1- --الحلقة الاولى من سلسلة حكمة واثر العبادات على النفس والسلوك -1--
العبادات جمع عبادة والعبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبد،اي ذُلل للسير فيه ، وبعير معبد، أي: مذلل للركوب والاحمال، ويُقال عبد مملوك، اي من كان ارادته وقراره مرهونا بطاعة غيره. وفي الشرع تعني: التذلل لله تعالى بتعظيمه ومحبتة ، والخضوع له بالعبادة ومطلق الطاعة ، والانقياد لامره والانصياع لنهيه والتسليم لحكمة . و واقعها انها عبارة عن كل ما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف والانقياد والتسليم لحكمه تعالى . قال سبحانه :- ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65-النساء).
والعبادة في الإسلام مفهوم واسع وشامل، و لا يقتصر فقط على إقامة أركان الإسلام الخمسة الأساسية بالإضافة إلى النوافل،كما يتصور البعض، بل يتسع هذا المفهوم ليشمل كل تصرفات الإنسان في الحياة. فهي اذا اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
والعبادة هي الغاية التي خلق الله لأجلها الخلق أجمعين، بل إن المخلوقين أنفسهم سموا عباداً؛ لأن الغاية من وجودهم عبادة خالقهم ومعبودهم، وجميع شرائع الإسلام وأحكامه تسمى عبادة؛ لأن العباد يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى بطاعة امره واجتناب نهيه، وهي المنجية لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وللعبادة حتى تحقق على الوجه المطلوب أركان ثلاث : المحبة، والرجاء، والخوف، فلا بدّ للعابد أن يحب الله، فمن لم يحب الله فهو كافر، والعياذ بالله ونسأل الله العافية. والعابد يرجوا من ربه ما وعده من حسن مآب محسنا ظنه بالله عز وجل، وكذلك لا بد له من مخافة ربه فيجتنب العصيان خو فا من سوء العاقبة والعذاب الذي توعد الله به العصاة والمارقين الرافضين لدينه الذي ارتضاه منهجا للعالمين ، وبه وبتشريعاته يحققون الغاية التي من اجلها خلق الله الخلائق ،وعلى هذا الاساس يبني المسلم المستسلم المنقاد لله تعالى حضارته في الارض التي استخلفه ربه بعماراتها ، قال الله تعالى :- ( اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ۗ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)الشورى
وقال الالوسي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى :-(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ ) اي : " استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع، وكسر الهوى، وتزكية النفس، وتصفية القلب، وجلاء الروح، فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ في الدنيا جنات المعارف، وطيب الأنس في الخلوة في روضات الجنة، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب مراتبِهم في القربات وعلى قدر هِمَمهم" .
وقد حصر الله تعالى الغاية من خلق الانس والجن بعبادته حيث قال سبحانه :- { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].ولأجل تحقيق ذلك فقد جعل الله تعالى العبادة غريزة في فطرة الخلق ، فمن لم يعبد الله تعالى يكون قد حاد عن جادة الحق والصواب و انحرف عن هدى الفطرة وشوه طبع الغريزة التي غرزت في نفسه، فلذلك وصفهم تعالى ذكره وتوعدهم فقال :- ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22السجدة).
وقال سبحانه عن حرمانه لهم من طهارة النفوس والقلوب بالعبادة الصحيح الحقة المستحقة عليهم لربهم :-((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ )[المائدة: من الاية-41] .
اما من عبد الله تعالى من خلقه الله وأحسنوا عبادته، واخلصوا الطاعة والانقياد له سبحانه فقال عنهم الله تعالى واصفًا حالهم:- (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:73]. .. وفي قوله تعالى :- وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108الانبياء) وفي قوله تعالى ( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) أي : إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه واله وسلم لبلاغا : اي بلوغ منتهى ما فيه المنفعة والكفاية ويحقق المصالح لقوم عابدين،في دنياهم وأُخراهم ، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان والطاغوت وهوى و شهوات أنفسهم .
ويتضح لنا مما سبق انه مما لا شك فيه أن للعبادة أثرًا عظيمًا على المسلم في تقوية إيمانه، وشحذِ عزيمتِه، وإعلاء همَّته، وتربيته التربية الربانية الحقة، إلى جانب أنها تُزكي في العبد ملَكة المراقبة لربه في السر والعلن فتورثه التقوى ، وتُرقِّيه إلى درجة المشاهَدة والإحسان، فيَعبُد الله عز وجل كأنه يراه . و الإحسان في الاسلام مرتبة عالية من مراتب الدين الثلاثة، بعد الإسلام والإيمان. فهو يعني عبادة الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فقد ورد في السنة قول النبي - صلى الله عليه واله وسلم- في تعريف الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «رواه مسلم وابن ماجه». و سنبدأ حديثنا في الحلقة المقبلة ان شاء الله عن المعاني التربوية في عبادة الصيام كونه اظلنا شهره الكريم .
فالى اللقاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في الثلاثاء 5 مارس 2024 - 6:37 عدل 6 مرات