أولاً: حتى الآن، نحن أمام عناوين، وشعارات غائمة، فما يتعلق بالتاريخ (جماعة بريت شالوم، 1925)، حيث نشير إلى أن هذه المجموعة، كانت غير مؤثرة، تمتلك طابعاً فردياً، لم يتحول إلى ظاهرة صهيونية كبرى، أو لم تصبح تياراً رئيساً في الحركة الصهيونية الصاعدة بأفكار وعد بلفور، الذي اعتبر السكان الأصليين، مجرد أقليات، وهو ما كان يخالف الحقيقة والواقع. لقد كانت الحركة الصهيونية آنذاك (1925)، مرتبكة وخائفة من عدم تحقيق مشروعها وهو (إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين)، لهذا طرحت فكرة الدولة ثنائية القومية بشكل غائم وملتبس، وتجاهلت أنها حركة استيطانية استعمارية جاءت لتحتل أرض الغير. أما (بن غوريون الثلاثينات)، فهو غير ابن غوريون عام 1948، مخطط وراعي (الخطة دالِت الشهيرة) لارتكاب مذابح ضد الفلسطينيين من أجل تهجيرهم. وهكذا كانت الدعوة إلى التوازن بين العرب واليهود، التي يستشهد بها على أنها فكرة سلامية، لم تكن تحمل سوى معنى (التطهير العرقي والتهجير) من أجل إقامة هذا التوازن الوهمي.
ثانياً: أما الأفكار التي أدلى بها سراً بالتأكيد بعض أنصار (ثقافة السلام) من الفلسطينيين مع الحركة الصهيونية في الثلاثينات، فهي مجرد أفكار سرية الطابع، لم يكن يجرؤ أصحابها على الجهر بها أمام الرأي العام الفلسطيني المقاوم، ولم تكتسب أية شرعية حتى في مستوى النخب الثقافية الفلسطينية، وبالتالي، فهي مجرد (رسائل فردية) في أرشيف الصراع، أي لا قيمة لها.
ثالثاً: منذ منتصف الثمانينات، ظهرت حركة (تجديد الصهيونية)، المتمثلة بما أطلق عليه لقب (المؤرخين الإسرائيليين الجدد)، الذين رفعوا شعار فلسفة (المابعدية)، أي (ما بعد الصهيونية)، لكن (الما بعد) يتلازم مع (الما قبل)، أي نكبة فلسطين 1948. هؤلاء المؤرخون هم أبناء دولة إسرائيل الصهيونية، عملوا في مؤسساتها، بل دافعوا عن الأفكار الصهيونية، وهم بطبيعة الحال، لا يمكن أن يطالبوا بتفكيك دولتهم العنصرية، وإنما هم يطالبون بتفكيك بعض مظاهر العنصرية في الدولة، لكي تتلاءم مع فكرة (الديموقراطية!!) في المفهوم الإسرائيلي. لذلك نقرأ لهم بعض الكتب عن مأساة 1948، وعن التطهير العرقي في (الخطة دالت)، وعن اكتشاف (مذابح)، ارتكبت ضد الفلسطينيين. هذا الاعتراف المتأخر لم تصحبه أية خطوة من قبل دولة إسرائيل، فهو اعتراف أفراد وليس اعتراف دولة مارست التطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، وحروب الإبادة، وما تزال. موقف (المؤرخين الجدد) الذين يرغبون في تجديد الصهيونية من أجل إعادة تجديد إسرائيل، وتحويلها إلى دولة طبيعية، يذكرني بموقف بعض المثقفين الفرنسيين تجاه احتلال فرنسا للجزائر، حيث طالب المثقفون الفرنسيون بضرورة رفع الظلم والاضطهاد والتعذيب الذي كان يمارسه جيش الاحتلال الفرنسي، لكنهم أبداً لم يتماهوا مع مطلب الاستقلال الجزائري، وخروج قوات الاحتلال. فالمؤرخون الإسرائيليون عندما ينتقدون مظالم دولتهم، أو عندما يطالب بعضهم، بدولة ثنائية القومية، يتجاهل مسألة جوهرية هي أنه لا بد من تفكيك دولة إسرائيل، ليس لأنها عنصرية فحسب، بل لأنها نتاج استعماري استيطاني، فهي دولة غير طبيعية في المنطقة. أما سياسة (عفى الله عما مضى)، فهي غير قابلة للتحقق، بل مستحيلة، لأن الضحايا وأحفادهم ما زالوا في مخيمات المنفى، فالقفز إلى فلسفة (الما بعد)، يقتضي التلازم مع كشف وإصلاح (الما قبل).
رابعاً: لم تنته الصهيونية ولم تمت كما يزعم (ميرون بنفنيستي)، رغم رغبته الجياشة في أن يغفر له الفلسطينيون ماضيه الصهيوني، وأن يمنحوه عضوية (نادي الكنعانيين الجدد). وإذا كان حل الدولتين، غير قابل للتطبيق، انطلاقاً من واقع المستوطنات الاستعماري، فكيف يمكن أن ينجح الحلّ الطوباوي (دولة ثنائية القومية)، إلاَّ باقتناع دولة إسرائيل بتفكيك نفسها على طريقة جنوب افريقيا. وسيكون الواقع هو نفس الواقع حتى في ظل دولة ثنائية القومية، بل سيكون واقعاً صعباً ومعقداً. كل اعترافات (ميرون بنفنيستي) تدل على أنه رجل أُصيب بنوبة اعتراف متأخرة هي تعبير عن مأساة شخصية أكثر مما هي توبة إسرائيلية شعبية أو رسمية. وخلاصة ما قاله هو (أن تتنازل الأُمّتان عن مطالبتهما بالسيادة الكاملة)، وأن يتشاركا في (إدارة الصراع)، حتى في ظل (الدولة ثنائية القومية) الافتراضية.