التي دعمت التفسير الجيني للشذوذ وجدت من يقرؤها قراءة معاكسة، فقد اعتمدت الدراسة على التوائم المتماثلة ووجدت أنه إذا كان للشاذ أخ توءم فإن هناك احتمالية بنسبة 52% أن يكون هذا الشقيق شاذا أيضا.. اعتبرت هذه النتائج داعمة لنظرية الأصل الوراثي لظاهرة الشذوذ، لكن قراءة أخرى لنفس النتائج تقدم نظرة مغايرة، فتقول: لو أن الشذوذ كان محتما وراثيا لكان يجب أن تكون النسبة 100% ما دامت الدراسة تتحدث عن توائم متماثلة تماما!)..
الخطر في هذه النظرية ورواجها يتأتى من أنها تستلب من الفرد المبتلى بالشذوذ أي إحساس بالجدوى من مقاومة ابتلائه.. سيؤمن ببساطة أن هناك جينات غامضة تحكمت به قبل أن يولد وبالتالي لا معنى ولا جدوى في محاولة الإصلاح..
وحتى لو افترضنا جدلا أن الدراسات حسمت الأمر لصالح الوراثة (وهي بعيدة عن ذلك قطعا) فهل يعني ذلك أنه يجب التسليم بها؟ الدراسات التي تثبت أن الميل للعنف يمتلك جينات واستعدادات وراثية تمتلك مصداقية ووثوقا أكثر بكثير من تلك التي تدرس الشذوذ وترجعها للوراثة، ورغم ذلك فلا أحد يقول إنه يمكن لأصحاب الميول العنيفة أن يمارسوا ميولهم، على العكس، فهم عندما يفعلون يسجنون وربما يعدمون، رغم أن ميولهم لها أصول وراثية، فلم يكون الأمر مع الشذوذ الجنسي مختلفا؟
في نفس السياق، أخطر الأمراض وأشدها فتكا تمتلك في بعض الأحيان أسبابا وراثية، لكن لا أحد يقول إن علينا أن نستسلم للمرض ولا نحاربه ، على العكس: تنفق الأموال بسخاء على مراكز الأبحاث من أجل قهر المرض، لكن ليس الشذوذ، هذا إذا افترضنا أصلا أنه نتج عن سبب وراثي..
مافيا الشذوذ الجنسي لا تسمح أصلا بطرح احتمالات كهذه.. فقد سبق لها أن أقصت مجموعة أطباء نفسيين حاولوا إيجاد علاج للشذوذ الجنسي “reparative therapy” وهو العلاج الذي أنتج من يعرفون “بالشواذ سابقا ex-gays” لكن ذلك اعتبر من قبل المافيا إهانة لمجرد اعتبار الشذوذ مرضا ينبغي علاجه.. وهكذا تم وصم التجربة كلها بالدجل والشعوذة وأقصيت تماما من البحث العلمي ولم تنشر هذه البحوث في المجلات الأكاديمية المعروفة في مجال الطب النفسي..
شيء مماثل حدث مع بداية ظهور العلاج الجيني للأجنة التي تمتلك عيوبا وراثية، فقد دعا
أحد قادة الكنيسة إلى محاولة الكشف عن الأجنة البشرية المصابة بالشذوذ و علاجها من شذوذها (على فرض صحة النظرية مرة أخرى).. عندها قامت المافيا بإرهابه واتهامه بمحاولة إبادة الشواذ وتطهيرهم عرقيا و اعتبرت كنيسته من “بقايا النازية” وانتهى الأمر بتراجعه عن دعواه.. ويبقى التراجع أقل خطورة من سماح بعض الكنائس بفتح أبوابها واحتضانها الشواذ و الترحيب بهم عبر لافتات على ابواب الكنيسة كما هو شائع في الكثير من الكنائس..
لكن الضغط الذي تمارسه المافيا لم يقتصر فقط على رجال الدين أو العلم أو الإعلام، بل تعداهم الى رجال التشريع والسياسة، فالإقرار الأخير لزواج الشواذ الذي صوت عليه في الهيئة التشريعية في ولاية فرمونت (وليس عبر التصويت المباشر للسكان) رُوِج له أصلا من قبل مافيا الشذوذ عبر استغلال الكساد الاقتصادي، وحقيقة فإن ولاية فرمونت هي من أفقر الولايات أصلا .. الدراسات المدعومة من قبل المافيا زينت أمر الإقرار قبل حدوث الإقرار: فتمرير المشروع سيضيف للولاية 30 مليون دولار على الأقل بالإضافة إلى 400 فرصة عمل جديدة.. بالإضافة إلى كل الاحتمالات المفتوحة لتنشيط السياحة حيث سيأتي الشواذ من كل الولايات المتحدة أو على الأقل من ساحلها الشرقي ليعقدوا قِرانهم في فرمونت التي كانت مهجورة حتى لحظتها..
هكذا تتنوع أساليب المافيا بين الترغيب والترهيب وغسل الأدمغة إعلاميا والنتيجة واحدة: تمييع الحدود بين ما هو طبيعي وشاذ، والتعود على الشذوذ دون أي تحسس منه حتى يصير طبيعيا بالتدريج..
“الخروج من الخزانة” ” getting out of the closet” هو مصطلح المافيا المفضل للتعبير عن إعلان الفرد ميوله الشاذة والخروج بها من السرية إلى العلن، أي إنه كان في “الخزانة” بمشاعره وممارساته السرية، ثم خرج إلى العلن “من الخزانة..”
و الذي حدث مع مافيا الشذوذ الجنسي في أمريكا أنها لم تكتف بالخروج من الخزانة، بل صارت تحاول وضع المجتمع كله في الخزانة !..
و لأن أمريكا بالنسبة للكثيرين هي العالم كله، فإن العالم كله يبدو أنه برسم الوضع في هذه الخزانة..