6- الحلقة السادسة من سلسلة:- حكمة واثر العبادة التربوي على النفس والسلوك
أ- من حِكَم الصيام...
ما زال حديثنا متعلق برمضان والحِكَم من فرضية صيامه واثرها التربوي على النفس والسلوك ،فقد ذكر الله سبحانه و تعالى الحكمة من مشروعية الصيام وفرضِه علينا في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فالصيام وسيلة لتحقيق التقوى، والتقوى هي فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه،حُبا لله وطاعةً له وخوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه . فالصيام من أعظم واهم الأسباب التي تعين العبد على القيام بأوامر الدين،وتورثه مراقبة الله تعالى في سره وعلنه. فالصوم جُنَّة، بمعنى انه سد مانع وواق للانسان من الوقوع في المعاصي وارتكاب الفواحش من الافعال والاقوال, يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم :- (“الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم”) رواه البخاري ومسلم.
ومن حكم الصيام العظيمة انه علاقة سرية خاصة بين العبد الطائع المترقب لمرضات ربه وبين ربه المطلع على خائنة الأعين وما تُخفي الصدور،
فيمتنع عن المباحات من مقومات واسباب استمرار حياته من شهوة الطعام والشراب ، وعن شهوة الفرج سبب استمرار نوعه وجنسه في الوجود ، فمن باب اولى ان يورثه ذلك الامتناع عن كل محرم من فعل او قول ، قربة لله تعالى وطلبا لمرضاته ، وليست هناك قربات لغير الله تعالى من هذا النوع والعمل ، وهذا الاحساس والشعور هو الذي يولد التقوى بلا شك. فلذلك كان الصوم علاقة خاصة بين العبد وربه فقد قال النبي صلى الله عليه واله وسلم:- (“كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”) رواه البخاري ومسلم.
ومن حكم الصيام العظيمة أنه تخليص للإنسان من رِق الشهوات والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم ، هذا جهاد شاق يُعوِّد الصبر والتحمل، ويُعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، فيقوي عندالانسان ارادتي الرفض ،والقبول، حتى لما تطلبه النفس وتشتهيه ، فمن باب اولى ان ترفض لله كل امروطلب من غيره في معصيته ، وتقبل ما كان فقط في مرضاته سبحانه . وبذلك يُعد الصوم الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها ومرها وسائر تقلباتها من سهلها وحَزنها، ليجعل منه انساناً متكاملاً في عقله ونفسه وجسمه، يستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه وامته الى مراقي الفلاح بنجاح و عن جدارة واقتدار. ولما كان الصوم مانعا وجُنة واقية للنفس من اهواء النفس ، فقد شرعه الله تعالى على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- علاجًا لقوة الشهوة لمن لا يستطيع الزواج، ففي الحديث:- ( “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء” ) رواه البخاري ومسلم. ومعنى وجاء أي قاطع مانع للشهوة ، كونه يطفيء جذوة اشتعالها بانشغال النفس بالصبر والتفكر في مراقبة مرضاة ربه.
وفي الخلاصة نقول ان الحكمة العامة لتشريع العبادات على وجه العموم والصيام على وجه الخصوص ، هي ربط المخلوق بالخالق، وبناء صلة الطهارة والنقاء والصفاء والاخلاص بين العبد وربه ، وبذلك يتم إعداد الإنسان لتحقيق واستحقاق استخلافه في الأرض، بالفكر المستنير المنبثق من وحي النور الرباني ، والسمو بضبط السلوك والتعامل باحكام التشريع الالهي، فتسمو الأخلاق الشخصية لافراد المجتمع، وترتقي القيم الايمانية الانسانية في الامة ، فتتأهل لتكون وتعود كما كانت امة قيمة على سلوك افرادها، وتقيم سلوك الامم الاخرى ، بقيامها بواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي به تستقيم حياة البشرية - (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110ال عمران)
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر و الذي يشمل المحاسبة والمساءلة والتوجيه والنصح فريضة شرعية على الامة لقوله تعالى:- ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [ آل عمران: 104].
وقد حذر الله تعالى من سوء عاقبة ومصير من ترك وأغفل هذا الواجب العظيم الذي به تستقيم الحياة، فقال جل جلاله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79ال عمران).
نسأل الله تعالى ان يعز امتنا و ان يمكن ابنائها من اقامة الامر بالمعروف وازالة المنكرات في حياة البشرية جمعاء، اللهم نصرك وتثبيتك للمجاهدين في بيت المقدس واكنافه الذين يقاتلون من لعنت يا رب العالمين...
والى لقاء اخر من هذه السلسلة، استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-03-10, 2:09 am عدل 1 مرات